في حفل طارق الجندي مع الأوركسترا الوطنيّة بقيادة المايسترو محمد عثمان صدّيق كان هناك كرنفالاً باذخاً للأشياء الجميلة الحاضرة جميعاً ببهاء في آن قلّ أن يجود الزّمان بمثله،من الصّعب فلسفيّاً ومنطقيّاً وجماليّاً أن تجتمع فكرة الجمال في قطاع زمانيّ أو مكانيّ أو حدثيّ واحد،ولكنّني أستطيع أن أزعم أنّ ذلك قد حدث بامتياز وإبهار وتجلٍ في تلك الحفلة التي احتضنها الرّوح الأزليّة البهيّة في مدرّج عمّان في ليلة قمريّة صيفيّة من ليالي عمان المحبّة والجمال.
اعتدتُ على أنّ أحضر حفالات الأوركسترا في أنحاء مختلفة في العالم،ولكن إحساسي بحفل البارحة كان مختلفاً جدّاً؛فهو لم يكن إحساس متولّد من الإعجاب والتمتّع كما هو حالي في دائم الأحيان،بل امتدّ وعظم لينساح في مساحات الفخر والتّقدير والسّعادة والتفاؤل الذي بدأ في اللّحظة الأولى من تلك الدّعوة التي جاءتني بفرح وفخر من طالبي الذي درّسته في مرحلة البكالوريوس في الجامعة الأردنيّة،وكنت لا أراه إلاّ وهو يحمل كمانه الأثير،ويحنو عليه بحركاته،ويصمّم على أن يأخذه إلى كلّ محاضرة يحضرها في الجامعة،وكأنّه سلاحه وقوته في هذا الوجود المعقّد الخاذل.ذلك هو طالبي الموهوب بالعزف على الكمان ” عبد الهادي جعفر” الذي بزّ أقرانه،وطار نجمه سريعاً في دنيا النّغم،وانضمّ إلى أوركسترا الفنان الموسيقيّ الأردني المجيد أ. طارق الجندي.
كنتُ أفكّر ابتداء عندما حضرتُ الحفلة بدعم طالبي الموهوب الذي صدق وعده لي،ولحق حلمه،وبدأ يدرج في رحب الإبداع،لقد شعرتُ بفخر كبير به،وبأمثاله من طلبتي الموهوبين،ولكن سرعان ما امتدّ اهتمامي وفخري لكلّ مكوّن من خلطة السّحر والجمال والفتنة الفرح في تلك اللّيلة التي تكوّنت من طاقم أوركسترا الفنان طارق الجندي و كلّ أرواح مدينة عمان التي شهدت تلك اللّيلة الخمرية التي تزرع التحليق نحو عنان النّعم في روح كلّ من حضر.
في أوّل الحفل طلب الفنّان طارق الجندي من الحضور الحاشد أن يساعده في اختيار اسم لألبومه الموسيقي الجديد الذي أبدعه ليقدّم بعضاً من مقطوعاته ومقطوعات أخرى من ألبومات سابقة،ثم أهدى الجمهور الحاضر 11 مقطوعة موسيقيّة جاب بها الأرضين الشّاسعة والسّماوات العلا،وحطّ بها في ألق المكان التّاريخيّ الجاثم على أسرار المكان والتّاريخ والعابرين في الكلمة والنّغم،وانتهى الحفل،وبقي الطّلب مشرعاً على الاحتمالات جميعها،والآن لي أن أقترح أن يكون اسم الألبوم ” أرواح المدينة” لأنّ هذا الألبوم فتح عينيه المسحورة على أرواح مدينة عمان الذين احتشدوا في المكان ليشاركوا في قدسيّة هذه الولادة السّرمديّة لبهاء النّغم.
لقد حلّق الفنّان طارق الجندي بجمهوره نحو سامق الاستمتاع والتّماهي مع موسيقاه بانسجام قلّ نظيره بينه وبين طاقم الاوركسترا الذي بلغ نحو أربعين عازفاً وعازفة من جهة،وبينه وبين الجمهور من جهة ثانية،وبينه وبين قائد الاوركسترا المايسترو المبدع محمد عثمان صدّيق من جهة ثالثة،وهو من قدّم نموذجاً خاصّاً من القيادة الموسيقيّة؛فهو لم يقدْ العازفين في سهوب الأنغام فقط كما هو دوره القياديّ الموسيقيّ،بل هو قاد الجمهور إلى تجليّات التّلقيّ والتّجاوب،حتى أنّه كان يختار اللّحظات المناسبة لتفاعل الجمهور بالتّصفيق المرافق للموسيقى،وينظّم لهم هذا التّفاعل ليصبح التّصفيق المرافق من الجمهور على وقع حركات يديه جزءاً من المقطوعة الموسيقيّة،وهو من كان يستدير نحو الجمهور من وقت إلى آخر ليدير تصفيقه وانفعاله بذات الحرفيّة التي يقود بها الطّاقم الموسيقيّ،والعجيب أن الجمهور كان متجاوباً مع هذه القيادة له،وكان يربط تدفقاته وتلقّيه على وقع حركات يدي المايسترو محمد عثمان صدّيق،وكأنّه تدرّب على ذلك تدرّباً طويلاً ودقيقاً.
الانسجام كان حادي الرّكب في تلك اللّيلة؛فطارق الجندي كان يعرّف بكلّ مقطوعة يقدّمها تعريفاً غير عادي؛إذ أنّه لا يكتفي بذكر اسمها،وتقديم ظلالها التّاريخيّة ومنابعها،بل يحدثنا عن علاقتها النّفسيّة والتّاريخيّة به،وعن ظروف ولادتها في نفسه؛لقد كان يشاطرنا نفسه وتجربته كما يشاطرنا موسيقاه وإبداعه،فزاد ذلك من سطوة شعور الاندماج والانسجام والتّعالق والتّلقّي العملاق،وهو أمر انعكس إيجابيّاً على لحمة العازفين المبدعين الذين شاركوا في صنع كرنفال النّغم،وطاروا بالجميل نحو سماوات الموسيقى المستلقيّة في حضن المدرّج الرّومانيّ الذي يعيد بها أمجاده التي تعجّ بالفنّ وأهله ومحبّيه.
والجمهور الحاشد الذي حضر حفله كان جزءاً من فسيفساء تلك اللّيليّة العمّانيّة بامتياز،لقد جاءوا من كلّ مكان،يتسارعون نحو مقاعدهم الحجريّة كي يعيشوا هذه اللّيلة،لقد أكّدوا بأنّ قطاع النّخبة في الأردن هو قطاع جماهيريّ عملاق،وليس محدوداً؛فالشّعب الذي يتدافع لأجل أن يحضر حفل أوركسترا هو شعب نخبويّ بامتياز،لا سيما أنّ الأمم تقيس تقدمها وحضارتها بمسارحها وجمهور تلك المسارح،وجمهور تلك اللّيلة كان لافتاً للنّظر ومثيراً للإعجاب؛لقد حضروا أفراداً وأسراً؛جاء الكبير والصّغير،الأم والأب والأبناء،الأسرة كاملة ،والأصدقاء جميعهم،النّساء الحوامل،والمسنّون الذين يعرجون على عصاهم،وأصحاب الحالات الخاصّة من سكّان المقاعد الرّماديّة المتحرّكة،حتى الأطفال حديثي الولادة جاءوا محمولين في الأحضان أو مستلقين في عرباتهم المتحرّكة،الأردنيون من الأطياف جميعها اجتمعوا على لحظة الفنّ،واستضافوا الكثير من العابرين في المدينة من مصطافين وزائرين وضيوف وغرباء.
أمّا الطّاقم المنظّم للحفل فكان زمرة كبيرة من الشّباب والشّابات الذين تفانوا في تقديم التنّظيم والخدمة والمساعدة لكلّ الحاضرين ليخرج الحفل في بهاء آسر،وهذا ما كان بحقّ،وفي الخارج كان الطّاقم الأمني الأردنيّ من نشامى الوطن يحرسون هذا الفرح من أيّ عبث أو اعتداء أو إزعاج.
وفي الكواليس كان هناك عدد عملاق من الذين كرّسوا جهودهم من مؤسّسات وطنيّة رسميّة وشخصيّة ومن كوادر خدمات لتكون ليلة موسيقيّة خالدة من ليالي عمان الصّبوحة التي تجثو في محراب جمال المدرّج الرّومانيّ،وتراقبها القلعة من علٍ بشموخ واعتزاز.
لقد كانت ليلة ” أرواح مدينة عمان” وهي أرواح جميلة،تسير خلف أطياف الموسيقى التي تقودها نحو السّمو والفرح.ولذلك أقول لك يا طارق الجندي ما رأيك باسم ” أرواح المدينة” عنواناً لهذا الألبوم الموسيقي الذي قدّمته لنا عبر 11 مقطوعة موسيقيّة انحفرت في الوجدان والذّاكرة والإحساس؟
—