ترك الكاتب والمخرج المسرحي الراحل “جبار صبري العطية إرثا مسرحيا تجاوز السبعين عملاً بين التأليف و الإعداد والإخراج وكتابة البحوث التوثيقية عن المسرح وفن الأوبريت في العراق والبصرة بالذات ، وقد ارتقى لأول مرة خشبة المسرح حينما كان تلميذاً في الدراسة الابتدائية عام 1950، كما مثّل وهو في الدراسة الإعدادية في مسرحيتي”أهل الكهف – لتوفيق الحكيم” و” عرس الدم- للوركا”، ومثل معه زميله المرحوم الممثل “طعمة التميمي” في المسرحية الأولى ، وأخرجهما أستاذنا الفاضل القاص الرائد “محمود عبد الوهاب” بين عامي 1956 – 1957 . وللراحل العطية سبق الاهتمام بمسرح الطفل، إذ كتب واخرج وقدم أول مسرحية خاصة بمسرح الطفل في البصرة عام 1961 . وقد جاء في وصيته التي أملاها على الأستاذ المسرحي هلال العطية ليلة وفاته في المستشفى التعليمي بالبصرة بأن:” يُصنع تابوته من أخشاب المسرح و كفنه من ستارته، و يُخصص له مقعد خاص به ، في كل عرض مسرحي يقدّم بالمدينة”. وقد تميز العطية بوفائه للمبدعين البصريين الأحياء منهم أو الذين ارتحلوا قبله ، ووثّق حياتهم وأعمالهم الأدبية والفنية في أعماله المسرحية ، خاصة الموندرامية . وتعامل الراحل العطية في موندراماته بصفتها فناً جمالياً يعنى بما هو إنساني وشاهد على مرحلة التسعينيات ، وما رافقها من حصار قاسٍ خلف إنهيارات جمة في العلاقات الاجتماعية العراقية . وقد تعامل “العطية” في موندراماته المتعددة بعيداًً عما هو مباشر أو زائل ، متناولاً محن الإنسان وهمومه الحياتية اليومية والروحية، ملامساً العلاقات الاجتماعية من دون أن يُضيّقَ بها توجهه المسرحي- الفني، وانتقل في موندراماته الأخيرة من تقديم الحلول لمشاكل اجتماعية وسياسية بمباشرةٍ كان قد اعتمدها سابقا في توجهات يمكن أن تسمى “أيدلوجية “، ولم يكن هذا الانتقال يسيراً، و جاء بعد دأب متواصل في إعادة كتابة نصوصه المسرحية مراتٍ عدة ، مقتنعاً أن ذلك التوجه الفني السابق ليس مناسباً حالياً، ولا علاقة له بما هو حاصل في تطورات المسرح الفني المعاصر و وظيفته الجمالية و الاجتماعية.
لقد فَعّل” العطية” في ” موندراماته” ، مخاطبة الآخر، وليس الآخر نقيض الذات أو الأنا المضخمة التي تغدو بمثابة التجسيد لكل ما هو غير مألوف بالنسبة للذات الإنسانية، بل الآخر بصفته المصدر الحقيقي للأنا التي لا تستطيع أن تتخلق أو تتعايش خارجياً ضمن حدودها وانعزاليتها المغلقة إنسانياً أو اجتماعياً من دون أن تتماس مع الآخر، وتدين القوى التي تسعى لأن تشوه طهارة ذاته ونقائها. والآخر الذي كتب له وعنه “جبار العطية” وأدخله بصفته جزءاً من كيانه الشخصي بنزوع أخلاقي رفيع ليس (جحيماً) ، بل قدمته موندراما “تحت المطر”(*) خلال” 12 ” مشهداً، بحميمية ومعه مدينته التي يسكنها ويعيش فيها ، وله فيها علاقات لا حدود لها، وتدمرها نتائج حرب الثماني سنوات العبثية وما رافقها من قصف مدفعي يومي، وتواصل ديمومة انتهاكها ومكوناتها عبر التحكم والتعسف السلطوي ، ويتجلى ماضيها الغني الإنساني عبر شواخصها الدالة عليها، وتختلط زققة “طائر الحب” في الموندراما بأصوات الانفجارات وانين الضحايا وقتلى الحروب- المتواصلة، أو المغدورين في أمكنة وأزمنة أخرى، وتعلقهم بين ثنائيات: الحياة /الموت ، الحب /الكراهية ، المقت/التسامح ، الثأر/ الغفران، الأمل/ اليأس، النزوح/ البقاء. ويبرز النزوع الطبيعي لتشبث الضحايا بالحياة ، خلال أجواء الحرب وكآبتها بأصوات القذائف والأجواء الموحشة المحيطة بالمسكن وساكنه الوحيد ، ويظل متوحداً مع ذاكرته المتوقدة ووجوده المادي المهدد بالفناء في أية لحظة قد تسقط فيها قذيفة أو صاروخ على مسكنه ؛ ويستحضر رجل الموندراما/ وهو في” الخمسين من عمره أو اكثر بقليل”- ص 9 – ، تلك الحياة المدينية والاطمئنان والدعة والسلام التي كانت تتميز بها مدينته ، من خلال طائر الحب ، المحبوس في قفصه و المرعوب، بافتراس الموت له في اي لحظة. ويُلاحظ أن البطل في مونودرامات العطية المتعددة والتي كتبها و أخرجها في العقد التسعيني، قد تجاوز مرحلة الشباب العاصف ومفعماً بالصبر والتأني والحكمة ودقة التصورات والرؤى العامة المتسعة، ولا تشغله المطامع الخاصة أو المنافع الذاتية ويتحرك على وفق قناعاته الشخصية- الاجتماعية ويواجه امتحان الخيارات الإنسانية بتوتر ؛ خاصة في زمن البؤس التسعيني المغلف برثاثة الحياة اليومية . وتغدو ذاكرة البطل، خلال منولوجاته الخاصة ولغته الرمزية الدالة ،والمفتوحة على الواقع الدموي الذي ميز عقد الثمانينيات ووقائع الحروب البربرية التي خضع لها الإنسان العراقي . و يستحضر/ الرجل/ الوقائع الدموية التي هرست كل الأحلام بعجلاتها المسننة وسط أصوات المدافع وراجمات الصواريخ والدبابات ، وهي تجوب المناطق السكنية التي تزعق في شوارعها سيارات الإسعاف لتلتقط ما قد بقي من بقايا الجثث في المدينة- البصرة تحديدا- خلال نزوح سكانها عام 1987 حينما بات القتال يجري على أقرب القصبات لمركزها. وفي موندراما” تحت المطر ” يحاور الرجل/ وهو كاتب مسرحي( ص11)، عائلته التي ارتحلت بعد سقوط قذيفة على بيتها، وطائر الحب وهو في قفصه وترك دون طعام وماء(ص15 ) و يستعمل الهاتف، في محاولة منه لمعرفة مصائر أصدقائه ومعارفه من الكتاب والفنانين، ولا أحد يرد عليه ، ومع ذلك فهو يحاور ويسرد بصفاء كل ما يستطيع أو يرغب ، ويستعيد المدينة وبعض علاماتها الثقافية الدالة عليها ومنها: أستاذه في الصبا وصديقه في الكبر صاحب “القطار الصاعد إلى بغداد” ومحاضرته حول”الأساليب الحديثة في الرواية”(ص 29 ) والقاص الطباع صاحب”الندبة الزرقاء” (ص30 ) والشاعر”حارس فنار المدينة” الذي ينشغل بأعداد “الوليمة للزائر المجهول”(ص31) و صديقه القاص المبدع و”ساعاته كالخيول” وهي تجوب “مملكته السوداء” (ص32 )، ويستمتع /الرجل/ وهو في محنته بنثيث “أناشيد المطر” متطامنا مع الأضواء البعيدة المتوهجة لـ” شناشيل ابنة الجلبي”(ص34 )، ومعلمه في الصبا صاحب “مجرى الاوشال”(ص36 ) وجماعته المعنية بـ”كتابات مسرحية”(ص39 ) وعلامات ثقافية أخر عرفها وحاورها وقرأ لها و مثل معها وأخرج بعض مسرحياته بتعاونها معه، وأمكنة ذات نكهة محلية تاريخية فريدة تتميز بها مدينته، و يأسى لرفرفة طائر الحب المرعوب، ويستخدم الكاتب موسيقى للموندراما متداخلة مع زققة الطائر وأصوات انفلاقات القذائف للتعبير المجازي عن ثنائيات، الحرب/ السلام، الحب/ الكراهية ،الأمن/الفوضى،امتلاء المدينة/ وفراغها الموحش، النزوح/ البقاء. ويعلو صوت الرجل وهو يخاطب بكل ما في أعماقه من حنان وحب ووله، البيت/ الوطن ،المهدد/ المستباح، وبعد سماعه صوت انفجار قوي مدوي قريب منه يردد: ” ايها البيت المرسوم في حدقة العين.. الساكن في القلب..منك ابتدأ الحب.. وفيك آخر الحب..وبينهما يكبر العمر مزهوا بك “ص( 49 ). وأخيرا يفتح الرجل باب القفص لطائرهِ ، ويغادر الطائر قفصه ،ويظل يدور ويزقق بتواصلٍ وحنان داخل البيت المتهاوي طابقه الثاني بفعل قذيفة حرب سقطت عليه، دون أن يدنو/ الطائر/ من بابه الرئيس المشّرع تجاه الخارج،ويحضن الرجل طائر الحب الذي يواصل الزقزقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تحت المطر/ ثلاث مسرحيات- موندراما/ هي”تحت المطر/ليلة انتظار/ جياع ولكن” . إصدارات/ دائرة الشؤون الثقافية العامة- وزارة الثقافة- بغداد.
لقد فَعّل” العطية” في ” موندراماته” ، مخاطبة الآخر، وليس الآخر نقيض الذات أو الأنا المضخمة التي تغدو بمثابة التجسيد لكل ما هو غير مألوف بالنسبة للذات الإنسانية، بل الآخر بصفته المصدر الحقيقي للأنا التي لا تستطيع أن تتخلق أو تتعايش خارجياً ضمن حدودها وانعزاليتها المغلقة إنسانياً أو اجتماعياً من دون أن تتماس مع الآخر، وتدين القوى التي تسعى لأن تشوه طهارة ذاته ونقائها. والآخر الذي كتب له وعنه “جبار العطية” وأدخله بصفته جزءاً من كيانه الشخصي بنزوع أخلاقي رفيع ليس (جحيماً) ، بل قدمته موندراما “تحت المطر”(*) خلال” 12 ” مشهداً، بحميمية ومعه مدينته التي يسكنها ويعيش فيها ، وله فيها علاقات لا حدود لها، وتدمرها نتائج حرب الثماني سنوات العبثية وما رافقها من قصف مدفعي يومي، وتواصل ديمومة انتهاكها ومكوناتها عبر التحكم والتعسف السلطوي ، ويتجلى ماضيها الغني الإنساني عبر شواخصها الدالة عليها، وتختلط زققة “طائر الحب” في الموندراما بأصوات الانفجارات وانين الضحايا وقتلى الحروب- المتواصلة، أو المغدورين في أمكنة وأزمنة أخرى، وتعلقهم بين ثنائيات: الحياة /الموت ، الحب /الكراهية ، المقت/التسامح ، الثأر/ الغفران، الأمل/ اليأس، النزوح/ البقاء. ويبرز النزوع الطبيعي لتشبث الضحايا بالحياة ، خلال أجواء الحرب وكآبتها بأصوات القذائف والأجواء الموحشة المحيطة بالمسكن وساكنه الوحيد ، ويظل متوحداً مع ذاكرته المتوقدة ووجوده المادي المهدد بالفناء في أية لحظة قد تسقط فيها قذيفة أو صاروخ على مسكنه ؛ ويستحضر رجل الموندراما/ وهو في” الخمسين من عمره أو اكثر بقليل”- ص 9 – ، تلك الحياة المدينية والاطمئنان والدعة والسلام التي كانت تتميز بها مدينته ، من خلال طائر الحب ، المحبوس في قفصه و المرعوب، بافتراس الموت له في اي لحظة. ويُلاحظ أن البطل في مونودرامات العطية المتعددة والتي كتبها و أخرجها في العقد التسعيني، قد تجاوز مرحلة الشباب العاصف ومفعماً بالصبر والتأني والحكمة ودقة التصورات والرؤى العامة المتسعة، ولا تشغله المطامع الخاصة أو المنافع الذاتية ويتحرك على وفق قناعاته الشخصية- الاجتماعية ويواجه امتحان الخيارات الإنسانية بتوتر ؛ خاصة في زمن البؤس التسعيني المغلف برثاثة الحياة اليومية . وتغدو ذاكرة البطل، خلال منولوجاته الخاصة ولغته الرمزية الدالة ،والمفتوحة على الواقع الدموي الذي ميز عقد الثمانينيات ووقائع الحروب البربرية التي خضع لها الإنسان العراقي . و يستحضر/ الرجل/ الوقائع الدموية التي هرست كل الأحلام بعجلاتها المسننة وسط أصوات المدافع وراجمات الصواريخ والدبابات ، وهي تجوب المناطق السكنية التي تزعق في شوارعها سيارات الإسعاف لتلتقط ما قد بقي من بقايا الجثث في المدينة- البصرة تحديدا- خلال نزوح سكانها عام 1987 حينما بات القتال يجري على أقرب القصبات لمركزها. وفي موندراما” تحت المطر ” يحاور الرجل/ وهو كاتب مسرحي( ص11)، عائلته التي ارتحلت بعد سقوط قذيفة على بيتها، وطائر الحب وهو في قفصه وترك دون طعام وماء(ص15 ) و يستعمل الهاتف، في محاولة منه لمعرفة مصائر أصدقائه ومعارفه من الكتاب والفنانين، ولا أحد يرد عليه ، ومع ذلك فهو يحاور ويسرد بصفاء كل ما يستطيع أو يرغب ، ويستعيد المدينة وبعض علاماتها الثقافية الدالة عليها ومنها: أستاذه في الصبا وصديقه في الكبر صاحب “القطار الصاعد إلى بغداد” ومحاضرته حول”الأساليب الحديثة في الرواية”(ص 29 ) والقاص الطباع صاحب”الندبة الزرقاء” (ص30 ) والشاعر”حارس فنار المدينة” الذي ينشغل بأعداد “الوليمة للزائر المجهول”(ص31) و صديقه القاص المبدع و”ساعاته كالخيول” وهي تجوب “مملكته السوداء” (ص32 )، ويستمتع /الرجل/ وهو في محنته بنثيث “أناشيد المطر” متطامنا مع الأضواء البعيدة المتوهجة لـ” شناشيل ابنة الجلبي”(ص34 )، ومعلمه في الصبا صاحب “مجرى الاوشال”(ص36 ) وجماعته المعنية بـ”كتابات مسرحية”(ص39 ) وعلامات ثقافية أخر عرفها وحاورها وقرأ لها و مثل معها وأخرج بعض مسرحياته بتعاونها معه، وأمكنة ذات نكهة محلية تاريخية فريدة تتميز بها مدينته، و يأسى لرفرفة طائر الحب المرعوب، ويستخدم الكاتب موسيقى للموندراما متداخلة مع زققة الطائر وأصوات انفلاقات القذائف للتعبير المجازي عن ثنائيات، الحرب/ السلام، الحب/ الكراهية ،الأمن/الفوضى،امتلاء المدينة/ وفراغها الموحش، النزوح/ البقاء. ويعلو صوت الرجل وهو يخاطب بكل ما في أعماقه من حنان وحب ووله، البيت/ الوطن ،المهدد/ المستباح، وبعد سماعه صوت انفجار قوي مدوي قريب منه يردد: ” ايها البيت المرسوم في حدقة العين.. الساكن في القلب..منك ابتدأ الحب.. وفيك آخر الحب..وبينهما يكبر العمر مزهوا بك “ص( 49 ). وأخيرا يفتح الرجل باب القفص لطائرهِ ، ويغادر الطائر قفصه ،ويظل يدور ويزقق بتواصلٍ وحنان داخل البيت المتهاوي طابقه الثاني بفعل قذيفة حرب سقطت عليه، دون أن يدنو/ الطائر/ من بابه الرئيس المشّرع تجاه الخارج،ويحضن الرجل طائر الحب الذي يواصل الزقزقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تحت المطر/ ثلاث مسرحيات- موندراما/ هي”تحت المطر/ليلة انتظار/ جياع ولكن” . إصدارات/ دائرة الشؤون الثقافية العامة- وزارة الثقافة- بغداد.