لاشك في أن علاقة النص بالمتلقي من العلاقات المهمة التي طرحتها النظريات الأدبية والنقدية الحديثة على خارطة التداول النقدي في أكثر من محفل أو مؤتمر؛وهذه العلاقة،مرجعها الكثير من المتحمسين إلى سلطة النص، أو سلطة القارئ أو المتلقي؛ فكثير من المبدعين يتحمسون إلى النص بوصفه المدونة الأولى أو القطب الأول في نظرية التلقي، وإذا انعدم الأول فقد الآخر قيمته وأهميته، في حين أن البعض الآخر يتحمسون إلى المتلقي، لأن الرسالة الإبداعية موجهة إليه،ولولا وجوده وفاعليته لفقدت المدونة الإبداعية قيمتها؛ فهو الذي يحييها ويهبها الحياة من جديد؛ ومن هنا؛ اختلفت المنظورات وتعددت، بين مؤيد للنص وقيمته وسلطته المطلقة،وبين متحمس للقارئ أو المتلقي الذي تنعقد عليه الآمال في فك شفيرات النص؛ وعلاماته، وبؤره الدلالية؛ ليبث فيه نبض الحياة من جديد،ومن المعلوم أن الكثير من النظريات، والآراء الغريبة وقفت على قضية انفصال النص عن منتجه ومؤلفه بما أسموه(موت المؤلف)؛ للإعلاء من سلطة النص فوق قارئه ومبدعه في آن؛ وهذا يعني أن الكثير من الدراسات اتجهت إلى الشق الأول،والكثير من الدراسات اتجهت صوب الشق الثاني؛ ومازال الحماس يذهب إلى كلا الجانبين؛ لكن ما نود إضافته في هذه الرقعة القرائية أن للنص سلطته من جهة مدونته الإبداعية؛ أو وثيقته الإبداعية التي تمثل الطرف الأول في جمالية التلقي، إذا ما أهملنا المبدع أو المنتج، في حين يمكن اعتباره الطرف الثاني إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المؤلف، ليأتي المتلقي الطرف الأخير بعد الأول والثاني؛ لكن ما يهمنا نحن أيهما يملك السلطة الأقوى في هذه النظرية أو العامل المستقطب لبقية الأطراف، وهنا نقف على نقط مفصلية في نظرية التلقي نجملها في المفاصل الرؤيوية الحساسة؛وفق ما يلي:
1-فاعلية النص من فاعلية المتلقي:
ما من شك في أن فاعلية النص ترتقي بفاعلية المتلقي بصيرورة إبداعية كل منهما يؤثر في الآخر؛ وكل منهما يرتقي بارتقاء سوية الآخر؛وهذا يعني أن النص بارتقاء قارئه يرتقي إبداعياً؛ ويسمو فوق قدراته أحياناً؛ وهذا الارتقاء ناتج تفاعل إبداعي خلاق أو مؤثر بين النص والقارئ؛ وبمقدار حساسية هذه العلاقة التفاعلية بين النص وقارئه، تزداد درجة أسهم النص الفنية أو طاقته الإبداعية الخلاقة. ولا نبالغ في قولنا: يرتقي النص بفاعليتين متضافرتين أو قوتين خلاقتين لا غنى لإحداهما عن الأخرى: (طاقة النص الإبداعية الخلاقة)، و(طاقة المتلقي وفاعليته) التي ترتقي بالنص ودرجة شعريته وفاعلية تلقيه الإبداعي؛ ولهذا؛ فإن جاءت مقولتنا النقدية:( تنبثق فاعلية النص من فاعلية تلقيه أومن فاعلية المتلقي في تلقي النص إبداعياً) صائبة أو تملك شرعيتها من خلال التجارب الإبداعية الكثيرة؛ فمعظم النصوص الإبداعية العظيمة لا تظهر جماليتها إلا من خلال فاعلية تلقيها؛ وهذه الفاعلية تزداد قوتها بفاعلية الطرفين ،وقوة الدافع الجمالي الساكنة في كليهما.
2-فاعلية المتلقي من فاعلية النص:
إنه لمن المسلم به في النظرية الأدبية الحديثة أن فاعلية المتلقي ترتقي بفاعلية النص؛ فكما أن فاعلية النص ترتقي بفاعلية المتلقي؛ فإن فاعلية المتلقي ترتقي بفاعلية النص؛ وهذه العلاقة التفاعلية لا يمكن إهمالها أو التقليل من شأنها في جمالية التلقي أو فاعلية التلقي؛ وهذا يعني أن ازدياد جمهور التلقي الجمالي للنص الإبداعي يرتبط بفاعلية النص الإبداعية وقيمه الجمالية ،وبمقدار تنامي هذه القيم وازديادها بمقدار ما تزداد الشريحة المتلقية ويزداد غنى النص إبداعياً.
3-فاعلية النص وفاعلية المتلقي:
يخطئ من يظن أن النص الإبداعي مكتفٍ بذاته، بعيداً عن متلقيه أو قارئه؛ ومهما سما النص الإبداعي فنياً وجمالياً، فإنه سيبقى منقوصاً من أهم عنصر في ثرائه وغناه ومحفزه الإبداعي؛ فالقارئ هو التربة الخصيبة أو هو ماء الحياة الذي يمنحه للنص ،ليستمر ضد التقادم الزمني؛ أو التصحر الوجودي ،ولا قيمة لأي نص إبداعي مهمل مهما بلغ من الإثارة والدهشة الإبداعية ، ليبدو النص كتمثال جمالي لا نبض فيه ولا حياة.
وقد يتساءل القارئ ألا يمكن أن يخلد النص الإبداعي بقوته الإبداعية ولاشيء سواها بعيداً عن قوة القارئ وفاعليته؟!!
نقول: إن خلود النص بقوته الإبداعية الجامحة لا يمكن أن تتجذر وتثبت بعيداً عن دائرة التلقي الجمالي، لأن النص الإبداعي الحقيقي لا يثبت ولا يترسخ إلا في الوسط الثقافي والبيئي الذي أنتجه؛ وهذا الوسط مهما كان ضحلاً فإنه يؤثر في فاعلية المنتج الإبداعي ويرتقي به؛ومن هنا ، لا يسمو النص ويرتقي بعيداً عن وسطه الذي أنتجه إلا بالمتلقي الخلاق الذي ينقل النص من مستواه البيئي أو الثقافي الضحل إلى مستويات سامقة في التميز، والإثارة، والإبداع؛ولا يمكن لأي نص إبداعي أن يتجاوز إطاره الزمني إلا بالتلقي الفاعل الذي يحقق أقصى فاعلية في نقل النص إلى زمن جديد ووسط إبداعي أرقى من وسطه الذي أنتجه؛ ولذلك تبقى مسألة التلقي الجمالي من المسائل المهمة في نظرية الأدب التي اشتغلت على الأطراف الثلاثة في فاعلية التلقي هي:[( النص)و(المبدع)و(المتلقي)]؛ولكل طرف من هذه الأطراف قيمته،وتأثيره في الطرف الآخر لدرجة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر؛ وإن حاولت بعض النظريات النقدية التقليل من شأن أحد الأطراف على حساب الطرف الآخر ؛ فإنه يبقى لهذا الثالوث قدسيته في النظرية الأدبية الحديثة.
وصفوة القول:إن قيمة النص لا تنفصل عن قيمة المبدع (خالق النص الأول والمنتج الشرعي له)،والمتلقي الذي يفكك النص وينفث فيه روح الحياة من جديد؛وهذا يعني أن للنص طاقة ما ،وسلطة جزئية محدودة في ذاته لا يتعداها إلا بالقارئ الذي يمنحه هذه القوة، والثبات، والتطور، والنمو والازدهار؛وبهذا؛ تتنامى فاعلية النص بتنامي العلاقات الرابطة بين (المبدع والنص) من جهة،و(النص والقارئ) من جهة ثانية، ولا يمكن أن يثبت النص كمدونة إبداعية خالدة أو وثيقة إبداعية مؤثرة إلا بتعاور هذه الأطراف الثلاثة في نظرية التلقي التي تأسست عليها المناهج الحديثة في نقل مدونتها المعرفية إلى عالمنا النقدي المعاصر.
—