زكية خيرهم :
هروب خارج الزمن
حرب ضروس تجرجر الإنسان
فحيح الحقد بين الطوائف
عمى التعصب صفحات من جنون
وصوت القنابليطن
وابل الرصاص في ذات المكان
زفير الجحيم من كل الجهات
أزيز الحرب يداعب العُشاق
وبقايا من رئيس
يتربع على مدن
تسكنها أشباح
ذلك اليوم المشؤوم كان غير تلك الأيام، وتلك اللحظة بالذات كانت بركانا فينا كالسعير. لون السماء رماديا يميل إلى السواد. أما الغابة التي كانت قريبة منا تبدو موحشة تعبث بأوراق أشجارها الكثيفة الرياح. وزمهرير يرتمي على المكان. عاصفة هوجاء تحترق في غفلة أشبهُ بالجحيم. ضباب كثيف غطى المدينة لا يمكن رؤية شيء سوى أصوات الرصاص والقذائف التي تــُـرمى من جحيم السماء على المساكن. اشلاء متناثرة وبرك من الدماء على الأرصفة. صفير سيارات الإسعاف ترجّ المكان، عدّاد الموت لا يتوقف على تلك الأرض التي تستغيث ولا من مجيب. جثث متناثرة مقطوعة الرؤوس. أطفال تحت الأنقاض وشباب تنبش التراب وتزيل الحجارة لإخراجهم مختنقين أو موتى. أمهات تصرخ في هيستيريا. جماعات من الشباب منتشرين بين الشوارع يرشقون الحجارة ويشعلون الدواليب وينادون بأعلى أصواتهم حرية … حرية …. تتعالى أصواتهم حينا وحينا آخر يخنقها دخان أسود يحجب المكان … فتختفي تلك الأصوات وتختنق. صرخات الضحايا تملأ أرجاء المكان حيث الموتى تنقل على النقالات إلى المستشفيات. نهر من دموع تنحب مُدن الحبّ التي أغرقها طوفان الكراهية والأحقاد الدفينة فأصبحت خواء، مقعرة مُتّشحة بالسواد. وقف أصدقائي وكأنهم رأوا مخلّصا. وجوههم شاحبة يعلوها الهول من الآتي. تحت تلك الأمطار كالوابل خرجنا متجهين نحو الغابة، نجري متعثرين في وحل لا يمنح هروبنا معنى. عاصفة الرياح كما عاصفة الانسلاخ عن الوطن والخوف المحتضر. أوراق أشجارها مذبوحة برغبة السقوط. مازلنا في طريقنا اللامتناهي، أقدامنا تغطس في التراب المبلل ، نُخرجها جاهدين مسرعين في تثاقل وتساؤلات تطرق في أذهاننا عن ذلك اللغز الموبوء. نجرجر أرواحنا المنقبضة أنفاسها. مشينا مسافات هروب قسري وألم يتوجّع بدواخلنا يمارس لعبة البقاء. بعد مسافة ثلاث ساعات من غير توقف قررنا الاختباء في كهف بالجبل. كل واحد منا أخذ مكانه وكأننا نعرف المكان أو كأننا على موعد في ذلك الكهف. الصدمة مازالت تلبسنا.حرب أهلية وتقسيم الوطن الواحد، وتحكم عصابة من الوحوش أشدّ من التتر.يحملون رايات سوداء يقتلون ويسفكون باسم الله والله أكبر، يقطعون الرؤوس وينكلون بالجثث. تدمرت البلاد وآلاف من السكان فروا من بيوتهم إلى بلدان الجوار التي استنفذت قدرتها على استقبال المزيد.نساء وأطفال وشباب يمشون في طوابير وكأنهم على سراط مستقيم وكأنهم في يوم حشر… لاجئون بلا عنوان متجهون إلى حيث لا يدرون فقط بعيدا وبين حدود بلاد العرب أوطاني يتوسّلون وأطفالهم تبكي وقلوب قاسية تطردهم، وهم في صدمة كابوس ملعون مُتخم بالإحباط وعدم الاكتراث. كانت ملابسنا مبللة يستحيل قضاء الليلة بها في ذلك الصقيع. كنا جالسين في صمت متمسكين بالسراب القادم من غياهب المجهول. نفكّر في وهن عن ايجاد منفذ للهروب من تلك المدينة المحاطة بالجبال الشاهقة وكأنها حصن منيع. كنت أعلم أن مكوثنا في ذلك الكهف غير آمن وأن عملية التفتيش علينا مستمرة. طلبت من أصدقائي أن يبقوا في أماكنهم وأخبرتهم بأنني سأذهب عند أخي لاقتناء بعض الملابس. تركتهم بذلك الكهف وأرواحهم تزحف بعيدا باتجاه آخر نقطة بالزمن المنتهي الذي غادر وولى. يتبعثرون في قلقهم وترقبهم، متمسّكين في وهن بجدائل حيرة تتعاظم وتساؤلات لا أجوبة لها. رجعت من نفس الطريق التي جئت منها وعاصفة على موعد معي تجرجر حيرتي وأنا أمشي بسرعة وحذر أصارع وحل التراب المبلّل والظلام الحالك الذي حلّ بسرعة بين تلك الأشجار السميكة أوراقها. أتحسّب لحظة الاغتيال، أطارد الوقت منهكا، أتعثر بقدمي الخاوية التي أنهكها الوهن متعطّشا برغبة مبتلة بالسراب. أمشي بين تلك التلال محاولا الابتعاد عن مسار ريح كانت تمسك بي. زمهرير من جحيم يمارس عنفه والأمطار من فوقي تهطل في شهوة على سكون الليل البارد المتدثّر بسواد حالك. أصوات الكلاب والذئاب تخترق قلب العتمة وكأن ندير الشؤم يتربّص بي. طوفان من استفهامات وأفكار قاتمة تنهال على رأسي طوال ذلك الليل إلى أن اندثر باتجاه جمرات الشفق. ذلك الفجر الاحتراقي الذي يترقبني، ينتظرني، يستلب مني هدوئي المصطنع الصاخب بالصمت إلى أن وقفت أمام بيت شقيقي. وجدته في حالة من التوتر يظن أنني ما زلت مع كلّ المشتبه بهم. رويت له القصة كاملة. كنت أرى الحزن متبعثرا في عينيه. يعرف أن هروبنا سيقبع تحت سَفر من همّ وهول. أعطاني الملابس وزوّدني بشيء من النقود.شربت القهوة على عجل، كان لها طعم خاص. الساعة السادسة صباحا وقد بزغ النهار تماما. والسماء مليئة ببقع من الضباب. أشرقت الشمس في دفء مفتعل بعد ليلة عاصفة هوجاء. ركضت صوب الغابة متجها حيث اصدقائي، أفكّر كيف قضوا ليلتهم في ذلك الكهف المبلّل ومن تحت جذوة جسدهم المتجمّد أرواح تتوق إلى الخلاص. مازال البلد في بلبلة وفوضى قائمة. ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه تلك الوجوه البائسة التي كانت بالأمس وجوه اليوم في كلّ شيء. حيث المتناقضات والأزمات التي تؤدي للحروب. كان رأسي يتبعثر فيه آمال الحلم المخنوق. يتراقص فيه السلام المستحيل. أبحث عن لون الدّهشة، عن نجوم تتألق في السماء. عن من يمسح الدّمع من عين المظلوم أونور يسطع وسط العتمة. ألملم غبار الصمت وأرسم في الماء حلمي المكلوم. لا أريد أن أفكّر في شيء إلاّ أن أصل إلى اصدقائي في أمان، وأخرجهم من ذلك المكان. بلبلة وفوضى تتفاقم رويدا رويدا في البلد. بعد ثلاث ساعات من الهرولة في تلك اللحظات المتراخية وصلت إليهم. كانت الشمس قد ارتفعت أكثر من قبل في السماء، وبدأت تدفأ وحل الأرض البارد. وجدتهم شاحبي الوجوه، منهوكي القوى. غيّروا الملابس. رياح الحيرة تعبث بنا، تبعثرنا. هول يلتهمنا كما تلتهم النار الهشيم. شبح الآتي يكبّلنا بأساوره ويضعنا في زنازينه القسرية. لم يكلّم أحدا منّا الآخر، غارقين في صمت حزين. نحترق كصحراء، نزحف في همّ لا يقوى على الحراك. تمّ إلقاء القبض على عدد كبير من الشباب. أوقفنا سيارة امتطيناها مهرولين. تمرّ بنا المسافات وفي طريقنا تخطّينا إحدى الثكنات. كانت محاطة بالمدرّعات والجيش في حالة استنفار شديد.
قال السائق وابتسامة الفرح عريضة على سحنة وجهه.
– أوتدرون ماذا حدث؟ وداعا للدكتاتور ومرحبا بالحرية ….
كنت صامتا ساكنا في مكاني غير مندهش لفرح السائق. فالشعب كلّ يوم يستيقظ في التهاويل محمّلا بالهمّ الشقي. أفراحه كالحة، سماءه قلقة، يتعثّر كادحا كلّ يوم من كسرة خبز تسّدّ رمق فقره ودُلّه وجهله. رفع السائق رأسه إلى السماء ورأى أن القمر في تمامه وقال:
– حتى القمر يشاركنا هذه الفرحة.
لم يتفوّه من معي بكلمة واحدة. كيف لهم أن يدلوا عن ألمهم المستلقي على شرفته الأبدية، عن سنوات قمع ترشف أوجاعهم، عن ظلّهم المنكسر بالذل والخوف. عن مخابرات في السماء والماء والهواء. حتما صمتهم كان أجدى. تابعنا السير. جاءني صوت السائق متسائلا :
– إلى أين؟
كان ردّي له:
– تابع السير.
—