على الرغم من اكتشاف الأسس الفنية للعمل الروائي التي أشّرها النقد وحدَّدها – متمثلةً في الاستهلال والموضوعة والشخوص والحوار والحبكة والفعل والصراع والتوازن والأسلوب – فإنّ الرواية مازلت تفتقر إلى تعريف محدد ؛ وذلك لسبب واضح : وهو أنها كُتبتْ وفق بنى مختلفة من التجريب الذي لا يستند إلى قانون .
والتجريب هو معارضة المنْجَز الفني المتحقق ؛ بحثاً عن رؤى جديدة تبغي الكشف عن شكل فني وتقديمه بصيغة تتجاوز المأوف في الرواية نحو أفاق لم تُستكشف من قبل … فكيف فهمت الروائية سناء الشعلان هذا المصطلح وكيف مارسته في عملها الإبداعي ؟.في دراستي النقدية لهذه الرواية سأعتمد على التحليل السيكولوجي بشكل أساسي ؛ كقراءة نقدية تجريبية لاعتقادي بأن الرواية التي تحاكي نفسها بنفسها ؛ كما هو عليه في هذه الرواية ؛ يستدعي بقوة الاعتماد على التحليلات النفسية ؛ حتى وإن كان طبعاً يستدعي توظيف باقي المناهج النقدية الأخرى .
سنبدأ بتلخيص القصة ؛ بشكل تقليدي ؛ لكي نعطي صورتها الأولية القارئ بشكل واضح ومبسط . تدور أحداث الرواية في بيت الأيتام ، بين طفلين يتيمين . الضحاك سليم وبهاء .
ينقسم هذا النص – من الناحية السردية – إلى قسمين ؛ الأول نمطي ؛ والثاني باطينيّ . وينقسم ؛ على مستوى الفضاء الورقي ؛ إلى ثلاثة أقسام ؛ الأول نمطي ؛ والثاني باطني ؛ والثالث نفسي ؛ ومن هنا نقول بأن البعد الباطني ينقسم بدوره كميا إلى قسمين ؛ الأول جاء في بداية الرواية ؛ والثاني جاء بعد الخروج من السرد الباطيني ؛ الذي اختلجه وشطره إلى نصفين ؛ لتبقى برزخا مليئا بعلامات الاستفهام .
تبدأ الرواية نفسيا كما يلي :
“سبعة وستون عاماً لم تسرق من شبابه ونشاطه وابتسامته إلا القليل غير المأسوف عليه من ذلك كلّه ؛ في حين أعطته هناء وخبرة وتجربة وألمعية تفوق هذه السنين الطّويلة المزحومة بالعمل والأنجاز والتّطواف في دنيا الله وأزمان الانتظار وسهوب الكتابة” ص٩
ومن هنا يبدأ التأسيس لتعميق الإشكال الذي سيخرج بالنص من المألوف ؛ وبذل أن يتمكن السارد ( البطل ) من إيجاد مكاناً واضح ؛ يدخل بنا في لغة سردية من هذا النوع :
“تساءل الضّحّاك وهو يغلق المخطوطة أتراه مرّ من أمام شقًة حبيبته دون أن يعرف أنّه قريب منها؟ وهل تراها كانت تجلس على شرفة شقّتها ؛ وهو يتمشّى أمامها في الشارع دون ان تعرف انّه جاء للبحث عنها ؟” ص٢٣٧
بعد أن حرق السارد ما تيسر من المحطات النفسية – في شكل انزياحه آلة السرد الباطيني – انتقل إلى الحديث عن اضطراب يشبه كابوساً غير مفصح عن سببه ؛ والذي جعله يقص علينا أحداثا معروفة على صعيد الشكل ؛ وقعت في الشارع ؛ ولكن على صعيد الباطن يستكمل رؤيته نحو الرسالة التي أراد توصيلها للقارئ عبر صورة حبيبته الضائعة: “ودروبها التي لا تلتقي ؛ وذاكرتها التي لا تحمل لهما إلاّ الألم والضنّي” ص٢٣٧ .
بيد أنّ الروائية سناء الشعلان أرادت توظيف هذه الأحداث المتخيلة ؛ في بعض التفاصيل الصغيرة ؛ مثل الانتقال من استصعاب فتح نوافذ الذاكرة ؛ في حالة الخيال / الكابوس – إلى استسهالها في حالة الواقع . بعد أن أعربت عن حيرتها من خلال الضحاك ؛ في شكل تساؤلات تستهدف مشكوكية البعد الواقعي للذي يحدث ؛ وتصور أنه قد فوض مسؤولية وعيه ؛ عن الذي حدث ؛ إلى عالم الغيب ؛ ليقطع بذلك الضحاك ؛ عن أي مستفسر عن طبيعة الحدث ؛ ونسبته إلى المشترك الواقعي الملموس ؛ حسم السارد أمره – بشيء من الألم – وبدأ يقص علينا ما تخيله عن حبيبته بهاء ؛ وهو ما عبر عنه: ” لكن صيده الأجمل المقدّس كان عندما قابل بهاء ؛ وعشقها واقتنص لحظات جنوحها الكسير ؛ وطبع قبلته على شفتيها ؛ وأطلق لنفسه العنان كي يحبّها دون شروط” ص٢٩٦
ها هو البعد الباطني للسارد على وشك أن يدخل
إلى الحدث الحقيقي ؛ حيث يحتجز شقه الباطني / الاستباقي / الأعجوبي غرفته الوهمية
؛ ليعبث فيها رجماً ورفساً بالغيب ؛ تمهيدا باراسيكولوجيا لقدوم المفسد الأكبر ألا
وهو “الزمن” ؛ ليجعله بدوره عبرة لأهل الواقع الملموس من القرّاء ؛ أنه
نوع من الاستطلاع الباطني لواقع الحدث .
يقول السارد : “لقد
شاهد الدّهشة في عينيها ؛ وهي تستعدّ للدّخول معه في عالم الدّهشة والنّسيان”
ص٦٨ .
الروائية الشعلان لا
تتحدث عن النّسيان والدهشة بمعناهما التقليدي ؛ بل تصورهما كالمطر الطبيعي ؛ حتى
تأخذ غيومه ما أخذا طبيعياً ؛ وتمطر القلب
؛ وتنتج خصوبة قلبية .
لاحظ كيف أقحمت الشعلان كلمة “صوريّة ” بهذه القراءة النقدية؛ فهذا التعبير عبارة عن لافتة تدعونا إلى لدخول في سراديب ما هو باطني ؛ وما وراء سردي.
أمّا كونه باطنياً فلأن السارد يتحدث عن حركة
باطنية ؛ بدل الحركة النمطية الفيزيائية المعتادة ؛ وأما كونه ما وراء سردي ؛ فلأن
السارد يستهدف الحديث عن إشكالية الكتابة السردية الإبداعية من خلال ” كتبت
العاشقة ” ؛ وهذا ما وظفته الشعلان في رؤيتها إلى إشكالية النص الإبداعي ؛ وقد
أحسنت بهذا الفعل ؛ فالصورة للعاشقة وهي تكتب ؛ استنبطت أحداث مروعة ولو طبقناها
على واقع الكتابة لاكتشفنا أنّها نفس الصور؛ من خيانة ؛ وسرقة ؛ وانتهازية ؛
وبوهيمية ؛ وخسة ؛ ونذالة .
وعندما انتقلت الكاتبة
العاشقة إلى وصف حياتها بعد ان فقدت عذريتها ؛ لشكل ملموس ومحسوس ؛ أصبحت الأحداث
صورية ؛ أي أن الرواية ؛ عندما انتقلت إلى السارد ؛ أصبحت صورية : ” كتبت
العاشقة : وصلتُ الأربعين من عمري ؛ وأدركت أنّها فرصتي الأخيرة لنشر إبداعاتي
القصصيّة والرّوائية قبل أن ينقضي الباقي من حياتي” ص195
ببدو أنّ هذه النقرات قد أصبحت موضوعا مفضلا
؛ متجها نحو المحورة التامة ؛ حتى عندما انتقل السارد إلى عالم الواقع ؛ لقوله في
الواقع ؛ من خلال أمنيات العاشقة : “سأكتب سيرتي للضّحاك كي يدرك ما مررتُ به
من معاناة ؛ ويعرف كم فقدتُ منّي في الدّرب” ص٢١٦ .
يبدو أنّ هذه حتمية لا
شعورية ؛ يقود إليها الترصد لهذه المفردات . ينتقل السارد إلى تفصيل الحديث عن
الموت ؛ في هذا النص ؛ بتعبيره من خلال ما كتبته العاشقة : ” كتبت العاشقة :
عندما هاجم السّرطان ثدي الأيسر أخذت الأمر على مجمل المزاح والجدّية” ص٢١٧
إن
مثل هذا التخفي ؛ عبر دهاليز السرد الباطني ؛ يجعلنا نحس وكأننا نخوض غمار فيلم
هوليودي ؛ ولكن ليس في العالم الخارجي الاجتماعي ؛ بل في عالم نفسي يقع في وسط
مملكة الظلام والرموز لا تنفع معها العين المجردة ؛ في كثير من الأحيان وإنما لابد
من الاستعانة بجهاز الأشعة المناسبة لالتقاطها .
إلا أنّ هذه الرواية ”
أَدْرَكَهَا النّسيانُ” ليست قمة جبل سردي يفترض انتصابه في أي مكان ؛ أو في
مكان غير محدد ؛ مثل غيره من الجبال التي تحيط بالحوض المتوسط ؛ بل هي قمة سردية
لجبل اجتماعي تاريخي تم إرساؤه في أحد عوالمنا . فمن هناك ؛ ومن هناك فقط ؛ يمكن
لنا أن نشاهد ما أرادت الروائية سناء الشعلان مشاهدته .