مدخل:
قبل الولوج في الدراسة التطبيقية لمفهوم الحجاج لا بد أن نبين معناه في اللغة والاصطلاح، فيذهب صاحب اللسان إلى انه (( لجَّ فحجَّ معناه لجَّ فغلب من لاجَّهُ بحُجَجِهِ، يقال: حاججتُه أُحاجُّه حِجاجا ومحاجَّةً حتى حججتُهُ أي غلبتُه بالحُجج التي ادليت بها، (…) وهو رجل مِحاجج أي جدل والتَّحاجُّ: التخاصم؛ (…) حجَّهُ يحُجُّه حجّا: غلبهُ على حُجَّته (…) واحتجّ بالشيء: اتخذهُ حُجَّةً؛ قال الأزهريُّ: إنما سُميت حجَّةً لأنها تحُجَّ أي تُقصدُ لأن القصدَ لها وإليها (…) والحُجَّةُ: الدليلُ والبرهانُ)) ( )، ولا يختف معناه في المعاجم اللغوية الاخرى.
اما معناه الاصطلاحي: هو فن الإقناع وطرائق الاستدلال الحاضر في الخطاب كما تؤكده النظرية الحديثة بوصفه جملة التقنيات الخطابية التي تمكن مستخدميها من إثارة الاعتقاد أو ترسيخه في العقول خلال أطروحات مقدمة أو أقوال معروضة؛ لان المتكلم أثناء تخاطبه ينقل تصوراته ومدركاته إلى متلقيه قاصدا بذلك إقناعهم أو تغيير بعض معرفهم عبر إسلوب حجاجي( ) ، وعلى هذا الأساس فالحجاج في الاصطلاح الأدبي(( جنس خاص من الخطاب يبنى على قضية أو فرضية خلافية، يعرض فيها المتكلم دعواه مدعومة بالتبريرات، عبر سلسلة من الأقوال المترابطة ترابطا منطقيا، قاصدا إقناع الاخر بصدق دعواه والتاثير في موقفه أو سلوكه تجاه تلك القضية)) ( ).
ومن هنا ارتبط الحجاج بالخطاب بوصفه فن الحمل على الإقناع، اذ يلجأ الباث إلى توجيه المتلقي نحو هدف مقصود ضمنا وحمله على الإقناع به عبر سياقات كلامية يحددها النص الأدبي، فضلا عن فعل العبارة، ثم ان الحجاج ليس استدلالا تعليليا يدور في حقل البرهان المنطقي المحض بقدر ما هو يبحث عن وجود العلاقة التفاعلية بين الباث والمتقبل، بمعنى انه يرتبط بالخطاب أي باللغة مستخدمة في سياق وهو ما يعني انه ليس وقفا على خطابات معينة ولا بطرائق تنظيم للخطاب محددة .
لذ تشدد التيارات التداولية على ان سلوك الافراد ازاء الخطاب مرهون بحجة صاحبه أي المتلفظ به ، اذ تتأتى قيمة الجملة من حجة صاحبها ، من هنا يقع على محلل الخطاب ان ينظر في الشروط التي تجعل الخطاب ذا حجة ، أي الابانة عن السياق الذي يجعل الخطاب مشروعا وفعالا من خلال المشاركين في التخاطب وطبيعة الاطارين المكاني والزماني اللذين يلعبان دورا اساسيا ، ولاسيما في الخطاب الروائي الذي يوجه من باث (الراوي ) إلى متلقي عبر الشخصيات التي توجهه وجهة معينة دون سواها عن طريق التخاطب فيما بينها( )، فضلا عن توظيف الفعل اللغوي وتدشين النص بالعبارات الرامزة والهادفة إلى المعنى العام.
لذا اصبح الحجاج ملازما لخطابات متعددة، وهذا ما يجعلنا نشمل الخطاب الروائي، اذ يستعين الكاتب بالوصف لتصوير جزء من الواقع تصويرا خياليا عبر الشخصيات والسرد فضلا عن الحوار الذي يُستغل كثيرا للوصول إلى غاية مهمة، كما أن الحجاج يعتمد على خاصية أساسية وهي (الحوارية أو التحاورية) فالراوي من خلال الحوار يستحضر في خطابه دعائم معينة يحاور بها مستخدما الجدل الذي به يبني أو يقوض افكار معدة مسبقا من قبله وبشكل مباشر (التصريح) احيانا أوبشكل خفي (التلميح) ( )، أو يتسلل الكاتب إلى افكار شخوصه فيتحدث عنها بالنيابة متبنيا افكارها حتى يوجه الرأي العام إلى ما يصبو اليه في تدوينه الكتابي.
ويتخذ الحجاج الذي يرسمه السارد لنفسه اليات مختلفة لتحقيق هدفه المتمثل في إقناع المتلقي بالحجج التي يسوقها وابرزها الاستدلال الذي هو مزيج من العقل والعاطفة ، ويرسم شخصياته باستدعاء الذكريات التي تاخذ وظيفة استشهادية يستدل الباث فيها على راي بعينه ومن ثم يمارس دوره للإقناع به، واحيانا يستخدم إسلوب الحكاية في الحكاية لتوفر حيزا نصيا اكبر للبرهنة على وجاهة الراي فضلا عن استدعاء الذكريات، وقد يستخدم السارد عرض وجهات نظر تتعلق بالانا المتكلمة، اذ لا يرى باسا في التمطيط فيها أو في ايجازها لضمان توريط المتلقي بقبولها وتغيير وجهة نظره، كما انه يختار كونا آخر ويجعله مسرحا لتوظيف افكاره، فقد يستعير زمنا تاريخا أو مستقبليا حتى يدعم افكاره؛ لان السارد يدافع عن فكرة ما عبر اختياره للكون الروائي وحوار الشخصيات عندما يرجح احد المحورين ضمنا كونه ينتمي إلى الفكرة العامة، أي استدعاء صوت دون اخر واستحضار جملة من الاصوات المساندة لاطروحته وتغييب اصوات اخر، لانه وهو يحاور الآخر انما يبني عالما يقوم بالضرورة على التخطيط لغاية حجاجية.
ومن هنا تتخذ سناء الشعلان إسلوبا فرديا لدعم طروحاتها عبر الراوي العليم غالبا الذي يتدخل في مخيلات الشخصيات ويعبر عن لسانها، لذا يمكن ان تدرس ضمن المحاور الآتية:
العتبة النصية واستدراج المعنى:
إن الاستدراج والاستدعاء يظهر جليا عبر العتبات النصية في رواية اعشقني لا سيما أن الكاتبة وظفتها بافراط دفاعا عن فكرة ما ترجو اليها؛ لان الاستعانة بالعتبات النصية مبدأ تسويقي في أي عمل ادبي حتى يتم دعم شرعيته الفنية والفكرية وإيصاله إلى المتلقي باكثر العناصر تشويقا، هذه العتبات هي علامات لها وظائف عديدة ، فهي تخلق لدى المتلقي رغبات وانفعالات تدفعه إلى اقتحام النص برؤية مسبقة في غالب الأحيان كونها علامات دلالية تشرع أبواب النص أمام القارئ وتشحنه بالدفعة الزاخرة بروح الولوج إلى أعماقه( ).
لذا تزدحم العتبات النصية في رواية(اعشقني) منذ واجهة الغلاف إذ وضعت فيها الكاتبة صورتها الشخصية بزينتها الرومانسية الصارخة عبر اللون الاحمر النائب الظاهر عن العاطفة، والصورة الشخصية تدشِّن المعنى بقافلة ذاتية انثوية تستدرج الاخر منذ البدء، لا سيما وان العنوان يدعم الواجهة عبر الجملة الفعلية الذاتية، حتى يجد القاريء نفسَه امام عتبة فنية ديناميكية تختزل الذات فقط، ليصبح منضويا تحت التاثير المفبرك ويعيش الشبق الذهني الذي مفاده تحريك المخيلة اتجاه المادة الأدبية المنضوية تحته؛ لأن العنوان ((يمثل علامة كاملة كما يمثل العمل هو الاخر علامة كاملة اخرى ، وتاتي العلامة الحملية بين العلامتين لتخلق علامة وسيطة بين الاثنتين)) ( ) ، حتى تُقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص ، وفهم ما غمض منه، اذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد انتاج نفسه ليحدد هوية النص الأدبي( )، لان كل فعل اتصال ينطوي على قصد، يستلم طرفيه الباث والمستلم، وهذا القصد هو الرسالة الخطابية التي تحمل بسياقاتها الفعل اللغوي الخطابي الذي يشير بها المرسل إلى المستقبل بمقاصدها الابلاغية في فرضية المضمون وهذا بحد ذاته قيمة حجاجية يشير بها صاحب النص بالبنان إلى خصوصية الخطاب، فعندما شرعت الكاتبة بهذه العنونة جعلت القاريء يبحث عن الهدف من الصيغة الفعلية المضارعة الذي يلتف فيها القول ليعود إلى الذات نفسها لتنبيء عن النرجسية الفردية، وعند الشروع في المادة الأدبية يصل القاريء إلى متاهة ومن ثم الوصول إلى المفارقة في المدلول عبر التضاد الجنوسي والفكري بين الشخصيتين الرئيستين، (باسل المهري) القائد في حكومة مجرة درب التبانة الذي تعرض لحادث فقد على أثره جسده العظيم ولم يبق منه الا دماغه فاضطر إلى نقل دماغه إلى جسد آخر بفعل التطور العلمي، وكان قد تزامن مع الحادث موت (شمس) المعارضة لحكومته بفعل التعذيب الا أن جسدها لم يصب بأذى، فضلا عن انه كان متوافقا جينيا مع جسده، لذا ارتأت حكومة باسل أن تنقل دماغه إلى جسد شمس، لا سيما وانها كانت تحب رجلا يدعى (خالد) منتميا إلى فصيلتها الفكرية الرافضة، وهو من الشخصيات الغائبة.
لذا يقول باسل: ((هي لفظت انفاسها الاخيرة هذا الصباح في زنزانة قذرة، وأنا تعرضت في الوقت نفسه لحادث انتحاري، هي باتت دون روح ودون دماغ، وانا بت عقلا ينبض بالحياة دون جسد))( ) فهو لا يريد جسدها (( حيا وشبقا ومشتهى يضج بحرارة الحياة وجمال الافعال والتفاصيل اريده تماما كما هو الان؛ اريده دون حياة أو غد أو قادم)) ( )، وشمس جسد مسلوب الارادة قسرا كما يقول: (( قيل لي إن بنيتها الضعيفة خلاف مراسها وعزيمتها وإصرارها قد جعلتها لا تصمد اكثر من أيام قليلة أمام التعذيب، وشاء القدر لها ولي إن تلفظ انفاسها هذا الصباح))( ) وكذلك قوله: (( وان كنت اشك في انها ستفرح بان تترك جسدها العالق في عالم المادة مع رجل اخال انه من ألدِّ أعدائها لا سيما وانه هو من فتك بالكثير من اصدقائها الثوار)) ( )، ومن هنا يتضح التضاد في العنوان، التضاد الجنوسي حينما تلبس الذكر جسد امرأة وتفرض عليه تكوينه الفيزيائي/الانثوي، وتلاحظ عليه المفارقة القامعة، والتضاد الفكري كون باسل المهري ينتمي إلى المجرة الملحدة الطاعنة في الحداثة والعولمة الرافضة لكل ما هو تقليد، اما شمس فهي المنتمية إلى التراث العقائدي والفكري كونها((زعيمة وطنية مرموقة في حزب الحياة الممنوع والمعارض… إنها مشهورة بلقب النبيه)) ( )، إذ يتجلى الفعل الحجاجي حتى يناقض فهم القاريء للعنوان كونها (زعيمة وطنية) ، فضلا عن ( حزب الحياة) الموصوف بـ(الممنوع والعارض)، الذي يستدعي الغائب المناقض لافكارها بانه ليس وطنيا ، يعمل على طمس الحياة بافعال يتبنى استجلاءها الراوي العليم حتى يتوج حجته بانها مشهورة (بلقب النبيه) وكل ما يناقض فكرها فهو ضد الحياة ، إذ عملت الكاتبة على تبني الشخصية الايجابية بدعم حجاجي، وهذا ما يضيف إلى القاريء عنصر التشويق، لان العشق هنا ليس تواؤم الطرفين بقدر ما تم شحنهما بالتضاد بينهما، فضلا عن كسر التوقع لدى القاريء عندما يفاجأ بانها شخصية واحدة دمجت بفعل التطور العلمي عبر نقل العقل إلى العاطفه، وطغيان العاطفة اخر الامر وهذا الانزياح الفكري اتى اكله عندما اخذ طغيانه على عموم النص وختامها بدمج العاطفة مع العقل والخلود للحياة/ الانثى، وتظهر الافعال الحجاجية عبر الواجهة المتمثلة بالصورة الشخصية المتزينة المنصهرة مع العنوان وتحول المعنى عبر الدمج الفكري بين الشخصيتين.
ثم انها ارادت أن تنبه عن شخصية غائبة تمثل دفقا حياتيا فاعلا في بناء العاطفة وديمومتها عبر مسحة واقعية بقولها: ((خالد ليس خيالا، بل هو حقيقة، ولا يمكن أن يكون الا حقيقة. سناء)) ( )، وكذلك في: ((خالد وأسئلة الانتظار.. إلى متى تظل صمتا يا خالد، وأظل العب معك لعبة التخفي؟! متى يعرف الجميع انك حقيقة نابضة بالإحساس والجمال والتفلت والثورة والصخب اللذيذ؟ متى يرون ملامحك النبيلة ؟ ويسمعون كلماتك الندية؟ …. متى اقول للجميع انك حقيقة راسخة في زمن الردة والريبة؟!متى تعود بمواسم الفرح والحب وجنى الحقيقة السابحة في الازل؟ خالد انتظرك… شمس وسناء)) ( ) فبهذه المؤكدات الحجاجية عبر الاستفهام المجازي(متى) واحضار الغائب، فضلا عن حرف الربط (بل) وهو من (( روابط التعارض الحجاجي، وهذا الرابط يدرج حجة مضادة للحجج السابقة التي تخدم النتيجة )) ( ) القادمة، وهو الذي ينفي ما قبله ويثبت ما بعده، بمعنى انها نفت الخيال واثبتت الحقيقة ثم انها اجملت بقصر الحقيقة توكيدا لبناء الخيال السردي في تكوين الشخصية المنقذة أو النموذجية، التي توجه لها النداء، بمعنى انها شخصية موجودة تعرفها الكاتبة الا انها تنتظر خروجها عبر الاستفهام المتكرر (متى) الذي يحيل إلى الزمن القادم، فهي شخصية نموذجية بنيت بناءا حقيقيا كونها تحمل الصفات التي تبنى بها الهوية العاطفية عبر المقاصد الحجاجية (الاحساس والنبل والجمال والحب والفرح والندى) ومن هنا سيطرت على مخيلة القاريء الضمني في تحويل المعنى لتجعله يؤمن بكل ما سيطرحه الخيال الأدبي لاحقا، فضلا عن ارفاد اسم الكاتبة في المتن الروائي كأنه توقيع يثبت مرجعية الطرح الأدبي، اذ اخذ يختصر المسافة الخيالية ويشير إلى الطرح الواقعي التهذيبي للمتن الذي ينحصر بدلالة الاسم (خالد) الشخصية الغائبة المنتظرة الباعثة للحياة والحب، و(شمس) العطاء الازلي للطاقة والوجود، و(سناء) الباحثة عن هذا الوجود والداعم له عبر شمس/ الخيال، وسناء/ الواقع، ودمجت الاسمين معا عبر ضمير المخاطب (الكاف) (خالد انتظرك.. شمس وسناء)، ان ارفاد اسم الكاتبة في المتن يتناغم مع الواجهة لتشكيل الهوية السردية التي ستطرحها الشخصية الخيالية والتي بدورها اخذت بتبني الافكار التي ستحملها الرواية، وهذه التفاتة حجاجية ناجعة لا سيما انها لم تعط للخيال العلمي اهمية بقدر ما اعطت للعاطفة الكامنة، وهذا ما توهم الاغلب في قراءتها، لا سيما انها اصرت بذلك منذ البدء اذ تقول: (( وحدهم اصحاب القلوب العاشقة من يدركون وجود بعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق ، انا لست ضد ابعاد الطول والعرض والارتفاع والزمان، ولست معنية بتفكيك نظرية أينشتاين التي يدركها ويفهمها جيدا حتى اكثر الطلبة تواضعا في الذكاء والاجتهاد في أي مدرسة من مدارس هذا الكوكب الصغير، ولكنني اعلم علم اليقين والمؤمنين والعالمين…. أن الحب هو البعد الخامس الاهم في تشكيل معالم وجودنا ، وحده الحب هو الكفيل باحياء هذا الموات، وبعث الجمال في هذا الخراب الالكتروني البشع…. انا كافرة بالابعاد كلها خلا هذا البعد الخامس الجميل ، انا نبيّة هذا العصر الالكتروني المقيت، فهل من مؤمنين؟ لاكون انا وخالد وجنيننا القادم المؤمنين الشجعان في هذا البعد الجميل . خالد انا احبك وأحب جنيننا القادم كما ينبغي لنبية عاشقة أن تحب..))( )، ففي هذه العتبة أخذت تتكلم بضمير الكاتبة في البدء ومن ثم راح الخطاب يلتفت للولوج إلى الخيال السردي عبر قولها: (لاكون انا وخالد وجنيننا القادم..) لتستدرج المعنى الواقعي ودمجه في الحدث السردي حتى تندد بهذه النتيجة/ التطور الالكتروني البشع الموازي للموت وما نتج عنه من فراغ اجتماعي وغياب للهوية المجتمعية عندما اصبح افراد المجتمع الواحد في عزلة واغتراب، نتيجة الابعاد الجغرافية (الطول العرض الارتفاع الزمان) واهمال النتيجة الكبرى (البعد الخامس/ العاطفة) التي تعود إلى العنوان بعلاقة حجاجية متينة تخدم المعنى العام للرواية؛ لان (( العلاقة الحجاجية يمكن ان تربط بين حجة واحدة ونتيجة أو بين نتيجة واحدة ومجموعة من الحجج، ويمكن أن تربط بين عناصر صريحة وأخرى مضمرة)) ( ) بمعنى أنها اخذت بالربط بين الابعاد الجغرافية بدورها حججا لمن يبحث عن السلطة وما نتج عنها من خراب بشع، وبين حجة واحدة (العاطفة) ونتيجة كبرى (اعشقُني) وهذا ما دفع بالكاتبة ان تاتي بالنتيجة اولا عبر الصراع بين المادي/ الابعاد الجغرافية، وبين المعنوي/ العاطفة والنصر لصالح العاطفة الخالدة، التي هي مبدأ من مباديء الحياة وهي التواصل الاجتماعي الحميمي الذي اخذ الناس باهماله، فاخذت تؤكد على هذا الفراغ عبر زخم العتبات النصية حتى تحول مفكرة القاريء إلى ما تريد قوله في متن النص، فضلا عن تكثيف الافعال الحجاجية في هذه العتبة وكانها ملخص لمعنى الرواية العام عندما أشارت إلى المرفقات: ((نوع الملف: سري/تاريخ الملف: غير محدد من العام 3010م/ اسم الملف: البعد الخامس/ نوع الحافظة: حزمة ضئية مكتوبة/ نوع الملكية: شخصي س/س/ خ/ للعام 3010م/مصادر لحساب شبكة المخابرات المركزية لمجرة درب التبانة/ مرفقات الملف: زهرة برية مجففة مجهولة الفائدة أو التفاصيل أو الغرض)) ( ) ، والدمج بين الواقع والخيال الأدبي/ العلمي، توثيق للعمل الأدبي بوثيقة مرجعية تدفع المتلقي إلى استلهام النص والبحث عن القادم، اذ تحاول أن تنهض بالمستقبل عندما تورث له زهرة برية حتى وان كانت مجهولة الفائدة والتفاصيل والغرض، فانها قيمة حجاجية لولادة الحياة السعيدة كما تقول شمس في مذكراتها لمولودها الذي سياتي إلى الحياة (ورد) :(( الورد يا جميلتي الصغيرة هو جمع كلمة وردة، والوردة نبات جميل له رائحة زكية، وملمس مخملي والوان جميلة، هذا الكائن النباتي انقرض منذ زمن طويل… على كل حال انا اترك لك في طي هذه الحزمة وردة نادرة، عمرها اكثر من الف عام، هي هدية من والدك، احتفظي بها للقادم من سلالتك البشرية)) ( )، بمعنى ان الحجة تولد اخرى في سبيل تغليب العاطفة على العقل عندما تخشى انه سيطغى على التواصل الاسري المكتوب خطا، ويبقى كاتبوه (س/س/خ… سناء /شمس/خالد) المترقبون لبعثه من جديد؛ لان ( الحب هو البعد الخامس الاهم في تشكيل معالم وجودنا) وهنا تتكيف العناصر الحجاجية العاطفية لتحويل المعنى عن الخيال العلمي، وما يؤكد ذلك قولها في الفصل السادس، نظرية طاقة البعد الخامس وذلك عندما تصفح باسل المهري مذكرات شمس ، فقال خالد:(( يا نفحة من روح الاله، يا نبية الكلمة ، يا نبيتي، اتمنى ان تكوني مستعدة لاستقبالي هذا المساء ، … عشقتك لانك ملأت قلبي في لحضات كان فيه الفراغ يملأ جغرافيتي، أشتهيك : خالد))( )، ثم أن هذه الرسالة مدونة في العام 3010، وتشير في الهامش (( لعل هذه الرسائل من رجل حقيقي اسمه خالد ينتمي إلى زمن مفترض وليست نصوص ابداعية للمؤلفة. خالد وحده يعرف الحقيقة في زمن الكذب، وانا لا املك حق البوح حين يصمت خالد ! ولكن يستحل ان يكون خالد من بنات افكاري، بل هو حقيقة بمعنى ما ، بل هو الحقيقة بالمعاني جميعها، ساعترف من يكون عندما يسمح لي بذلك))( )، فهي بهذه الرسالة وهامشها تفتح الاطار الادبي للنص وتخلط اوراق الخيال المستقبلي مع الواقع ، اذ تحاول ان تجتذب الزمن القادم فتحوله إلى واقع صريح، عبر وشم حجاجي يضرب بكل ما هو خيال صفحا ، فيستعيد النص واقعيته متجاهلا الاطر الزمنية القادمة ، عبر حرف الاضراب (بل) الذي تكرر للاضراب عن الخيال وتوكيد الحقيقة، لا سيما وانها تقول: ( ساعترف من يكون عندما يسمح لي بذلك)، فكانها تقول للقاريء ان هذه الرسائل حقيقية من شخص حقيقي موجود عينا من لحم ودم ، وان كل ما سيطرحه السرد الروائي هو حقيقة، توثيق مستقبلي لعالم معاش، بابعاده كلها ( الطول، الارتفاع، العرض، الزمان) تلك العنوانات التي وضعتها مداخلا لفصولها الاربعة الاولى ، ذلك الكون الروائي بجغرافيته الواسعة يعد فراغا ان لم يملأه الحب وهو البعد الخامس بطاقته الفاعلة التي احالت كل ما هو خيال سردي في ذهن القاريء إلى واقع منتظر ، عبر التفاتة زمنية بتأريخ مستقبلي في عام (3010)، لا سيما وان الخيال العلمي الذي تحدثت عنه الكاتبة في روايتها لا يتجاوز الربع بالنسبة لحجم الرواية موضوع الدراسة والثلاثة الأُخر هي عن طاقة االبعد الخامس وما تورثه العاطفة في تحويل الموت إلى وجه وديع ، وهذا بحد ذاته وضيفة سردية لاستدراج المقاصد الحجاجية.
ومن المقاصد الحجاجية في استدراج المعنى الاستعانة بتوقيعات المشاهير عبر العتبة (( يحدث في عام 3010م: البشر عندهم الغرور ليتظاهروا بان الكون كله جُعل لصالحهم، بينما الكون كله ليس عنده حتى اشتباه بوجودهم. كاميل فلاماريوم)) ( )، فقد استعانة بنص رديف محاولة توثيق توقعاتها في زمن المستقبل بان الانسان بتطوره الالكتروني يحسب انه استغنى، بينما العكس صحيح لانه نكرة، بمعنى انه لن يضيف إلى الكون شيئا بقدر ما انه لو عمل على تتويج العاطفة وبث الحياة، وهذه استباقية احرقت النتيجة التي يتصارع من اجلها البشر، وقيمة حجاجية واجهت بها الجاحدين لطرحها استدعت النتيجة الغائبة لتحول الفعل إلى معنى يفسره السياق والنتائج المعاشة، فهي تبحث عن الإقناع والقبول بتسليم صحة قولها لمن ينكر عليها ذلك ورؤيتها المستقبلية، لذا اتت برديف عبر التنصيص وتوثيق القول لـ(كاميل فلاماريوم) ( )، وهذا التنصيص هو الذي يهب النص قيمته ويدفعه برديف معنوي عندما يضعه ضمن سياق معين حتى يمكننا من طرح مجموعة من التوقعات ويزودنا بالتقاليد والمسلمات التي تمكننا من التعامل معه وقصديات الحدث( )، فالكاتبة تستغل هذا التوقيع للكشف عن الزمن القادم عبر سياقات توجه معنى النص، لانها محاججة بطرح رؤيتها، وللمتلقي الخيار في القبول أو الرفض؛ لان الحجاج (( الآلية الأبرز التي يستعمل المرسل اللغة فيها وتتجسد عبرها استراتيجية الإقناع)) ( ).
جدلية الحضور والغياب :
تتضح جدلية الحضور والغياب في أي عمل لا سيما الأدبي اذا ما كان الاديب يبحث عن مدى قبول طروحاته وافكاره ويبرز ذلك عبر استدعاء الغائب دعما لما يطرحه فضلا عن فرض تجربته على اعتبار أن كل كاتب (( يبدع وفق ثقافته الأدبية الخاصة ، لذا يحرص على ترك مسافة بين انتاجه والاعمال السابقة له، ويسعى إلى أن يكون انتاجه مختلفا عنها بقدر اقترابه منها، ومشابها لها بقدر تجاوزه لها )) ( ) ، فهو يبحث عن الجديد على سبيل فرض القبول وانتاج الحجة، فعندما تبني الكاتبة الخيال الأدبي فانها تعتمد على إضاءة قنديل الجمال والبحث عن المشهد المشترك بين الوجود والعدم، الحضور والغياب كما يقول باسل المهري: ((باختصار ليس امامي الا ان اركع في محراب الفرصة الثانية والاخيرة للحياة، ولو كان ذلك على حساب المسلمات والطبيعيات والمعارف والعوالم والحقائق كلها ، بل وعلى حسابها هي ، ايا كانت الاحوال، وايا كان قراري، فهي في الاحوال كلها لن تبالي بمصير جسدها المنكود، فقد ذاق العدم والنهاية الحتمية، وما كان كان ، ولا اخال أنها ستغضب من ان يبقى جسدها حينا من الزمان خالدا بعد رحيلها عن دنيا الوجود مسجونا بي أو معي، أو ساجنا لي بمعنى اخر، بل قد يفرحها ذلك بمعنى ما)) ( )، دفعت الكاتبة ذروة المشهد إلى الجدلية بين الوجود المادي في ممارسة الحياة وبين الغياب والعدم، فعندما قاربت المتضادات بين التكوين الفكري لشخصيتين رئيسيتين اخذت غريزة الحضور في البحث عن حجة تبرر جدلية الوجود والعدم، حتى راح باسل المهري يقبل ان يسكن جسدا انثويا فضلا عن ان صاحبة هذا الجسد هي من الد اعدائه والذي دفعه إلى هذه الضرورة الحاجة إلى الحضور، بمعنى انه اراد تغييبها فحضرت وهذا ما يخاله عندما قال (ساجنا لي بمعنى اخر) وانه سيبقى حينا من الزمن، اخذ هذا الجسد ممارسة حضوره، وبالمقابل يتنازل الند عن تفكيره الارستقراطي العقلي المحض، عندما يقول: ((ما دام العلم كله والتقدم الحضاري بأسره في الالفية الثالثة من تاريخ البشرية وسلطتي ورتبتي العسكرية الرفيعة ونفوذي الخطير وسيرتي العسكرية المشرفة وطموحاتي العملاقة ومآثري المزعومة لا تستطيع جميعا أن تهبني لحظة حياة إضافية )) ( )، اذ احضرت الكاتبة على لسان الشخصية مقومات الحضور/ السلطة بالقابها المختلفة بافراط حتى تغيبها ضمنا وتتعالى الذات الانثوية بالمقابل في إحياء الآخر لتشكل جدلية البقاء والحضور، وعبر هذا الخطاب الحجاجي يتم تغييب الخطاب العقلي/ الذكوري الاستعلائي وحضور الخطاب العاطفي/ الانثوي ما دام أن باعث الغياب هو حضور انثوي.
ثم ان باسل المهري قد تجاهل تنازعه في الجسد الانثوي الجديد عبر التكوين الفيزيائي فضلا عن الية التورط في الخضوع لغريزة البقاء/ الحضور وذلك عندما يتحسس جسده بعد اجراء العملية واذا به قد تغيرت تفاصيله الذكورية إلى تفاصيل انثوية لأول حركة تفقدية ليديه( )، لتكشف الكاتبة اللثام عن التابو وتجعله من المسلمات العلمية بين الجنسين لا سيما وانه من اليات التواصل الحميمي/ العاطفي، الذي استخدم كوسيلة انتصار (( عندما هزمته وهزمت دولته كاملة، وبقيت على قيد الحياة على الرغم من انوف الجميع فهي لم تخلق للعدم)) ( )، أي لم تخلق للغياب لذا راح يتساءل عن كيفية التعايش مع هذه الجدلية الحتمية في نظره عندما يقول له الطبيب: (( أنت منذ الان باسل المهري يبعث من جديد في جسد اخر…. أليس هذا الشكل الانثوي متناقضا مع اسمي وعملي وحياتي بل وذاكرتي؟))( )، اذ لم تكن التناقضات فيزيائية وحسب، بل تناقض كلي، وعليه ان يقبل به اذا ما اراد النجاة، حتى أخذ بعد ذلك بالتسليم للخطاب الغائب كما في قراءته لمذكرات الحب بين (شمس وخالد)، كقول خالد: (( هل تعلمين لماذا اكرر كلمة احبك الف مرة، لانها تختزل تجربة الانسانية كلها في ممارسة الحب والجنس، أنا مستعد أن املأها باسمك وحدك، بحبي لك وحدك بجسدك وفتوتك وبهائك ورائحتك ونظراتك وعناقاتك يا شمس، اشتهيك كما اشتهى الفلاسفة نهاياتهم… احبك وأحب ان اقبلك قبلة بشفاهي واصابعي وجسدي، وأن ارسم في كل حيز من جسدك صمتا مقدسا يغري العالم بأن ينتفض ضد العالمين: القديم والحديث . أشتهيك : خالد)) ( )، وكذلك قول شمس: (( حبيبتي ورد، البشر انواع، جلهم مخلوق من خليط الشر والخير، وقليل فقط مخلوقون من الحروف والكلمات، أي انهم كائنات لغوية، خالد وانا مخلوقان من الكلمة…. بارعان في فهم جمال القلب، وأول عاشقين في هذه الالفية، نحن من أعدنا زمن العشق الجميل إلى ذاكرة البشرية، ونحن من اثبتنا ان البعد الخامس قادر على تغيير سلوك الجزئيات)) ( )، وعبر هذه العاطفة يتواشج الخطابان الغائب والحاضر في سبيل التعايش بجمال وذلك عندما ينتمي باسل المهري إلى هذا الخطاب كما في مخاطبته جنينه قبل الولادة : (( امك لا تعرف انك ذكر، هي تظنك فتاة، لكن والدك سيعرف أنك رجل استثنائي مثله، هل تحب والدك يا ورد؟ عليك أن تفعل ذلك، أنا أحبه كثيرا، وأحب أمك اكثر، أقول لك سرا؟ أنا اعشق امك، أنا اعشقني بقوة)) ( ).
اذ شكل هذا التوافق الفكري نتيجة حجاجية عبر الخيال الأدبي بلغة شعرية مختارة اثمرت بترويض العقل والرجوع إلى اليات التواصل البشري لا سيما ان التواصل الاجتماعي اعلى مرتبات الحياة التي تخالها الانثى من الانقراض لذا هي تعتمد على طرح مسلمات الخوف عبر التطور البشري اذا ما كان الانسان سيستفحل بعقله ويذر القيمة العاطفية.
فانها دمجت افكار شخصياتها عندما قدمت افكارها واشارة إلى النتيجة/ الهدف/ الحياة فجعلت تستدرج خطاب تلك الشخصيات حتى تصل إلى الية الاندماج والهروب من العقل إلى العاطفة، عبر دلالات مفتوحة في تخصيب الحضور المتمثل بزمن الحب والجمال كما في المذكرات بين العاشقين وهو الزمن الذي تحتاجه الانثى، بالتالي تماشي الرافض لها في البدء مع ما كتبته غيابا دفع بها إلى الحضور من اجل تقييم الحياة، والاجابة عن السؤال: فضلا عن السبب العبودي، لماذا نحن موجودون؟ للتعايش السلمي وتكريم الذات بتواصلها الاجتماعي حتى تتوحد الرؤية في بناء السلام، اذا ما كان نفوذه يدفعه إلى إحياء آلية الموت اصبحت له نقيضا في بعث الحياة، وبناءا على ذلك ارادت الكاتبة أن تبعث هذه الحياة في الموات الاجتماعي وتروض الحداثة بولادة طبيعية تحت أنظار باسل المهري، بولادة طبيعية جديدة مخالفة للحداثة.
وعبر ذلك الطرح السردي تتحول نتيجة الابعاد الجغرافية بمعانيها( انا لا اعشقك) بحجة انا ( ضد ثورتك المناهضة للحياة، لانني ذكر) إلى نتيجة سلمية ابدية ( انا اعشقك) بحجة اصبحت( انا عاطفي، انا انثى) وما نتج عن ذلك انا اعشقني/ العاطفة الخالدة المتحدة.