عبد الفتاح المطلبي :
أطلقتُ عينيَّ تجوسان المكان، تتفحصان كل نأمة، رئتاي تتنفسان هواءً خانقاً، تزوغ الرؤية في عيني وتهرب الفكرة من رأسي وقد صار كخزانةٍ ذاتِ طبقاتٍ فارغةٍ واحدةٍ فوق الأخرى لا تحوي شيئا، الحيرةُ هي كل ما كان يجولُ فيها ، شيءٌ ما من وراء فراغ رأسي، يُحرّضُني على البحث والتقصي وعدم الركون إلى هذا الفراغ،يتقلّبُ ببطئٍ شديدٍ يمينا وشمالا ككرة ذات جلدٍ رقيق ،جلدُ فقاعةٍ وهكذا وجدت أن علي أن أعرف بشكلٍ واضحٍ وضوحَ ما أرى من خلال الزجاج الشفيف الذي يفصلني عن ذلك الجالسِ في الغرفةِ الزجاجية، تتكدس أمامه ملفاتنا، تتوتر جلودنا الرقيقة من عوز في تكوينها وليس من رفاه باذخ، هذا الرجل الذي لا زال منذ الصباح يعذبنا بصقيعه المنثال من عينين باردتين كثقبين لا معنى لهما،، ربما كان برودُهُ مستمداً من البرد الذي يبثه حوله، جهاز التكييف الأبكم الواقف مثل حارسٍ سلجوقي قرب الزجاجة الشفافة الموصدة ِبوجوهنا و المحروسةِ بأسباب ذلك الحارس المتسلح ببرودته الصقيعية ،يتملق ذلك الرجل بوميضه الخافت بين الحين والحين، ذالك الرجل الذي يبدو كإله محنطٍ في علبةٍ زجاجيةٍ، كان قد اختزلَنا جميعا بملفات اختلفت بحجومها وألوانها حسب كم العذاب الذي يحمله أصحابها،لم يكن عجيبا بعد ذلك أن تتجمع نتف من غيوم تفكيري لتدور في رأسيَ الفارغ فاقدةً قدرة القفز منه، رأسي الذي كان كالكرة كما رؤوس الآخرين الجالسين قربي وأمامي وخلفي وأولئك الذين يسيرون بكسلٍ في ممرات المشفى و كذلك رأس هذا الرجل البارد يتطاول أمامه عمود ملفاتنا فيحجب جُزءً من أنفه الطويل المعقوف بلباقةٍ هندسيةٍ تثيرُ زوبعةً من الدهشةِ الداهمةِ لسكوني المصطنع رغم ذلك الفوران والأزيز في رأسي ، ذلك الرجل البارد هو سبب فوران رأسي بالرغم من أن رأسَه مثلنا جميعا كالكرة بيدَ أنّ أنفَهُ خرج كثيرا عن التكوين فتميز عنا نحن ضائعي الأنوف بحدود كرات رؤوسنا وأعلن تمردا من نوع ما، مما سبب تراجعي عن قناعتي بكون رأسه مثل رؤوسنا، رؤوسنا كفقاعات مهتزة على أعناقنا معرضة لشتى صنوف الهزات، فقاعاتٌ لا بد لها أن تنفجر في أية لحظة وعندما توصلت إلى مغزى تصوري، هدأ قليل من الفوران وتماسك رأسي ولم يعد يهددني بالإنفجارو قلت في سري أن كثيراً من الفقاعات تقاوم انفجارَها بالحفاظِ على حجومها كما هي، جعلني ذلك أكثر طمأنينة مع علمي الأكيد بأن رأسي لا يمارس زهوا بل يكابد ألما وكنت غيرَ منتبهٍ إلى تلك المخاتلة المعنوية فيما يخص الفارق بين الزهو والألم فهما في لحظة ما يتماثلان إذ أنّ كليهما يؤول إلى انفجار، إذن ما العمل وهذا رأسي قد صار كفقاعة محشوة بألم مالح، لا زلت أجلس أمام هذا الكائن البارد تفصلني عنه تلك الزجاجة الشفافة لدرجة الخديعة والخبث وهي تبدو كذلك لاكتشافي توا أنها تغري على تجاهل وجودها كزجاجة فاصلة بيني وبين هذا الذي ذهبت ملفاتنا بأغلب أنفه المعقوف وجزءٍ من جبهته الضيقة فبدا رأسُه مرة أخرى كفقاعة مميزة تبث موجات مربكة نحوعيوننا التي بدت كفقاقيع صغيرة تلتصق بفقاقيع رؤوسنا، في البداية أردت أن أتلمس يقينا فيما يخص الفراغ الذي حولي وكأنني جزء من لوحة أُقحمتُ في مساحتها إقحاما فشعرتُ أنني أنحشرُ بين طبقاتِ فراغي حشرا وبعد انشغالي بمحاولاتي البائسةلاستيضاح أسباب وقوعي في هذا الموقع من اللوحة الماثلة في رأسي الذي هو كالفقاعة وأثناء ذلك وبكثير من التفاهة استغرقتُ في النوم على احدى المصاطب التي تجعل مؤخرتك مخططة عرضيا خاصة إذا كنت ممن يتعاطون الأسبرين ومسيلات الدم الأخرى ذات الألوان والأسماء الكثيرة وهكذا رأيتني في عالم النوم وقد تحققت تصوراتي في اليقضة، نعم قلت في نفسي ها نحن مجرد فقاعات نطفو في حوض مليء بالماء نسبح فيه فرادى وجماعات حجومنا مختلفة، كأجيال من الفقاعات، تصفعنا تيارات الهواء فنتقلب في كل اتجاه تتوالى بيننا الأنفجارات بعضنا ينفجر ويفجر غيره، المنفجرون من كل الأحجام وهل هناك حرجا في انفجار فقاعات؟ لكنني وأنا فقاعة لاحظت أن الكبار ينفجرون وهم في حالة من الزهو العارم، علمت ذلك من الألوان القزحية على أسطح فقاعاتهم بعضها ينفجر بسرعة فائقة وأعني تلك الملطومة بتيار الهواء الشديد الآتي من مكان ما خارج تصور الفقاعة بعضنا يلوذ بخبث خلف التعرجات الكثيرة في جدران الحوض لكنني لا أعتقد بأنها كانت تخطط لانتظار فرصة نجاة وهل يعقل ذلك في حياة الفقاعة، انتبهت إلى حجمي مبكرا رغم أنني أرى غيري قد اقترب من نقطة انفجاره لاستبداد الزهو به وإغراء الحجم لكنني لا أستطيع الأقتراب منه وتحذيره خوفا من انفجاره علي مسببا انفجاري أيضا وتلك برأيي معضلة كبيرة، أن ترى غيرك ينفجر ولا تسنطيع انقاذه ثم يختفي ولا يترك أثرا، تنشغل بعد ذلك بلملة أشلاءه التي انتشرت على مساحة واسعة وكان هذا آخر عمل يقوم به كائن الإنفجار المنتشر وهكذا بعد مرور الصدمة تنشغل بالأنتباه إلى نفسك فتبحث جاهدا عن مكان تلوذ به، القليل منا من يلوذ بالتعرجات أو يلوذ بغيره من الفقاعات الكبيرة و الغالب أنه سيحافظ على بهجته وزهوه المشوب بعدم الاستقرار لحين انفجار الفقاعة التي يلوذ بها، عند ذلك ربما ستفجره معها وينتهي الأمر لكن الأكيد أن لا معنى لعمر الفقاعة مهما طال وعندما رأيت الصورة واضحة في نومي واستوعبت المغزى من ذلك لكزني أحدهم قائلا: انهض لقد نادى البوابُ باسمك لكن الموظف ذا الأنف المعقوف لم ينتظر وألقى بملفك جانبا عند ذلك شعرت بأن رأسي يتوتر… تمتمت، آه لقد أتت لحظة انفجاري، نقرت بأصابعي الواهنة على الزجاج الشفيف، وأثناء دخولي صرخ في وجهي أين كنت؟ ها، إذهب تعال غدا، في هذه الأثناء كان جلد فقاعة رأسي قد بدأ بالتمدد دون شعور إلا بألم مالح مريع تلفت لعلي أجد ملاذا ألوذ به من صفع ريح هذا الكائن البارد فلم أجد فانفجرت ولم أعد شيئا وانتبهت إلى أن عيني كانتا فقاعتين صغيرتين تلوذان بمحجريهما وكنت ممددا على سرير معدني بارد تحف بي أجهزة وأسلاك وأنابيب من البلاستك وأمامي اسطوانة تتقافز فيها فقاعات مع كل شهيق وزفير سمعتها تكركر ضاحكة وغلبني النوم مرة أخرى وعدت فقاعة في حوض كبير لا ملاذ فيه من صفع الريح.
—