ربما من الضروري إعادة التأكيد على أنني لا أكتب سِيَرْ مَن أتناولهم في كتابي، بل صفحات من أوراق الذكريات، سواء عمن عرفتهم شخصيا واحترمتهم وأحببتهم، أو عمن عرفتهم عبر السماع والقراءة، من شخصيات لكل منها دور مرموق يميزه ويحسب له ويجذب إليه.
أما الجواهري، فمهما أكتب عنه، فإنني أعود إليه. ورغم قصور الذاكرة أحيانا، فإن صور ذكرياتي معه تظل حية في القلب والوجدان. وكلما جاءتنا ذكرى رحيله، تراكضت التداعيات والخواطر، وانهمرت ذكريات أمس، العامة والخاصة، حلوها ومرها، وأبيضها والقاتم منها.
عند الكتابة عن أي راحل عزيز، خصوصا إن كان صديق سنوات، فثمة من احتمالات تغلب الذاتي والانتقائية في التذكر والسرد، والانطباع. ويحدث أحيانا أن يكتب أحدهم عن شخصية راحلة، فإذا به يكتب عنه عكس ما كان يقوله في حياة الفقيد. وحدث مع الجواهري أن كان في حياته عرضة للتحامل الفج، ولكن وفاته حولته عند أكثر أولئك المتحاملين إلى عبقري العصور، وكأنهم نسوا أنهم كانوا يشتمونه بالأمس لمجرد قصيدة تبارك عرش فيصل الثاني، أو في رثاء ابن أحمد حسن البكر. والجواهري، كإنسان، كان من البشر، أي عرضة للخطأ والكبوات، وهي حقيقة يجب أن يهضمها، بالمقابل، من يثورون لأبسط نقد يوجه لشاعرنا العظيم بوصفه إنسانا، أو لإيراد واقعة كان من أبطالها. فليس بين أكثر عباقرة التاريخ عبقرية من كان معصوما- علما، بأنني، في حالة نقد اليسار خاصة لقصيدة الجواهري يوم تتويج الشاب فيصل الثاني، لا أشاطر الناقدين، ولا الجواهري نفسه، الذي اعتبر قصيدة التتويج “زلة العمر”. فأنا أرى أن لا غبار على تلك القصيدة. فالشاب فيصل الثاني لم يكن ملوث اليدين بالدم العراقي، وليس هو من كان يسوس البلاد. وفيصل الثاني لم يكن عبد الإله، ولا كان حاكما دمويا شموليا كما صرنا نشهد في الساحة العربية. والشاعر الفقيد زاهد محمد كان يشاركني الرأي هنا في كتابه عن الجواهري: “الجواهري صناجة القرن العشرين.” ومهما يكن، فأعظم العظماء- وكما قلت- لا تخلو سيرهم من مطبات وسلبيات، وعثرات، ولكون الشخص- عظيما كان أو فردا عاديا- تقيم سيرته بإجمالها وبمحصلتها وجوهرها، وليس بالسقطات والأخطاء التي مر بها، ودون أن يعني ذلك تجاهلها عند المؤرخ وكاتب السيرة. وقد تكون ثمة حالات معاكسة، حيث تبدر من شخصيات تمر في حياتنا ممارسات ومواقف هي، بحد ذاتها، إيجابية لا تنكر، ولكن، عندما تزن هؤلاء على أساس مجمل مواقفهم ومسيرتهم اللاحقة، فلا يمكن إلا أن تشطب عليهم وتلعنهم، لأن ما هو سيء يكون الغالب في الميزان. وهكذا أيضا في تقييم الأحداث السياسية الماضية والحاضرة، فالمطلوب وزن كل الجوانب لنخلص إلى الجانب الحاسم، الذي سيكون هو الحكم والقاضي. والمؤلم، أننا نجد أن شخصيات ربما كانت تشتم بالأمس بدون حق، فتعود بعد وفاتها إلى مثار مناحات، دون أن يقدم النائحون تفسيرات مقنعة عن سبب تبديل مواقفهم من تلك الشخصيات. لماذا كانوا نماذج سلبية في حياتهم، وإذا بهم، بعد الوفاة، خزانة فضائل وحسنات؟؟ وهكذا، فقد كان مطلوبا ممن اعتبروا الجواهري رائدا لـ”مدرسة السقوط الشعري”، في حياته، أن يفسروا لماذا تحول بعد وفاته إلى رمز للإبداع والتألق؟ أما كان عليهم الاعتذار عن أحكام أمس والاعتراف بالخطأ؟ ولدينا حالة تصلح للاعتبار، وهي حالة عبد المحسن السعدون، الذي وجهت إليه الاتهامات بالعمالة والخيانة، وصار ممقوتا في الشارع العراقي السياسي، ولكن وفاته المفجعة جعلت جماهير بغداد كلها تبكيه، وتسير في مظاهرات مناحة جماعية في الشوارع. وقد أعيد له الاعتبار السياسي ولكن بعد رحيله.
في الذكري الثالثة لرحيل الشاعر الصديق أبي فرات، كتبت في صحيفة الزمان، [تاريخ 3 آب 2000]- أي قبل سقوط النظام الصدامي – أن الذكرى تجلب لي معها: “صور بغداد أمسِ النضال والتعايش، مقرونةً ببغداد العقوبات والقمع الفاشي وسلطان الرعب. وتجلب أيضا صور النجف، مَعلَماً دينياً، ومرجعية دينية لا سياسية، مقرونةً بصور الصواريخ والدماء. ومع هذه وتلك، صور “أشرف الشجر”- النخيل- بالنخلة المحترقة وتلك الظمأى للماء… وصور المظاهرات الهادرة، ممتزجةً بصور المقابر الجماعية والإعدامات الجماعية، وصور الطفل العراقي المبتسم بصور أطفال ذلك التاريخ [أي 2000]، من متسولين حفاة، ومن مجبرين على العمل الشاق، ومن موتى في ثلاجات النظام وحيث التلاعب بالدواء، والرسوم الجائرة، فيما الأولويات المطلقة في الغذاء والدواء للنخبة الحاكمة وأجهزتها الأمنية. وفي ذكرى الجواهري العظيم تقترن أمجاد قوانا الوطنية بأخطائها الفادحة، واتحاد صفوفها بالتشرذم والخصام، وصور الثورة المباركة بالمتآمرين عليها والسافحين دمها الزكي بعد استفحال التناحر السياسي الحزبي… وصور جبال كردستان الشامخة الأبية، التي غنى الجواهري لبطولاتها، مقترنةً بالحملات البربرية وحروب الأنفال وحلبجة… وصور المرأة، جميلةً، رائعة، ملهمة- إن في العراق أو براغ وفي كل مكان- ومعها صور نساء اليوم العراقيات، أسيراتِ الحزن الدائم، والمصاب الأبدي، بكاءً على ضحايا الحروب، وعلى ضحايا القمع الدموي….”
واليوم، ماذا يمكن أن تملي علينا ذكراه حين تطل علينا؟؟ بماذا سيذكره كل من عشق شعره، وأحب شخصه؟ هل بثورياته الشعرية و”إن دماء الضحايا فم”؟ و”ضيق الحبل واشدد من خناقهمو”؟- وهو مذهب متعدد الرؤوس ولا يصلح لكل زمان ومكان؟ أم “بدجلة الخير أم البساتين” و”الفرات الجاري”؟ أم بأرق الغربة:
” يا سامر الحي بي داء من الضجرِ عاصاه حتى رنين الكأس والوتر”، وحنينه إلى بغداد وحتى إلى ضفادعها؟ أم بغرامياته “الشفافة”: من “جربيني” في بداية الثلاثينات وما أحدثته من عاصفة، وإلى “أفروديت” أواخر الأربعين، إذ يتغزل بذلك “الشيء” الذي هو: “في الشكل مثل قوقعة الماء وفي الحسن زهرة الجلنارِ”؟ أم سوف يذكر بمجالسه الظريفة ونكاته الحلوة وطاقيته الفريدة، التي كانت تجذب حتى الفتيات الحسان في براغ؟
أم بهذا كله، وأكثر، وأكثر، حتى رحيله في المهجر الدمشقي في السابع والعشرين من تموز 1997 عن عمر يناهز بين الستة والتسعين وإلى المائة سنة- وذلك بحسب رواياته وروايات مؤرخيه. وكانت إشكالية العمر محور سجال وهو يخاطب الآخرين:” أنا أحب الحياة فلا تقصروا طريقي أكثر!”- مع أنه هو القائل:” حب الحياة بحب الموت يغريني”- قاصدا حياة كريمة، حرة، معطاء، وأهدافا في الحياة نبيلة تستحق التضحية بالحياة من أجلها… وكم كان السجناء الشيوعيون العراقيون في الخمسينات يرددون باعتزاز وحماس: “سلام على مثقل بالحديد ويشمخ كالقائد الظافرِ”.
وقد رثى، باكيا وغاضبا، سلام عادل ورفاقه من ضحايا حمامات دم 8 شباط الفاشي.
والجواهري، أبو فرات، هذا كله لي شخصيا. فقد كان لي صديقا غاليا، وصديق والدي منذ أواخر العشرينات. وفي براغ كنا نستمتع بمجالسه وقصائده حين ينشدها إنشادا، وعيناه متطلعان دوما نحو الجمال في تلك المدينة التي كانت توصف بباريس الصغرى. ولم تخل علاقاتنا من لحظات مناكفة وجفاء سرعان ما يزولان ليعود الصفاء واجتماعاتنا وسهراتنا التي لا تنسى. ولم ينس الجواهري في مذكراته صداقتنا ولا احترامه لأبي، كما أنني لم أنسه حين كنت أمر بأقسى ظرف في المعتقل، فانشد من شعره وشعر المتنبي في الركن الصغير المظلم الذي ألقيت فيه.
الجواهري كان عاشق الشعب، وغنى لثورة الشعب، وإن حدث مع الأسف فتور له مع عبد الكريم قاسم، وذلك في ظرف ملابسات معقدة.
كان عراقيا أصيلا، ورجلا عابرا لحواجز المذهب والدين والقومية. وليس غريبا أن تسمي مدينة السليمانية الكردية إحدى ساحاتها باسم الجواهري، وأن يقام له تمثال في سرجنار، وأن تحتفل الأطراف الكردستانية كلها بذكراه. وعلى ذكر تمثاله، فمن حسن الحظ أنه هناك، بعيدا عن أيدي العبث الظلامي الذي راح يجتث المعالم الفنية الجميلة في بغداد!
الجواهري هو من قال:
” وقد خبروني أن في الشرق وحدة كنائسه تدعو فتبكي الجوامعُ”
ورغم طعن بعض العنصريين بعراقيته، فإنه هو القائل عام 1945 وهو يزور يافا:
” أحقا بيننا اختلفت حدود وما اختلف الطريق ولا الترابُ
ومن أهلي إلى أهلي رجوع ومن وطني إلى وطني إيابُ”
وأذكر أنه قرأ علينا، ونحن طلبة في دارالمعلمين العالية، هذه القصيدة وسواها من قصائده في احتفال بالجواهري دام أكثر من ساعة. وكان الفضل لعميد الكلية المربي الكبير الدكتور متى عقراوي، وكان من أعلام الشخصيات المسيحية العراقية.
في ذكراه الثالثة أيضا صرخت في مطبوعتي الشهرية باسم “النافذة”:
“رحم الله أبا فرات، العظيم شعرا، الخالد عطاء، الباقي بيننا وبين أجيالنا القادمة… ولعن الله ظروفا وسياسات حرمته من تربة الوطن، حيا وميتا.”
وأعود لأسال: ماذا لو كان بيننا جسدا اليوم، أي لو كان على قيد الحياة؟ ترى ماذا كان سيقول، وأي نوع من القصائد كان سيرتجل وهو يشاهد عراق اليوم- بعطش دجلة الخير والفرات جراء فعل الجيران …. بمطاردة الجمال والموسيقى والفنون… إلى مطاردة الأقليات الدينية…إلى الصراعات المستمرة بعد الانتخابات حول المناصب والمغانم المادية – حيث رواتب كبار المسئولين ما بين مليونين إلى مليون دولار شهريا – فيما الشعب يفقد يوميا عشرات بعد العشرات من بناته وأبنائه في العمليات الإرهابية المجرمة، ويتلظى تحت نيران البطالة والحاجة وبؤس الخدمات؟؟ وماذا كان سيقول عن فرض الحجاب حتى على المسيحيات وهو الذي وجه لصالح مهدي عماش، وكان صديقه ووزير الداخلية وينظم الشعر، قصيدة يبهدل فيها ويدين ممارسة تلطيخ أرجل الفتيات في الشارع بحجة لبس “تنورات” قصيرة، وهي ممارسة أمر بها محافظ بغداد خير الله طلفاح؟؟ نعم أي نوع من الشعر في هذا كان سيقول وهو بطل الدفاع عن المرأة وعابد جمالها؟؟ ألم يكن سيشتم النخبة السياسية التي لا تزال تتخاصم والعراقيون ينحرون؟ ألم يكن سيهجو بعنف العقول المعممة، وعمائم من ينظمون استفتاءً انتخابيا خاصا بهم في احتقار تام لانتخابات الشعب العراقي كله؟ ويا ترى، لو قال الجواهري شعرا في هجاء هؤلاء وذم الأوضاع العامة، فماذا كان سيكون مصيره؟ أم كان سوف يفضل الهجرة من جديد، بعيدا عن بغداد لم يعرفها وكان يحلم بغيرها في غربته؟!
أما الجواهري، فمهما أكتب عنه، فإنني أعود إليه. ورغم قصور الذاكرة أحيانا، فإن صور ذكرياتي معه تظل حية في القلب والوجدان. وكلما جاءتنا ذكرى رحيله، تراكضت التداعيات والخواطر، وانهمرت ذكريات أمس، العامة والخاصة، حلوها ومرها، وأبيضها والقاتم منها.
عند الكتابة عن أي راحل عزيز، خصوصا إن كان صديق سنوات، فثمة من احتمالات تغلب الذاتي والانتقائية في التذكر والسرد، والانطباع. ويحدث أحيانا أن يكتب أحدهم عن شخصية راحلة، فإذا به يكتب عنه عكس ما كان يقوله في حياة الفقيد. وحدث مع الجواهري أن كان في حياته عرضة للتحامل الفج، ولكن وفاته حولته عند أكثر أولئك المتحاملين إلى عبقري العصور، وكأنهم نسوا أنهم كانوا يشتمونه بالأمس لمجرد قصيدة تبارك عرش فيصل الثاني، أو في رثاء ابن أحمد حسن البكر. والجواهري، كإنسان، كان من البشر، أي عرضة للخطأ والكبوات، وهي حقيقة يجب أن يهضمها، بالمقابل، من يثورون لأبسط نقد يوجه لشاعرنا العظيم بوصفه إنسانا، أو لإيراد واقعة كان من أبطالها. فليس بين أكثر عباقرة التاريخ عبقرية من كان معصوما- علما، بأنني، في حالة نقد اليسار خاصة لقصيدة الجواهري يوم تتويج الشاب فيصل الثاني، لا أشاطر الناقدين، ولا الجواهري نفسه، الذي اعتبر قصيدة التتويج “زلة العمر”. فأنا أرى أن لا غبار على تلك القصيدة. فالشاب فيصل الثاني لم يكن ملوث اليدين بالدم العراقي، وليس هو من كان يسوس البلاد. وفيصل الثاني لم يكن عبد الإله، ولا كان حاكما دمويا شموليا كما صرنا نشهد في الساحة العربية. والشاعر الفقيد زاهد محمد كان يشاركني الرأي هنا في كتابه عن الجواهري: “الجواهري صناجة القرن العشرين.” ومهما يكن، فأعظم العظماء- وكما قلت- لا تخلو سيرهم من مطبات وسلبيات، وعثرات، ولكون الشخص- عظيما كان أو فردا عاديا- تقيم سيرته بإجمالها وبمحصلتها وجوهرها، وليس بالسقطات والأخطاء التي مر بها، ودون أن يعني ذلك تجاهلها عند المؤرخ وكاتب السيرة. وقد تكون ثمة حالات معاكسة، حيث تبدر من شخصيات تمر في حياتنا ممارسات ومواقف هي، بحد ذاتها، إيجابية لا تنكر، ولكن، عندما تزن هؤلاء على أساس مجمل مواقفهم ومسيرتهم اللاحقة، فلا يمكن إلا أن تشطب عليهم وتلعنهم، لأن ما هو سيء يكون الغالب في الميزان. وهكذا أيضا في تقييم الأحداث السياسية الماضية والحاضرة، فالمطلوب وزن كل الجوانب لنخلص إلى الجانب الحاسم، الذي سيكون هو الحكم والقاضي. والمؤلم، أننا نجد أن شخصيات ربما كانت تشتم بالأمس بدون حق، فتعود بعد وفاتها إلى مثار مناحات، دون أن يقدم النائحون تفسيرات مقنعة عن سبب تبديل مواقفهم من تلك الشخصيات. لماذا كانوا نماذج سلبية في حياتهم، وإذا بهم، بعد الوفاة، خزانة فضائل وحسنات؟؟ وهكذا، فقد كان مطلوبا ممن اعتبروا الجواهري رائدا لـ”مدرسة السقوط الشعري”، في حياته، أن يفسروا لماذا تحول بعد وفاته إلى رمز للإبداع والتألق؟ أما كان عليهم الاعتذار عن أحكام أمس والاعتراف بالخطأ؟ ولدينا حالة تصلح للاعتبار، وهي حالة عبد المحسن السعدون، الذي وجهت إليه الاتهامات بالعمالة والخيانة، وصار ممقوتا في الشارع العراقي السياسي، ولكن وفاته المفجعة جعلت جماهير بغداد كلها تبكيه، وتسير في مظاهرات مناحة جماعية في الشوارع. وقد أعيد له الاعتبار السياسي ولكن بعد رحيله.
في الذكري الثالثة لرحيل الشاعر الصديق أبي فرات، كتبت في صحيفة الزمان، [تاريخ 3 آب 2000]- أي قبل سقوط النظام الصدامي – أن الذكرى تجلب لي معها: “صور بغداد أمسِ النضال والتعايش، مقرونةً ببغداد العقوبات والقمع الفاشي وسلطان الرعب. وتجلب أيضا صور النجف، مَعلَماً دينياً، ومرجعية دينية لا سياسية، مقرونةً بصور الصواريخ والدماء. ومع هذه وتلك، صور “أشرف الشجر”- النخيل- بالنخلة المحترقة وتلك الظمأى للماء… وصور المظاهرات الهادرة، ممتزجةً بصور المقابر الجماعية والإعدامات الجماعية، وصور الطفل العراقي المبتسم بصور أطفال ذلك التاريخ [أي 2000]، من متسولين حفاة، ومن مجبرين على العمل الشاق، ومن موتى في ثلاجات النظام وحيث التلاعب بالدواء، والرسوم الجائرة، فيما الأولويات المطلقة في الغذاء والدواء للنخبة الحاكمة وأجهزتها الأمنية. وفي ذكرى الجواهري العظيم تقترن أمجاد قوانا الوطنية بأخطائها الفادحة، واتحاد صفوفها بالتشرذم والخصام، وصور الثورة المباركة بالمتآمرين عليها والسافحين دمها الزكي بعد استفحال التناحر السياسي الحزبي… وصور جبال كردستان الشامخة الأبية، التي غنى الجواهري لبطولاتها، مقترنةً بالحملات البربرية وحروب الأنفال وحلبجة… وصور المرأة، جميلةً، رائعة، ملهمة- إن في العراق أو براغ وفي كل مكان- ومعها صور نساء اليوم العراقيات، أسيراتِ الحزن الدائم، والمصاب الأبدي، بكاءً على ضحايا الحروب، وعلى ضحايا القمع الدموي….”
واليوم، ماذا يمكن أن تملي علينا ذكراه حين تطل علينا؟؟ بماذا سيذكره كل من عشق شعره، وأحب شخصه؟ هل بثورياته الشعرية و”إن دماء الضحايا فم”؟ و”ضيق الحبل واشدد من خناقهمو”؟- وهو مذهب متعدد الرؤوس ولا يصلح لكل زمان ومكان؟ أم “بدجلة الخير أم البساتين” و”الفرات الجاري”؟ أم بأرق الغربة:
” يا سامر الحي بي داء من الضجرِ عاصاه حتى رنين الكأس والوتر”، وحنينه إلى بغداد وحتى إلى ضفادعها؟ أم بغرامياته “الشفافة”: من “جربيني” في بداية الثلاثينات وما أحدثته من عاصفة، وإلى “أفروديت” أواخر الأربعين، إذ يتغزل بذلك “الشيء” الذي هو: “في الشكل مثل قوقعة الماء وفي الحسن زهرة الجلنارِ”؟ أم سوف يذكر بمجالسه الظريفة ونكاته الحلوة وطاقيته الفريدة، التي كانت تجذب حتى الفتيات الحسان في براغ؟
أم بهذا كله، وأكثر، وأكثر، حتى رحيله في المهجر الدمشقي في السابع والعشرين من تموز 1997 عن عمر يناهز بين الستة والتسعين وإلى المائة سنة- وذلك بحسب رواياته وروايات مؤرخيه. وكانت إشكالية العمر محور سجال وهو يخاطب الآخرين:” أنا أحب الحياة فلا تقصروا طريقي أكثر!”- مع أنه هو القائل:” حب الحياة بحب الموت يغريني”- قاصدا حياة كريمة، حرة، معطاء، وأهدافا في الحياة نبيلة تستحق التضحية بالحياة من أجلها… وكم كان السجناء الشيوعيون العراقيون في الخمسينات يرددون باعتزاز وحماس: “سلام على مثقل بالحديد ويشمخ كالقائد الظافرِ”.
وقد رثى، باكيا وغاضبا، سلام عادل ورفاقه من ضحايا حمامات دم 8 شباط الفاشي.
والجواهري، أبو فرات، هذا كله لي شخصيا. فقد كان لي صديقا غاليا، وصديق والدي منذ أواخر العشرينات. وفي براغ كنا نستمتع بمجالسه وقصائده حين ينشدها إنشادا، وعيناه متطلعان دوما نحو الجمال في تلك المدينة التي كانت توصف بباريس الصغرى. ولم تخل علاقاتنا من لحظات مناكفة وجفاء سرعان ما يزولان ليعود الصفاء واجتماعاتنا وسهراتنا التي لا تنسى. ولم ينس الجواهري في مذكراته صداقتنا ولا احترامه لأبي، كما أنني لم أنسه حين كنت أمر بأقسى ظرف في المعتقل، فانشد من شعره وشعر المتنبي في الركن الصغير المظلم الذي ألقيت فيه.
الجواهري كان عاشق الشعب، وغنى لثورة الشعب، وإن حدث مع الأسف فتور له مع عبد الكريم قاسم، وذلك في ظرف ملابسات معقدة.
كان عراقيا أصيلا، ورجلا عابرا لحواجز المذهب والدين والقومية. وليس غريبا أن تسمي مدينة السليمانية الكردية إحدى ساحاتها باسم الجواهري، وأن يقام له تمثال في سرجنار، وأن تحتفل الأطراف الكردستانية كلها بذكراه. وعلى ذكر تمثاله، فمن حسن الحظ أنه هناك، بعيدا عن أيدي العبث الظلامي الذي راح يجتث المعالم الفنية الجميلة في بغداد!
الجواهري هو من قال:
” وقد خبروني أن في الشرق وحدة كنائسه تدعو فتبكي الجوامعُ”
ورغم طعن بعض العنصريين بعراقيته، فإنه هو القائل عام 1945 وهو يزور يافا:
” أحقا بيننا اختلفت حدود وما اختلف الطريق ولا الترابُ
ومن أهلي إلى أهلي رجوع ومن وطني إلى وطني إيابُ”
وأذكر أنه قرأ علينا، ونحن طلبة في دارالمعلمين العالية، هذه القصيدة وسواها من قصائده في احتفال بالجواهري دام أكثر من ساعة. وكان الفضل لعميد الكلية المربي الكبير الدكتور متى عقراوي، وكان من أعلام الشخصيات المسيحية العراقية.
في ذكراه الثالثة أيضا صرخت في مطبوعتي الشهرية باسم “النافذة”:
“رحم الله أبا فرات، العظيم شعرا، الخالد عطاء، الباقي بيننا وبين أجيالنا القادمة… ولعن الله ظروفا وسياسات حرمته من تربة الوطن، حيا وميتا.”
وأعود لأسال: ماذا لو كان بيننا جسدا اليوم، أي لو كان على قيد الحياة؟ ترى ماذا كان سيقول، وأي نوع من القصائد كان سيرتجل وهو يشاهد عراق اليوم- بعطش دجلة الخير والفرات جراء فعل الجيران …. بمطاردة الجمال والموسيقى والفنون… إلى مطاردة الأقليات الدينية…إلى الصراعات المستمرة بعد الانتخابات حول المناصب والمغانم المادية – حيث رواتب كبار المسئولين ما بين مليونين إلى مليون دولار شهريا – فيما الشعب يفقد يوميا عشرات بعد العشرات من بناته وأبنائه في العمليات الإرهابية المجرمة، ويتلظى تحت نيران البطالة والحاجة وبؤس الخدمات؟؟ وماذا كان سيقول عن فرض الحجاب حتى على المسيحيات وهو الذي وجه لصالح مهدي عماش، وكان صديقه ووزير الداخلية وينظم الشعر، قصيدة يبهدل فيها ويدين ممارسة تلطيخ أرجل الفتيات في الشارع بحجة لبس “تنورات” قصيرة، وهي ممارسة أمر بها محافظ بغداد خير الله طلفاح؟؟ نعم أي نوع من الشعر في هذا كان سيقول وهو بطل الدفاع عن المرأة وعابد جمالها؟؟ ألم يكن سيشتم النخبة السياسية التي لا تزال تتخاصم والعراقيون ينحرون؟ ألم يكن سيهجو بعنف العقول المعممة، وعمائم من ينظمون استفتاءً انتخابيا خاصا بهم في احتقار تام لانتخابات الشعب العراقي كله؟ ويا ترى، لو قال الجواهري شعرا في هجاء هؤلاء وذم الأوضاع العامة، فماذا كان سيكون مصيره؟ أم كان سوف يفضل الهجرة من جديد، بعيدا عن بغداد لم يعرفها وكان يحلم بغيرها في غربته؟!