“إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا” الأحزاب 33
قمت بهذه الرحلة المباركة إلى العتبات الشريفة في لبنان في شهر تشرين الثاني من عام 2018 ولم أكتب عنها في الحين ربما لأن الكتابة بسرعة تذهب بسرعة فمن المفيد ترك تلك المشاعر والرؤى تطبخ على نار الزمن والزمن كفيل بكبح جماح الانفعال وترشيد تلك الرؤى فتأتي الكتابة موضوعية وهو مذهب يراه كثير من الكتاب والنقاد ناصحين بعدم التعجل في الكتابة. لكن تلك الزيارة ظلت تعطر الروح بأريج نفحاتها القدسية وتملأ القلب والعقل كلما خلوت بنفسي متأملا في ذلك الوهج القدسي وتلك المشاعر الإيمانية الحارة التي تترك أثرا خالدا في النفس لا سبيل لوصفه بالكلمات إنما الكلمات تقرب بل هي حجاب تحتجب وراءه الحقيقة ، في الطريق إلى بعلبك مررت وجماعة من الأصدقاء الكرام ونحن نغادر جنوب بيروت بمخيمي صبرا وشاتيلا وتذكرنا تلك المذبحة التي راح ضحيتها المئات من الأبرياء عام 1982 وتبقى تلك المجزرة شاهد على همجية العالم وتوحشه ،في الطريق إلى بعلبك تلك المدينة التاريخية الخالدة مدينة الشاعر خليل مطران أحد رواد الرومانسية في الأدب العربي الحديث ومن منا لم يقرأ شعره الخالد فتهتز نفسه لبهاء الشعر وسمو المعنى ولطيف الإشارة ظل ذلك القلب المطراني طافحا بالحب والصدق والإخلاص على الرغم من آلامه العديدة:
ثاو على صخر أصم وليت لي** قلبا كهذه الصخرة الصماء
ينتــــابها موج كموج مكارهي ** ويفتها كالسقم في أعضائي
ظللت أهمس بالبيتين لنفسي ونحن نمر بشتورة ثم زحلة ومن منا من قراء الأدب لم تهزه كذلك ذكرى زحلة ومصيفها الخالد ذلك المصيف الذي خلده أمير الشعراء شوقي:
شيــــعت أحلامي بقلب باكولمحت من طريق الملاح شباكي
يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك
عرجنا في الطريق على قرية شيث بقلب سهل البقاع من قضاء بعلبك وهي القرية المنسوبة إلى نبي الله شيث بن آدم ويعود تاريخ بلدة النبي شيت إلى ما يزيد عن ألف عام اسمها يرجع إلى نبي الله شيث ثالث أبناء آدم بعد قابيل وهابيل وهو من الأنبياء السريانيين وهتف الرفاق لابد من زيارة مسجد شيث الذي يستقبلك شامخا عند مدخل قرية شيث بصومعته الباذخة وبالآيات القرآنية التي زينت جدرانه حين دخلنا فوجئت بقبر طويل يمتد لأمتار سألت القيم قبر من هذا؟ قال هذا قبر نبي الله شيث بن آدم لا تتعجب من طوله فقد كان طول قامته أربعين ذراعا، مسجد بسيط في قرية وادعة مسالمة من قرى لبنان قبل أن نخرج أهدانا القيم كتابا هو الصحيفة السجادية وهو عبارة عن أدعيه منسوبة للإمام زين العابدين بن الحسين – رضي الله عنهما – ومسبحة وودعناه مواصلين الطريق إلى بعلبك ولكن بعد المرور بمسجد السيد الشهيد عباس الموسوي ثاني أمين عام لحزب الله ذلك الشهيد الذي اغتيل مع زوجته (أم ياسر) سهام الموسوي وابنه الصغير حسين يوم 16 شباط من عام 1992 هنا ينتشر عبق الشهادة وأريج البطولة ونسمات الفداء الطيبة وجدتني وأنا أطوف بالمقبرة المحاذية للمسجد أتامل قبور الشهداء وهم شباب في ميعة العمر ونضارة الصبا سقطوا كلهم شهداء هم شهداء المقاومة الذين وهبوا أرواحهم لنصرة الحق والتضحية في سبيل الكرامة والحرية وجدتني أهيم على وجهي بين القبور متأملا الصور وتواريخ الميلاد والشهادة وأنا أتلو قوله تعالى :”من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا “مازالت سيارة الشيخ عباس الموسوي وهى محترقة ولم يبق منها إلا الهيكل بعد أن استهدفها صاروخ حراري إسرائيلي أطلق من طائرة مروحية فقضى على من بداخلها وأحرق تلك السيارة وأنت تدخل المسجد تملا عليك مشاعر غامضة قوية أقطار نفسك كان المسجد فارغا من المصلين ولكنه عامر بقيم الحق والبطولة و مشاعر الفداء والتضحية ،أريج طيب ينبعث في أرجاء المسجد الفخم فتأبى أن تغادر وتصر على البقاء هنا نفسك تريد البقاء لأنها تتصل بقيم الحياة العليا الشهادة، التضحية ،الفداء البطولة، الترفع عن شهوات الدنيا وحطامها الفاني مكثنا طويلا ثم غادرنا مواصلين الطريق باتجاه بعلبك بعد المرور بمسجد السيدة خولة وهو مسجد فخم يظهر مدى الاحتفاء بآل البيت الكرام كما في مسجد الحسين ومسجد السيدة زينب بالقاهرة والمراقد المقدسة في كربلاء وفي الكوفة أفواج من الزائرين والزائرات تتوافد على المسجد في سكينة وخشوع مصحوبين بأطفالهم فزيارة هذه المساجد تظهر مدى التعلق بآل البيت وحبهم الشديد الذي هو من الدين وقد وقر في أذهان الكثيرين أن الزيارة إذا كانت مقترنة بالإيمان والنية الخالصة تحقق للزائر منيته من شفاء أو نجاح في الدنيا أو هداية ولذا ترى الكثيرين ممن يحرصون على هذه الزيارات استجلابا للعافية ودرء للبلاء ولكن في كل مساجد آل البيت تقترن بالمحنة التي تعرضوا لها والبلاء الذي أصابهم وهم بقية الرسول -عليه السلام -في هذه الدنيا وطالما حفلت الكتب بتعداد ما أصابهم منذ كربلاء وما أصابهم منذ حكم بني أمية وبني العباس والقصائد الطوال التي دبجها الشعراء حبا لآل البيت وتضامنا معهم واقتداء بسيرتهم. ظلت الرائحة الزكية تعطر الأنوف واللحظات الإيمانية تملأ القلب والروح ونحن نطوف في هذا المسجد الفخم العامر مسجد السيدة خولة – رضي الله عنها- في لبنان،ولربما تساءل البعض كيف وصلت الصبية الصغيرة خولة بنت الإمام الحسين إلى لبنان؟ والجواب أن الإمام الحسين حين قتل مع أهل بيته في كربلاء نجا منهم بقية كانت منهم الصبية خولة –رضي الله عنها- التي سارت مع أخيها الإمام السجاد باتجاه الشام هروبا من بطش زبانية يزيد وكان من الطبيعي أن تسير تلك القافلة التي تضم ما بقي من آل البت الكرام بمحاذاة الأنهار والأشجار حتى لا تهلك من العطش وهكذا سارت باتجاه الشام حتى بعلبك حيث وافى الصبية خولة –رضي الله عنها- أجلها فماتت هناك ودفنها الإمام زين العابدين هناك وغرس إلى جانبها شجرة صغيرة لتدل على قبرها وتمر الأيام وتطمر المياه القبر وتنمو الشجرة وتكر القرون حتى تروي إحدى القصص أن مالك ذلك البستان رأى في المنام السيدة خولة تخبره أنها بنت الحسين وأن الماء غمر قبرها وأمرته برفع القبر وإخراجه من ماء الساقية واستجاب الرجل بمعية سكان القرية ودفنوا الصبية في مكان مرتفع وضربت لها قبة وصارت القبة مزار مقدسا ومن عجب أن الشجرة العملاقة مازالت إلى اليوم مشمخرة مرتفعة إلى عنان السماء وقد مر عليها قرون ولعها عجيبة من عجائب آل البيت الكرام أولئك الذين نال منهم الآخرون شر منال وغدت سيرتهم مثالا للابتلاء والمحنة والفداء . وتلك هي رسالة الحياة فليست إلا الصبر على المكاره وبذل النفس في سبيل نصرة الحق والاعتراض على الباطل والوقوف في وجهه كما وقف سيد الخلق – محمد عليه السلام ثم سيد المجاهدين الإمام علي -كرم الله وجهه- وبقيته الصالحة من آل بيته سيد الشهداء الحسين – رضي الله عنه- التي ترك باستشهاده العاطر في كربلاء قصة خالدة للفداء والتضحية والصبر على المكاره والعطش وتعب المسير من أجل الحق الذي أرادت طمسه جيوش الظلام والعصبية .
في الطريق إلى بعلبك وفي البقاع عموما لا تنفك شعارات المقاومة وصور الشهداء تملأ جوانب الطريق وهو ثبات على الحق الذي أراد الغزاة الصهاينة طمسه مستعينين في ذلك بجبروت الغرب وغطرسته وجحيم الآلة الحربية وافتراء الدعاية الإعلامية وفي غفوة الضمير الإنساني الذي استسلم للخداع الغربي الصهيوني فنفض يديه من مسألة الحق المقدس وإنها لوصمة عارفي جبين الإنسانية المعاصرة أن تبقى الأراضي العربية نهبا للاستيطان وتبقى قوافل الشهداء وحدها تعترض على الباطل وتصر على الحق ولو كره الكارهون.
استقبلتنا بعلبك بأطلالها التاريخية في يوم مشمس بارد قليلا واستقبلنا شاعرها الغريد خليل مطران بتمثاله الشامخ وهتفت لتفسي:
والبحر خفاق الجوانب ضائق ** كمدا كصدري ساعة الإمساء
يا للغروب وما له من عبرة ** للمستهــــــــــــام وعبرة للرائي
أو ليس نزعا للنهار وصرعة**للشمـــــــس بين مآتم الأضواء؟
حين عدنا إلى بيروت كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تخترق الأجواء اللبنانية أشار السائق إليها وفي نفسه ما بها الحسرات وفي نفوسنا كذلك لولا العطر الذي ملأ أرواحنا من بقية الزيارة لتلك العتبات الشريفة في لبنان ويبقى ذلك البلد جامعا بين أريج العتبات الشريفة وشرف المقاومة والإباء والحرص على الحرية والكرامة.