(1)
يقال : إن رصانة الفحوى لأيِ كتابٍ قد تأتي من ((ثرياه)) :عنوانه . وتلك ليست دلالةً للتوجه النقدي ووضع اليد على الأهمية من خلال ذلك ! إنما سمتها للتأكد من صحتها من خلال الكتاب الذي بين يديّ بتصميمهِ الفريد والغريب ! فقد ضمَّ بين دفتيهِ مجموعتينِ شعريتين ِ , لكل منهما غلافها ولوحتُها وعنوانها على جهةٍ , وتعبرانِ عن رؤيةٍ في الطرح والدلالة , وتتعاكسانِ في القراءةِ والمتابعةِ . وحتى لا أُحارُ في قراءةِ الأول منهما , قلّبتُ الكتابَ , ولمعتْ أولاً زرقةُ السماءِ الملطخةِ بنتفِ غيومٍ بيضٍ في عينيّ . وتناهى للرؤيةِ المحصورة في فضاء ِ الغلافِ كرسّيٌ يعرضُ فراغَهُ الضمني للطبيعةِ والمتلقي.
(2)
((قلالي))
: هذا هو عنوانُ الأولى إنْ لم تكنْ الثانية التي سنقلّبُها معاً . قٌلل وقُلال : تعني كلّ شيءٍ أعلى الرأس . ومفردُها : ((قُلّة)) التي تعني ((الرعدة )). وإذا أُضفيتْ إلى معرفةٍ تعني بعضَ أجزائهِ فمثلاً )): قُلّة ))السيفِ : ما على طرفِ مقبضهِ من فضّةٍ أو حديد ! . وقد تعني : النهضة من الفقر . و((قلال)) في نهاية الأمر : أعمدةٌ ترفعُ بها الكرومُ عن الأرض . فهلْ تتناسب هذهِ المعاني مع ما أفضتْ بهِ هذه اللوحة وبما يفضي بهِ المتن ؟! الجواب سنجدُهُ في قرائتنا لنصوصه.. ينبهنا في بادئ الأمر . إن ما طرقهُ هي وحداتٌ شعرية ٌ مستقلة ٌ مرقمةٌ من (( 1))الى (( 77)) وتنتهي بالسيرة الذاتية ص((96)). وربّما العنوان يعنيها , جمعاً لـ ((وحدة)).
(3)
منْ منطلقِ أنّ الشاعرَ يرى ما لم يراهُ الآخرونَ ويتجاوزُ بقرائتهِ تلك الحدود نحو الكلّي ثم الجزئي الذي يحاولُ بهِ ترتيبَ بناءٍ خاص في مواجهةِ الواقع .
(4)
الشاعرُ مقداد مسعود في ((قلالي)) رتبَ وحداتهِ الشعرية المرقمة حسب مخاضها الزمني فجاءت متواليةُ الحزنِ مرتبّةً , تعمّقُ جدلاً ضمنياً مع الواقع المؤلم ! وتأخذُ مدياتها المرسومة بعنايةٍ للكشف بصورة غير مباشرةٍ . ينتقلُ من دائرةٍ إلى أخرى , بأفكار تتسمُ صياغتُها بنفسٍ سردي , , تأخذُ اللغة فيه منحىً استرسالياً وتمنحها كينونةً قابلةً للتأويل والاستنطاق!:
(( ضحكتْ بخفةِ فراشةٍ , ثمَّ باحتْ: ما الذي جعلنا نرى في الشيِ كلَّ الأشياء و لا نرى الشيءَ ذاتَهُ ؟ يسألها بدوره : هل الحياة بأسرها : فاصلٌ إعلاني ؟ أم محطّة؟ وتسألهُ وهي تفركُ يديها بقشرةٍ ليمونةٍ معصورةٍ للتوِّ : هلْ ركضُنا يشبهُ حركةَ مروحيةٍ سقفيةٍ بكلِّ سرعتها ؟.. قصدك؟ . تسألهُ : ألسنا نحنُ ضمنَ دورةِ المياه في الطبيعة؟ … ) ص 11-18 وحدة .
(5)
على الرغم من هيمنة الوجع السافر على الرؤية الشعرية يتسائل : (( من يحررنا من الألم ؟)) ص13-20 وحدة . نراهُ في النصّ الأسبق أعلاه , يحاول أنْ يشيء بفهم للحياة من التحاور الجاري ((الحبيبين))وهو يحملُ في طيّاتهِ دلالات ٍ متعددة حتى أنهُ يستند في تساؤلاتِه على بعدٍ معرفي فلسفي . فالقراءة ُ المتأملة ُ اعتقد إنها تسهلُ على المتلقي الغوص في ثنايا الشفرات التي تلوح ُفي التوجه الرؤيوي !.
(6)
إن الشاعرَ في وحداتِهِ الشعرية هذهِ لا يتنبأُ ولا يضع ُحلولا قسرية للتساؤلِ الواردِ , إنّما – هو يعرفُ أنّ هذهِ ليستْ من مهمة ِالشاعر – يؤشرُ وقد يوخز لتقصي الحلولَ الغائبة : ((الآنَ في العام الثامن عشر من الألفية الثانية .. إلى اينَ وصلنا . – قصدُكِ الى أينَ ما نزالُ نتدحرجُ .- هل ثمةَ حل ..؟ ) ص17. وحدة 10 /
(7)
هناك الكثير من الدوائر المعرفية , لا تسعنا المساحةُ على الإشارة إليها كلّها . لكنّنا سنثبتُ ما يلي :
*الكتابةُ تمثّلُ لديهِ معدلاً موضعياً للحياةِ المشوّهةِ, غير القادرة على تمثيل حلمهِ الى واقعٍ ملموسٍ بفعل اجراءاتٍ خاطئة : ((اريدُ التفرغَ للاعتناء بمشاعري . سأنتقلُ منْ قليّةٍ إلى قلية ٍ , أرسمُ شفراتٍ وجيزة ً على جدرانها .)) ص50 . وحدة 42/
*الزمنُ المتخيلُ المحصورُ بين قوسين في الكتابةِ الشعرية ينوءُ بما تحملُ الحياة من : صبرٍ : ((لا أحدَ يسعفنا .. لا أحدَ ينقذنا .. لا أَحدَ ينصرنا .. لا أحدَ معنا سوى تلك الصفة المذمومة التي تسمى : الصبر . وهي التي أجلستنا على الصبير والصريم .)) ص88 . وحدة 72
*رؤية المشهد الحياتي واضح ٌ وحاضرٌ في كل شيء، تحت وطأة الشعور بالمرارة في كل الأمكنة وفضاءاتها: (أسمعيني جيداً، وتذكري معي ما جرى: الوضوحُ يرقب ُ المشهد َ، بأضوائه ِ وأصواته ِ وناسه ِ،أنا أحدقه ُ..هذا المشهد بعينين، من حديد البصر،فأرى اللاشيء ، الضجيج ُ ينبعث من الهدوء، والرعب من السكون، والأليفة الكلبة البيضاء تنبح الغرباء، وتتملق صغيرتي شبيهة جدتي في الجمال/ص94/ وحدة 77)
(8)
… ((قسيب )) :
عنوان المجموعة الثانية في الكتاب : وهو عنوانٌ ذو وقعٍ يشعرُنا بالمضي قُدُماً في تفسيرهِ القاموسي . ف((قَسيبُ الماءِ )): جريه مع صوت! . وقد تعني قسيّبُ : الطويلُ الشديدُ منْ كلِّ شيءٍ . ولأَنَّ المفردةَ غيرُ محرّكةٍ , سنعتمدُ الأولى مقياسُنا في الاستنطاق . فها هو يقولُ في اهدائهِ :
(( يا مهيارُ …..
يا كلّ كليّ في تدفقِكَ اللذيذِ
انتَ قسيبُ العائلة )) ص5
وهو ولوع ٌ باستنطاق المفردات من عدّةِ زوايا . فها هو يعطينا معنى ماضيها الآخر في وجهه القاموسي .ف((قَسَبَ)) : عرب . قَسَبت الشمسُ : أخذت في المغيب والشاعرُ يناجي ولدَهُ الراحل ((مهيار )):
(( فكيفَ يا قرةَ قلبي
قَسَبتْ شمسُك وانتَ
انت ضحاها )) نفس الصفحة السابقة
(9)
الشاعرُ من تاريخهِ الطويل في الكتابة والمتابعة تأسستْ لديهِ رؤيةٌ فنّيةٌ متفرّدةٌ في تقص اثرَ الهدفِ من ابداعه الكتابي وملامسة روح ( الصدق ) الفني في التجربة حتى لو كان تأويلاً !: ومن ذاكَ دأبَ على التجريب بغية الوصول الى تفرد يرضيه هو قبل غيره ! يقول في تقديمه المختزل للمجموعتين تحت عنوان (( وهما في الرواق )) .
(الثاني : ( وحدات شعرية ).. ؟! ماذا تقصد ؟!
الأوّل : أستفزَ تلقيك ذلك !! ليكن … هي محاولة في التجريب .. أثنية إبداع , تجريبيتي هذه , حاضنة لإجناستين .. إجناسية سرد تتفزع من وحدات صغرى .. تتنمل منها الوحدة الكبرى.. وإجناسية شعر :دخلت صيرورة تحرر شئنا أم أبينا منذ فجر أربعينيات القرن الماضي , لا يخلو الأمر من صعوبات شعرتُها منذ ثلاث سنوات .. هجرت محاولتي هذه مرارا : طمعا في تخليصها من شوائب اللحظة الساخنة.. لكنها مغنطستني بجاذبيتها .. أنا الملول من الإقامة في جنس أدبي واحد والمشدود لتناول العالم شعريا .. على قدر عزمي المتنائي عن الجوقات اللاموسيقية
الثاني : والان … ؟
الأول : حان قطافها .. تعتق النبيذ , حسب مذاقي وها أنا اضفر من السرد وحداته ومن الشعر موسيقاه الجوانية على قدر خبرتي .. وها هي أرغفتي لمن شاء على هيئة وحدات شعرية ..
الثاني : وبعد …؟
الأول : كفى .. التلاسن يمسس المحاولة بالضر .. سأدعها تقدم نفسها ربما .. تتقدم من خلال فعل القراءة .
إبريهة / البصرة
14/ تشرين الأول – 2012 / شباط 2018))
(10)
إذاً أتضح الامر من تقديمه لرؤية على المتلقي ! فرؤيته للعمل تشكلت على وفق دراية بالسياق الفني وفيما يعمل . وهو يحاول أن يصل بتجريبه الى النقطة القصوى التي تمنحه التألق مع الهدف من الكتابة
(11)
مثلما ((قلالي )) ضمت ((قسيب )) ((77)) وحدة شعرية كذلك، لكن الترقيم هنا يتحرك تنازليا فهو يبدأ من الوحدة 77 ويتوقف عند الوحدة (صفر ) يليها خمس وحدات تبدأ هكذا (الميم ) (الهاء ) ( الياء ) ( الألف ) ( الراء ) وهكذا ينتهي كتاب ( قسيب ) , تساويهما يعني تعادلا في موضوعية الطرح الذي ينضح مرارة واشكالات واقع ! , واختلافا في التكنيك الفني . كل الوحدات الشعرية تمثلت مهيمنات حياتية , نزفت روحه ألما في صياغتها في بيانات تتوضح فيها المتناقضات واشكالياتها الحياتية !.
ومن كل تلك المهيمنات تبرز على السطح روحه الحزينة على فقدان ولده . الحزن الذي أوشك أن يكون العلامة الفارقة للمجموعتين !
(( سجاياك مثل عمرك
وكلاهما بطراوة افئدة الطير
يا مهيار يا اجمل اقمار الله بعيني))ص5
وما انفك يهوم على مدركاته في الاسترسال الكتابي , ولا يجرؤ على ازاحة هذا المهيمن :
(( أراكَ عالياً ..
أراكَ ولا أَنوشك ,
هل صرتَ سماءٍ !! )) ص75
ومن نفس تلك الوحدة الشعرية ((13)) يدعوهُ , وهو بهذا يستدعي المستحيل , ويهبُ نفسَه كنيونة المتخفي بالخلود : (( اجمعني بقبلةٍ منك . لا دمعةً تغلفُ عينيَ … اجمعني لأستردّك َ فيَّ يا كلّ كلّي … ) نفس الصفحة..
(11)
أجدُ أَنَ الشاعر يلوّح في بعضِ وحداتِهِ الشعرية الى (( السعي )) والعمل من بين ركامَ تلك الآلام ويغالبُ انفعالاتِهِ العاطفية! , ويسخّر كل ذاك الى مخاضٍ جديد ٍ , يبتعد فيه عن الوقوف في دوحةِ الاحلام وترتيل الاحزان : (( لنْ أمتثل للرضا . ولنْ اصغي إلاّ لنبضي . لم تعد السماء شرفةً تطلّ علينا وترشقنا بالقرنفل ,او بالمناديل لتنشفَ دمعنا او لهاثنا اليومي خلف الخبز )) ص31 . وحدة ((57))
(12)
وخلاصة الامر في (( قلالي )) و((قسيب)) للشاعر مقداد مسعود , يضعنا أمامَ متناقضات الحياة و مترادفاتها في حراك ٍ يستلهم ُ صراعاً جدلياً يبين كلّ تلك الظواهر، واستطاعَ انْ يتعامل مع اللغة بالبساطة المتجددة في إجرائية الافكار !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المقالة منشورة في (طريق الشعب) 22/9/ 2019
*مقداد مسعود / قسيب – قلالي / دار المكتبة الاهلية / توزيع دار الرافدين بيروت / ط1 / 2019