ينشغل كتاب جان-لو آمسال المعنون بـ”إسلام الأفارِقة” بالبحث الأنثروبولوجي، وبمراجعة المقولات الأنثروبولوجية في منطقة غرب إفريقيا وفي دول ما وراء الصحراء الإسلامية. وهو مؤلف لباحث غربي متخصّص في المنطقة، وعلى دراية عميقة بأوضاعها الدينية والاجتماعية. يكتسب الكتاب قيمته العلمية من مقاربته النقدية للأنثروبولوجيا الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في المنطقة، في مبحث لطالما انغمس في المهمّات الأمنية والتقارير المخابراتية طيلة الفترة الاستعمارية.
يوزِّع المؤلّف كتابه إلى ثلاثة أقسام رئيسة، فضلا عن تمهيد تناول راهن التحولات الدينية في المنطقة، وخاتمة حاول فيها التطرّق إلى مستقبل أوضاع شعوب غرب القارة. في القسم الأول يسلّط الباحث الضوء على دواعي الانشغال بالتراث الديني لدول غرب إفريقيا في الدراسات الغربية. حيث يَلقى الإسلام الصوفي الإفريقي في التاريخ المعاصر، أو ما يُطلَق عليه في الأبحاث الغربية بشكل تعميمي “الإسلام الأسود”، ترحيبًا في الأوساط السياسية الغربية، بوصفه إسلاما قابلا للتطويع وفق مراد الهيمنة الغربية. فهو من صنف معتقدات (‘النيو آيج’/’العصر الجديد’)، الرائجة والمروَّجة في الراهن المعاصر. وذلك ضمن مساعٍ لتحويل الثقافة الإفريقية إلى ثقافة مَتْحَفية تجارية قابلة للعرض، ومن ثَمّ للبيع والشراء، كما هو جار مع ثروة المخطوطات في تومبكتو والآثار القديمة للمنطقة. تأتي تلك الحفاوة في مقابل تنفير وتخويف من الإسلام “الشرق أوسطي” كما يُسمّى، بوصفه مشوبا بمسحة جهادية ونضالية. إذ يلاحظ الباحث وجود محاولات جادة من توجهات فرنسية لإبعاد مسلِمي جنوب الصحراء عن حاضنتهم المغاربية العربية، ومحاولة قطع طريق التواصل الضارب في عمق التاريخ، وذلك بالعمل على اختلاق ما يُشْبه الهوية “الزنجية الأصلية” في مقابل الهوية “الإفريقية الإسلامية”.
فعادة ما يُعرَض “الإسلام الأسود” في مقابل “الإسلام المغاربي” و”الإسلام الشرق أوسطي” و”الإسلام الخليجي”، وهي محاولة لانتزاع الإسلام الافريقي من حاضنته الطبيعية. يُبرِز الباحث آمسال التشابه بين أفعال المدرسة الأنثروبولوجية الفرنسية والمدرسة الأنثروبولوجية الإنجليزية في لعبِ هذا الدور، سواء إبان الفترة الاستعمارية أو لاحقا. موضّحًا الكاتب أنّ تلك الثنائيات والتفريعات المضلّلة، التي تطغى على المنظور الغربي في قراءة الإسلام في دول إفريقيا، غالبا ما طمست التنوع في الطرق والجماعات (القادرية والتيجانية والأحمدية والسنوسية والمهدوية…) وحصرتها في ثنائيات مانوية مغلَقة. كما أنّ المقاربة الغربية وِفق الباحث غالبا ما تتغاضى، أو تحقّر، من الدور الصوفي الجليل في مقاومة المستعمِر الغربي، ووقوفه سدّا منيعا أمام المسخ للهوية الإفريقية. فقد عرف فضاء إفريقيا العديد من الحركات الدينية والصوفية الوطنية التي جابهت المخطّطات الاستعمارية. ذلك ما يلاحظه المؤلف مع آثار الغزو الاستعماري الغربي، حيث جرى اجتثاث الحركات الجهادية المقاوِمة للاستعمار، كما الشأن مع حركات عثمان بن فودي والحاج عمر بن سعيد فوطي وساموري توري. طورا بتفكيك الممالك القائمة واستبدالها بإدارات استعمارية، وتارة بالتحكم في إفريقيا بتدجين نخبها الفكرية وتطويعها لغاياتها، كما الشأن في شمال نيجيريا والسينغال.
وبالمثل يُبرز آمسال أنّ الفضاءات الدينية غير الإسلامية كانت عرضةً للقمع الاستعماري أيضا في العديد من البلدان. فقد ذاع صيت حركة دينية نضالية في أوساط الدارسين الأنثروبولوجيين ونالت حظًّا من الاهتمام والبحث، وهي حالة كنيسة سيمون كيمبانغو. يتعلّق الأمر بحركة مسيحانية تأسّست على يد شاب كنغولي وطنيّ متديّن (إبّان احتلال بلجيكا الكونغو، التي تُسمّى اليوم الزايير، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر). تربّى كيمبانغو في وسط عائلي متأثّر بتعاليم المبشّرين المعمدانيين، وكان صاحب رؤية دينية تجمع بين عناصر مسيحية ومحلّية مشوبة بطابع إفريقي، مِثل القدرة على الإشفاء والإيمان بالمخلّص المنتظر، ومؤمنة بتحرر إفريقيا من الغازي الأبيض. اتّخذت دعوتُه الدينية طابعا نضاليا مناهضا للاستعمار، ولذلك تمّ اعتقال كيمبانغو وصدر عليه حكمٌ بالإعدام، حوّله ملك بلجيكا حينها إلى سجن مؤبَّد. وبرحيل كيمبانغو، سنة 1951، وهو قيْد الاعتقال، لم تتراجع الحركة بل ازدادت إصرارا في نضالها السياسي وتشبّثا بأهدافها الوطنية، حتى تحقّق النصر سنة 1960 بإعلان استقلال دولة الكونغو، ومن ثَمّ حصل إقرار الكيمبانغية توجّها دينيا رسميا في الدولة، ومنذ ذلك العهد عُدّ كيمبانغو مخلِّصا دينيا وزعيما وطنيّا. ففي إفريقيا، وعلى وجه العموم، ظهرت حركات أهلية أعادت صياغة التراث الدّيني، إبّان الاحتكاك بالمستعمِر الكاثوليكي والبروتستانتي، على حد سواء، وكيّفت عناصره وفق رؤى خلاصية أكثر التصاقًا بالمخيال الدّيني لشعوب القارة.
ما يرصده الباحث في القسم الثاني من الكتاب، أنّ ثمة صراعا في المخيال الإفريقي وحول المخيال الإفريقي، تجري أحداثه في إفريقيا ما وراء الصحراء، بين توجّه غربي يسعى جاهدا ليحتكر فضاء المنطقة على مستوى عملي وعلى مستوى تأويل رموزه، ومن ثَمّ توجيه مساراته؛ وتوجّهٍ جديدٍ، متنوّع العناصر وغير متناسق، أحيانا يُظفى عليه طابع التطرف، وأخرى يُنعت بالوهابية والتسيّس. وقد جعلت قلّةُ المتابعةِ والبحثِ في المنطقة من خارج الدائرة الغربية، الفرنسية تحديدا، الصورةَ الرائجةَ والمروَّجةَ تأتي من طرف واحد وتعبّر عن قراءة مشحونة بمضامين سياسية واضحة.
التلاعب نفسه جرى سابقا في بلاد المغرب الكبير بتفاوتٍ، من خلال المسعى الفرنسي لخلق “الظهير البربري” في مقابل “العنصر العربي”. حيث أُضْفِيت على الأوّل ملامح الديمقراطية والانفتاح وعلى الثاني ملامح التشدّد والتسلّط. وهي في الواقع الخطة السياسة ذاتها التي اُتّبعت سيما في الجزائر ثم نُقلت بحذافيرها إلى السينغال. أما الجارة مالي، فقد شهدت إبان الفترة الاستعمارية بروز أمادو هامباطي با، كان من أنصار طريقة يترأّسها الشيخ حماه الله، المعروف بـ “الشيخ هامالله”، تَمّ اعتقاله ونفيه إلى فرنسا. وبعد تعاون مع الإدارة الاستعمارية في قمع الحركات المناضلة خلال فترة الخمسينيات، أمسى مقبولا من قِبل السلطة الفرنسية، إلى أن توفّي في التسعينيات في فرنسا.
لقد بدأ الاشتغال على استراتيجية التفريق بين المكوّنات القَبَلية والعشائرية الإفريقية عبْر التهوين من الإسلام أنثروبولوجيًّا، والتحقير من الحرف العربي ومن اللغة العربية في أوساط الأفارقة. وذلك مع مدرسة الأنثروبولوجي مرسال غريول، التي غالبا ما رأت في الإسلام دعما وسندا لأوضاع الركود والجمود في الثقافات الإفريقية، متعلّلة بتبريرات سطحية مثل تفشّي التواكل بين طلبة المدارس القرآنية، الذين يعيشون على الصدقة والتكسّب حسب تصوّرها، ودون انتقاد العامل الأجنبي الاستعماري وعمق تعطيله للنشاط المجتمعي. وقد ازدادت وتيرة هذا الانتقاد للإسلام بظهوره كمنافس ديني في المنطقة، يقارع الحركات التبشيرية المتغوِّلة.
كانت اللّغةُ العربية في غرب إفريقيا الضحيّةَ الأبرز، بعد أن كانت لغة المعرفة والثقافة. فقد حوّل الاستعمارُ العربيةَ والحرفَ العربي بوجه عام، في لغات بلدان ما وراء الصحراء، إلى لغة لكتابة التمائم والطلاسم والرُّقى والتعاويذ. وبالتالي باتت اللغة العربية عنوان التخلّف والجمود، يُزدَرى من يحرص على تعلّمها، في مقابل اللغات الأوروبية التي أُعلي من شأن متعلِّمها. وإحقاقا للحقّ، فإنّ الهجمة التي رصد آثارها جان-لو آمسال، كان فيها جانب من الصحّة، فالتعليم الديني في البلدان الإفريقية إبّان الفترة الاستعمارية، تردّى إلى مستوى فاجع، وافتقر إلى أدنى المعايير البيداغوجية، ناهيك عن خلوّه من المضامين المعرفيّة، في مقابل تعليم غربيّ منافس ومتطوّر، تقدِّمه الإرساليات التبشيرية الغربية بشكل مُغرٍ.
في ظلّ اشتداد أوار الحملة التي تعرّضت لها العربية والثقافة الإسلامية في بلدان غرب إفريقيا، برزَ الأنثروبولوجي البريطاني جاك غودي (1919-2015) الذي حمل على الإسلام حملة شعواء، كونه يمنع تطور الفكر النقدي لتمحورِ الدراسة فيه حول كتاب مقدّس وفق تقديره. مفسّرًا التخلّف في الأوساط الإفريقية بعامل ديني لا غير، ومتغاضيا عما اقترفته يد المستعمر من تدمير بنيوي لنسيج المجتمعات الإفريقية. الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي جورج بالانديه نفسه ذهب هذا المذهب في اعتبار الإسلام عنصر عرقلة للتطوّر الإفريقي، سيما بعد متابعته، خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي، التعليم القرآني في ليبو بالسينغال. ما كان بالانديه محايدا ولا نزيها لِيجرؤ على الاعتراف بالتدمير الهائل للإنسان الإفريقي إبان الفترة الاستعمارية، حيث اعتبر السينغاليين ضحايا اهتدائهم للإسلام، وهي طروحات إيديولوجية مغرضة باتت اليوم مهجورة في أوساط الباحثين الاجتماعيين والأنثروبولوجيين، باعتبار النهوض المجتمعي هو فعلٌ منبثقٌ من داخل البنية الأصلية، وهو وعي مستندٌ إلى عناصر المخيال العميقة لدى الشعوب.
يسلّط الباحث جان-لو آمسال الضوءَ على مدرسة مرسال غريول الأنثروبولوجية التي يميزها ازدراء الإسلام بشكل مجحف. فقد شغل غريول (المتوفى سنة 1956) منصبَ مستشار لدى السلطات الاستعمارية. تولّى مهمّة تفكيك مجتمع الدوغون وتنقيته من أيّ نفسٍ إسلامي، من خلال إبعاد قادة مهمّين وعزلهم مثل الحاج عمر وحفيده التيجاني. وحاول في مهمّته طمس كلّ نفس ديني وطني من المجتمع الذي تولى متابعته. كانت الباحثة الأنثروبولوجية جرمان ديترلان ضمن مجموعة البحث التابعة لمرسال غريول، وإحدى المتعاونات معه، وهي فرنسية توفّيت سنة 1999. يروي جان-لو آمسال أنها كانت تهوّن من شأن الإسلام الإفريقي وتعتبر ظواهر التسوّل والفجور في المجتمع المالي، على سبيل المثال، بسبب الإسلام. وقد تمّ تبنّي هذه الادعاءات وترويجها من قِبل الصحافة ضدّ علماء الدين ودعاته في المنطقة. يروي آمسال أنّه أثناء إخراج فيلم عن التراث المالي، من قِبل بعض التابعين لهذه المدرسة، أشرفت عليه جرمان ديترلان، تمّ تغييب كافة مشاهد المساجد والزوايا عمدًا مع أنّ المنطقة تعجّ بهذه المعالم.
في القسم الثالث والأخير من الكتاب الذي نعرضه، يتحدّث آمسال عن نظرة تجارية في مقارَبة علاقة الإسلام التاريخية بالمنطقة، حاولت من خلالها العديد من المؤلفات الفرنسية المنشغلة بالفترة الوسيطة للإسلام في غرب إفريقيا، طمس الدور الحضاري، والتنظيم السياسي الناشئ بفعل التأثير الإسلامي. كما يورد آمسال سلسلةً من أسماء الدارسين والرحّالة والصحافيين والإثنوغرافيين العاملين أثناء الحقبة الاستعمارية، ينعتهم بممارسة “النهب الاستعماري” على مستوى معرفي. صاغ هؤلاء معرفةً حول غرب إفريقيا، كان الغرض منها التوظيف في الشأن السياسي. وقد اعتمدت تلك المعارف المحوَّرة بشأن إفريقيا بالأساس ترجمات عربية مغربية عن المنطقة، مثل “تاريخ السودان” لعبد الرحمان السعدي، و”تاريخ الفتّاش في ذكر الملوك وأخبار الجيوش وأكابر النّاس” لمحمود كعت التنبكتي، و”تذكرة النسيان” لابن المختار. والواقع أنّ نقل هذه الأعمال الثلاثة إلى الفرنسية قد مثّل ردّا حاسما على الدعاوى الغربية، التي تشكّلت منذ هيغل في “العقل في التاريخ”، أنّ الشعوب الإفريقية هي شعوب بدون كتابة، وبدون تاريخ، وبدون دولة.
ضمن هذا القِسم يورد آمسال بعض المحاولات المعاصرة في نزع الطابع الاستعماري عن المعارف الإسلامية في غرب إفريقيا، بما يعيد إدراج المخزون الحضاري للمنطقة ضمن مجال أرحب. فقد حاول السينغالي، الأستاذ عصمان عمر كين، إعادة صياغة العقل الإفريقي من خارج المعايير الغربية، سيما في كتابه “المثقفون غير الناطقين باللغات الأوروبية” المنشور 2003، مستعيدا مجمل الكتّاب الأفارقة الذين دوّنوا أعمالهم بالعربية، أو اعتمدوا الخطّ العربي عبر اللغات الإفريقية لتدوين الثقافة المحلّية. أبرزَ عصمان عمق الصلة بين إسلام غرب إفريقيا والعالم العربي، وهي علاقة قديمة ترمي بجذورها إلى مطلع القرن العاشر الميلادي.
لا يغفل آمسال في خاتمة الكتاب عن إبراز الاشتغال المغربي والجزائري على دعم التعاون التعليمي مع دول الجوار الإفريقي، سواء باستقبال الطلاب، أو بدعم المؤسسات التعليمية، وإقامة المهرجانات، وعقد الملتقيات، بقصد خلق رؤية مناقضة للتطرّف الذي يشوّه المنطقة. وفي استشرافه لمستقبل المنطقة يذهب الباحث آمسال إلى أنّ الإسلام الإفريقي الصوفي قد لعب دورا مهمّا في التحرر من الاستعمار، وهو اليوم يلعب دورا مماثلا في التحرر من الانحرافات الحاصلة، رغم ثقل المهمّة في ظل ما يجري من اختلاق ثنائية في الإسلام الإفريقي، إحداها ملائمة للغرب وأخرى مناوئة له ومنبوذة.
مؤلف جان-لو آمسال “إسلام الأفارقة.. الخيار الصوفي” هو من المؤلفات العلمية المهمّة، التي تعيد قراءة الأعمال الأنثروبولوجية الغربية بشكل دقيق ولافت في الفضاء الإفريقي، وهو عملٌ رصينٌ ينضاف إلى سلسلة الأعمال الجادة للفكر الغربي.
نبذة عن المؤلِّف: جان-لو آمسال هو مدير أبحاث في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بفرنسا. وهو مدير دورية “دفاتر الدراسات الإفريقية”. أصدر العديد من الأعمال تُرجِمت إلى لغات مختلفة منها: “أنثروبولوجيا الهوية في إفريقيا” و”الفن الإفريقي المعاصر” و”الانفصال عن الغرب”.
الكتاب: إسلام الأفارِقة.. الخيار الصوفي.
تأليف: جان-لو آمسال.
الناشر: منشورات ميلتيمي (ميلانو) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2020.
عدد الصفحات: 147 ص.