تُطرح في أوساط المهتمّين بالقضايا الدينية تساؤلات بشأن الدور الوظيفي للمخزون الروحي للأديان في بثّ السكينة في مجتمعات تعاني من حالات الثوران، وذلك في ظرف مشوب بالارتباك والاضطراب. فهل بوسع نهج التصوف وسائر التجارب الروحية، الإسهام في تخفيض منسوب القلق والخوف والعنف الذي يجتاح عالمنا؟ صحيح أن التجارب الدينية متنوعة، ولكن يبقى التطلّع الجوهري لمختلف أصنافها متلخّصا في السعي لدحض القلق العميق الذي يكتنف عالم الإنسان، أو بحسب تعبيرة هايدغر لتخفيف وطأة الوجود الذي قُذف فيه وأُسلم للموت.
ففي أدبيات الدراسات الدينية المنضوية تحت علم الأديان، صيغت جملة من التفسيرات بشأن طبيعة التجربة الدينية وفحواها، هل هي فطرية أم اجتماعية أم نفسية؟ بلغ فيها الأمر حدّ اعتبار الدين حالة باثولوجية، لكن ما هو ثابت وملازم في هذه الرحلة الوجودية، التصاقها بأطوار الكائن البشري، منذ أمد بعيد، وهو ما أوحى بنعت الإنسان بالكائن المتدين (homo religiosus). لكن التجربة الروحية، في خضمّ التجارب الطقوسية والتشريعية والاجتماعية، هي ما يعنينا بالأساس، بوصفها تجربة ذوقية تجلى من خلالها الدين، فهل ثمة حاجة فعلية لذلك الخيار في راهننا؟ إذ صحيح أن مجمل الأديان، وحتى التي لا ينطبق عليها مفهوم الدين المتكامل، قد شهدت في أحضانها منشأ ظاهرة التسامي الروحي بين صفوة من أتباعها، ممن يذهبون إلى غور الإيمان، يبتغون وجهه الكريم ولا يقفون عند حدود المرئي الطقوسي أو التقعيد العقدي، وقد رُصد ذلك سواء لدى شامان سيبيريا أو لدى نساك الصحارى، مرورا بتقاليد دينية أخرى.
موسيقى الروح الجامعة
حيث يسود في أوساط تلك الصفوة انسجام مع الكون، وتغمر حلقاتهم أجواء سكينة وفيض محبة، ما يشي بوحدة نبضات قلب الروحاني وتوهّج روحه وإن تناءت المسافات وتباينت المجتمعات. ويتلخّص عمق التجربة في حضور فاعل في الوجود، عماده المحبة والإجلال للكون وما حواه، وليس حضورا سلبيا باهتا. إذ ثمة انسجام للأنا مع الكون، يصحبه رضا السالك. ولو تمعّنا الأمر، فمفردة (mystique) في اللغات الغربية، التي عادة ما تترجَم إلى العربية بالتصوف، هي معراج نحو العجيب ومرقى مؤداه إلى الجليل، تطبع سالكه روح شفافة يضنيها العشق، لما يكابده من شجن من شروط عيشنا وضيق تصوراتنا مدفوعا في ذلك بالشوق والوله عبر تطوافه.
في هذا السياق، تمثّل “موعظة الجبل” في التراث الإنجيلي مشروعا روحيا خالصا، يتأسس في ضوئه الترقي الروحي الأكبر. فلا يمكن الحديث عن قرب لله تعوزه المحبة. حيث تحدد تطويبات موعظة الجبل: طوبى للمساكين.. طوبى للحزانى.. طوبى للودعاء.. طوبى للجياع والعطاش.. طوبى للرحماء.. طوبى لأنقياء القلوب.. طوبى لصناّع السلام.. طوبى للمطرودين، التي صدح بها المسيح، المنطلقَ الجوهري لتطهير الكائن. ولذلك منذ عهد الإمبراطورية الرومانية التي عايشها الناصري إلى لاهوت التحرر الحالي في أمريكا اللاتينية ثمة محورية روحية لموعظة الجبل.
من جانب آخر، تبدو صرخة المسيح وهو يُجرّ إلى الصليب آسرة لعديد الصوفيين في التراث المسيحي: “إيلي إيلي لِم شبقتني”، أي “إلهي إلهي لِم تركتني”، وهي صيحة جزع وفزع تقرع مسمعيْ السالك الرباني في خياره الروحي وفي معراجه الطهري. حيث يتحوّل التسامي إلى تجربة يكابد فيها المرء الفزع الأكبر، وهو عمق الاختبار وِفق جون دي لاكروا. لكن تلك التجربة ترفقها حالة وجْد يعيشها الصوفي، “نحن في نعمة لو علمها الملوك لجالدونا عليها” كما لخّص فحواها إبراهيم بن أدهم في قوله المأثور. إذ ثمة كبَدٌ مرفوق بوجْد جارف يستحوذ على الصوفي، “ركعتان في العشق لا يصح وضوءهما إلا بالدم” كما قال الحسن بن منصور الحلاج. وهي أوضاع كونية ارتوى أهلها من نبع واحد، حيث نجد تريزا الآفيلية تصف تلك الحالة بقولها: “الوجْد قضاءٌ لا مردّ له، تُنتزع فيه الروح من الثرى بيدِ الله كما تختطِف الكواسر طريدتها دون أن تدري إلى أين المساق. وبالتالي لا بد من رباطة جأش لمتابعة المسار، إذ غالبا ما حاولتُ دفع الوجْد، مقدّرةً أنه وهْم، ولكني أجدُ نفسي صريعة كأني أغالب ماردا”.
في هذا الترقي الروحي ميّز المفكر الكاثوليكي روبرت شارل زاهنر بين تصوف طبيعي منقوص، وتصوف ما فوق طبيعي مكتمَل. حيث الأول وإن لازمه تسامي الروح التي تعانق الحرية والانفتاح على المعرفة، فهو ينتهي إلى حدود الخلط بين ذات الكائن المحدودة وذات الألوهية المطلقة؛ في حين الثاني فهو تصوّف يخرق حجب الأسرار في علاقة المحبة الواصلة بين الباري وعبده، بما يشبه الصحراء الساكنة التي لا مكان فيها للاختلاف، كما تجلى الأمر للمعلم إيكهارت.
بحثا عن الغنى الأكبر
من هذا الباب أغوى الزهد طائفة الصوفيين، ليس إعراضا عن عرض الحياة الدنيا، وهو في متناول أيدي كثيرين، بل احتجاجا على عالم يدنّسه الحيف ويستنزفه الجشع. القديس الكاثوليكي فرانسيس الأسيزي، سليل الأثرياء، تركزت دعوته في مستهل تجربته الروحية في الزهد بوصفه نمط حياة المسيح. سعى جاهدا في تقليد الناصري والسير على منواله أملا في الإمساك بروح المسيحية. هكذا توهّم الأسيزي، أو سمع، أو أوحي له: “قم يا فرانسيس ورمّم بيتيَ المتداعي للسقوط”، ناداه المسيح بتلك العبارات في كنيسة سان داميان، فانقلبت حياته رأسا على عقب وهجر حياة الفرسان مختارا أن يكون في كوكبة “فرسان الودعاء” ليفوز بالملكوت، وهو ما دفعه إلى هجران زينة الحياة والعيش في فاقة. ولعل ما فاقم أزمة فرانسيس حينها عودته الخائبة من بلاد “الميرامولينو”(أمير المؤمنين) في المغرب، التي طلب فيها الشهادة على أيدي “المحمّديين” فلم يفز بمراده، فارتد عنفا وقمعا على هيكل جسده لإنهاكه. لكن الأسيزي، وِفق فرويد، ليس ضحية جنون بل ضحية وهْم، فالاعتقاد الآسر في المسيح ليس مثبَتا ولا مدعما بل يستجيب ويتلازم مع رغبة باطنية، ولا أحد منا قادر على أن يعيش بدون أوهام.
بَيْد أن ذلك الشجن الآسر المستحكم بذات الصوفي جعل ثلّة من علماء النفس يصنفون الأمر ضمن الباثولوجيات المرضية؛ ولكن التصوف مرضٌ جميلٌ في عالم نحسبه معافى، وفي واقع يطبعه خواء روحي ينفتح على هوة غائرة لا يراها إلا أصحاب الأرواح الشفافة ممن يسعون بنور الحقّ.
والجلي أن الصوفي خلال رحلته تلك غالبا ما يغرق في هاجس إنهاك الجسد بالرياضات الروحية، بدعوى التطهر والتسامي، وهو بالأساس احتجاج عميق على انحصار الإنسان في الظاهر وغفلته عن جوانيته وعلوه. لذلك مثّل التصوف من منظور سوسيولوجي زفرة احتجاج للروح في عالم مضطرب يبحث عن تماسكه. فأثناء تفاقم أزمة الإمبراطورية الرومانية انتشرت ظواهر الزهد والنسك والاعتكاف. وفي الشرق، مهْد التصوف المسيحي، نشأت أكثر الأشكال غرابة في ترويض الجسد وكبح جماح النفس. يروي لنا المؤرخ الإيطالي جورج رافينياني صفحات جميلة عن ذلك الفوران في كتابه “الحياة اليومية في نهاية العالم القديم“. فقد كان يعقوب السوري يقف تحت الثلج المتساقط أياما حتى يغمره؛ وكان أحد مجايليه يقيم الليل حاملا على كاهله جذوع الشجر. أما ماكاريوس الإسكندري، فكان يطلّق النوم بقصد تعزيز قدرات التزهد لديه. وصادف أن لسعته بعوضة وهو قابع في صومعته، فسحقها بيده: لكنه أدرك للتوّ أنه مذنب فأدان نفسه بالوقوف ساكناً عارياً في مستنقع، فريسة للبعوض. أما القدّيس سمعان العمودي، ففي بداية موسم الصوم الكبير، عزل نفسه داخل صومعته بجدار ومعه عشرة أرغفة خبز وإبريق ماء، وبعد أربعين يوماً، وجدوه على وشك الهلاك، ولم يكن مسّ طعامه طيلة الوقت.كانت الغاية من تلك المعاناة تهدف إلى التحكم بالعواطف.
الرياضات الروحية فنون
كما يعود الفضل إلى الشرق في نشوء مختلف أشكال الترويض للجسد على غرار الرهبان “آكلو النباتات” (boskoi)، الذين يهيمون في الصحارى كالأنعام، و”الشجريون” الذين يتخذون من الأشجار سكناً، و”العموديون” الذين تنحدر تسميتهم من العبارة اليونانية (stylos)، أي العمود. فقد اختار هؤلاء الخلوة فوق الأعمدة على علو شاهق طلبا للتزهد. كانت الممارسة قد نشأت في سوريا بمبادرة من القدّيس سمعان الكبير، الذي اعتلى عمودا قرب أنطاكية عام 422 ومكث هناك حتى وافاه الأجل عام 459م. وكما كان العهد بالكثير من معاصريه، صُعق يوماً بفقرة من الإنجيل فقرر الانعزال. بعد قضاء ثلاثة أعوام في صومعة، تحول سمعان إلى تلة قريبة (تدعى اليوم قلعة سمعان) فشيّد جداراً دائرياً تموضع بداخله مكبِّلاً قدمه بسلسلة طويلة مثبتة بحجارة ضخمة من طرفها الآخر: هكذا حبس نفسه ليكرّس وقته للتأمل، وما فتئ أن خطر بباله يوما تسلّق عمود، فكانت هذه البداية العرضية لشكل من التزهد صار تقليدا يحتذيه كثيرون في بيزنطة، حتى استحوذت العمودية على الرهبان البيزنطيين. فالقدّيس سمعان العجوز قارب السبعين عاماً، أمضى منها تسعة وثلاثين على العمود، وكذلك القدّيس دانيال الذي عاش أربعة وثمانين عاماً، في ثلاثة وثلاثين منها مسكنه العمود، والقدّيس سمعان الشاب الذي وافته المنية عام 597م بعمرٍ يناهز الستة والسبعين عاماً، قضى منها ثمانية وستين عاماً فوق أحد الأعمدة.
ولفرط وعورة ذلك الدرب أحيطت حياة المتصوفة بالخوارق والمعاجز شرقا وغربا، فبوذا الذي يقتات بحبة أرز يقابله الروحاني المسيحي القانع ببرشام (خبز القداس)، وهو ما لا يسدّ رمق حشرة. ولكن هذه الغرائبية في السلوك الصوفي ووفرة الكرامات المذهلة إلى حد الريبة، ينبغي ألا تحول دون البحث عن جوهر التصوف وسط ركام العجائبي بوصفها ظواهر تتفسر ضمن أدوات الأنثروبولوجيا والسيكولوجيا. فالقديسة تريزا الآفيلية المولودة سنة 1515، عقب ثلاثة قرون من وفاتها وُجد قلبها معافى، والراهبة مارت روبين، المولودة 1906، عاشت خمسين سنة دون أن يغازل جفنها النوم كما يروى.
يلوح
دربُ الروح الواصل بين شتى التجارب الدينية الأوفرَ حظا في التقريب بين مختلف
المؤمنين. وفي الغرب المعاصر تهفو قلوب كثيرة للتصوف الإسلامي، وللروحانيات
البوذية والطاوية والهندوسية، برغم الاضطرابات الجارية في فضاءات تلك التقاليد
والمتشظية في العالم رعبا وهولا. ما يعني أن هناك وردا مورود يطلبه الجميع وإن
حجبته الأضاليل وسدته العراقيل، إنه درب المحبّة والتطلع إلى سنا وجهه الكريم.
*أستاذ بجامعة روما