التكثيف Condensation عملية لاشعورية يتاح بها لمضمون ظاهري واحد للتعبير عن عدة مضمونات كامنة كما عبر عن ذلك مؤسس التحليل النفسي” سيجموند فرويد” فيظهر التكثيف في الأحلام والأعراض العصابية” النفسية” وكذلك في الأعراض الذهانية” العقلية” وترى موسوعة علم النفس والتحليل النفسي أن في عملية التكثيف يظهر عنصر واحد في الحلم الذي يراه النائم أو في العرض الذي يشكو منه المريض ليعبر عن أكثر من عنصر.
أما الرمزية فتشير إلى حتمية ترابطية للأعراض وحتمية رمزية لها، وتشير موسوعة علم النفس والتحليل النفسي أن الرموز التي تستخدمها الأحلام، والاضطرابات النفسية والطقوس البدائية، والأساطير القديمة، والآداب الشعبية والفنون والآداب والكتابات الحديثة، كل ذلك بمعنى موحد، على اختلاف العصور والأمكنة، مثل استخدام القلم للدلالة على العضو الجنسي للذكر، أو الكهف للدلالة على عضو الأنثى الجنسي، أو الأرجوحة للدلالة على العملية الجنسية، أو الخروج من الماء أو البحر للدلالة على الميلاد، وهناك أمثلا لا حصر لها تدل على الرموز وكنهها. ويمكننا القول بأن الرموز بصفة عامة هي موضوعات خارجية تشير من طرف خفي إلى ما يمثلها في صورة من الصور، من موضوعات داخلية لا يعيها صاحبها، وأنها موضوعات ارتبطت بها طاقات الانفعال التي كانت مرتبطة بالموضوعات الداخلية تلك، أي أنه حدثت إزاحة للانفعالات عن موضوعاتها الأصلية إلى الموضوعات الخارجية التي تمثلها في صورة رمزية، ويقول”د.عزيز فريد” أن هذه الموضوعات الخارجية الرمزية هي موضوعات تُزيد إمكانية الذات على كبت الموضوعات الداخلية وتحريفها وإخفاء معالمها، وإن هذه الموضوعات الخارجية يمكن أن تكون موضوعات مادية أو موضوعات معنوية، كما يمكن أن تتمثل في حركات أو إيماءات أو إشارات أو تلويحات صامتة، هنا يمكن أن يكون هذا الوصف ساريا على ترميزات المرضى والأسوياء على السواء. فإذا كانت الأعراض هي تعبير رمزي غامض ومبهم، هو في الحقيقة تعبير عن مواد مكبوتة أو مادة بعيدة عن الوعي والانتباه، وهكذا هو الحال مع الأسوياء في استخدامهم للرمزية، سواء في حركاتهم أو ملابسهم، أو تخيلاتهم، أو أشعارهم ، أو ما يسطرونه من كتابات، أو رواياتهم وقصصهم المختلفة، أو لوحاتهم المدغمة بالتكثيف والرمزية..الخ، فهي جميعها يمكن أن تكون رموزًا ترمز إلى ما تحمله حناياهم ودواخلهم من أرهاصات صعب على الفرد البوح بها، فكان التعبير بالإدغام والتكثيف طريقًا مقبولا لدى الناس. ولا يختلف كثيرًا الهذيان لدى المضطربين عقليًا عن الرمزية وعمق التكثيف في اللوحات التي رسمها أصحابها وتركت أثرا قويا عبر عقود من السنين، فالهذيان لدى مضطرب العقل يكون تعبيرًا صوتيًا مسموعًا، بينما الهذيان في اللوحة تعبيرًا رمزيًا غير مسموع وبلا أصوات، وإنما اللوحة تعلن عن نفسها وتتحدث، وكذلك قصيدة الشعر، أو النص المسرحي، أو الرمزية في التماثيل والمنحوتات، كلها تعبيرات إنسانية عن تأهوات دفينة تعبر عن الكثير ما كان يشغله صاحبها من مشاعر وآخيلة، هذه المشاعر والآخيلة ذات طابع حزين في كثير من الآحيان تدور حول مواقف نفسية عميقة من الصعب البوح بها!! وبناء على تقدم يمكننا أن نقرر أن النتاج الفكري والفني الممزوج بالرمزية والتكثيف العاليين هو تعبير عن معاناة لذكريات أو مخلفات لخبرات انفعالية خلت، كما يمكننا أن نقرر أن هذه الشحنات الانفعالية الناتجه من تلك الخبرات لم يتح لها التفريغ المناسب، وإنما حيل بينها وبين الإفصاح، وظلت منعزلة عن باقي الحياة النفسية لا تجد سبيلًا للتنفيس عن نفسها سوى سبيل العمل الفني الإبداعي، وكلما كانت المعاناة جسيمة، كلما كان النتاج الفني قويا ومعبرًا يترك الأثر في النفوس، وهذا كله لا يفطن له الفنان أو الرسام أو النحات، وإلى العلاقة بين هذا الاداء الذي يقوم به وتلك الخبرات الانفعالية التي زج بها في زاوية من النسيان. ومن هنا نستطيع أن نقرر مقاربة لهذيان وهلوسة المضطرب عقليًا المسموع، مع صمت اللوحة أو النص، أو القصيدة، أو القصة أو الرواية بهذيانها في أن ليست هناك أمورًا خالية من المعنى وإنما هي تفصح عن صراع انفعالي بعينه، له تاريخه ومنطقه حتى وإن غاب عن التفسير في الوقت الحاضر، فالقول النفسي المأثور كما تعلمناه من أساتذتنا في التحليل النفسي وعلم نفس الأعماق قولهم: كل ما يصدر عن الإنسان من سلوك ظاهري أو غير ظاهري له دلالة ومعنى حتى وإن غاب عن التفسير.
يلجأ الكثير من الادباء والفنانين لاستخدام هذه العملية اللاشعورية في كتاباتهم وأشعارهم وما يؤدون من أدوار بها رمزية عالية وتكثيف في الاداء، لغرض تمرير فكرة غير مقبولة سياسيًا، أو تتعارض مع النظام السائد، وهنا تتشابه هذه الفكرة مع فكرة الحلم حيث يستخدم به كافة مكونات الرمزية العالية، لأن في الحلم هو كسر للقيود وخروج على أوامر الواقع ونواهيه ومحرماته، فيلجأ الإنسان للحلم دون أن يدري فالحلم يتطلب نوعًا من الترجمة تظهر النص الأصلي”أفكار الحلم الكامنة” الذي ظهر في الحلم في صورة رمزية، فالترميز هو كالطلاسم الملغزة والألغاز التي لا يسهل حلها وفهم مضمونها، وكلما كان التكثيف عميقًا كلما كان الكبت أعمق، مثلما هو الحلم أيضا ففيه المحتوى الظاهر اختزال للمحتوى الكامن” وهذا ما يسمى بالتكثيف” ويتوقف كل عنصر ظاهر على عدة أفكار كامنة، ويعبر عن الفكر التصوري المجرد بصور مرئية ( الإخراج المسرحي) ويستخدم رموزًا يشترك فيها الناس جميعا أو تفسر بما اكتسبه الفرد من بيئته أو خبرته الذاتية.
يقول”د.مصطفى زيور” رحمه الله جدير بالذكر أن عمليات التكثيف والإزاحة الرمزية تتكشف آثارها في حياتنا اليومية في زلات اللسان وفلتات القلم أو النكتة، ويضيف” زيور” فبالاضافة إلى دراسة الاحلام والأمراض العقلية والنفسية تأيدت هذه الحقائق بدراسة الأساطير والقصص الخرافية من جهة، ثم من الدراسات الأنثروبولوجية ومن دراسة سيكولوجية الإنتاج الفني والأدبي.
بقي علينا أن نوضح بأن الباعث المباشر لإنطلاق واستخدام الرمز وتكثيف الفكرة لدى الفنان، أو الرسام التشكيلي، أو النحات، أو الشاعر، أو الكاتب لوجدناه أنه يشحذ طاقته الذهنية لإنتاج عمل فني على قدر عالي من الموهبة، وإن موهبته الفنية تهيء له وسيلة مقبولة اجتماعيًا لإفراغ انفعالاته الحبيسة التي كانت تهدد اتزانه، ومن هنا كانت الموهبة الفنية ضرب من التصعيد، أي إفراغ الانفعالات التي قد تؤدي إلى الاختلال المرضي، بطريقة تحفظ لصاحبها اتزانه، ففي النتاج الفني يتيح للفنان تفريغًا يكسبه جمال الإنتاج حقًا اجتماعيًا، فضلا عما يتيحه من مشاركة الأخرين للفنان في معالجة الانفعالات على نحو مقبول، كما عبر عن ذلك د. مصطفى زيور.
————–
•استاذ جامعي وباحث نفسي
•elemara_32@hotmail.com
—-