كريمة تستجمع عصارة الوجد بشتى ضروبه العاطفية او الإنسانية المكافحة فتنطلق في بوحها المثخن بجراحات النساء على مدى العصور السحيقة في نصها ( خيوط البوح) :
أبتسم من مرارة الفراق
أركن للهجر…
أركع عند قدميه…
استجدي السفر في راحلته
ينفلت من رهان أصابعي
وأعود لذاكرتي المثخنة بالآهات
أمزق الصور الموشومة
أعدم المجازات الموسومة بالألم…
هنا نرى مفاهيم الشعر في معانيه الكونية لدى كريمة عيساوي ، كانت بارعة في تركيبة النص ، بنيانه وثقافته الموسوعية في المفاهيم العديدة التي إشتملت على أكثر من مفهوم ومعنى . أوضحت لنا كريمة كيف ان القريحة المنفلته لديها أصبحت في هذا المستوى الشعري الذي يدل على الهجر والسفر والرهانات وآلام الذكريات التي تعدم على منصة المجاز والتورية والرمزية الشعرية الهائلة . الهجر هو المضاد لمصل الوصال . الهجر هو الأكثر وقعاً على الحبيبين . الهجر هو بمثابة القطيعة للشهوة بينما الوصال الحقيقي هو ممارستها بدون خوف ولاجبن ، هو تكريس الجسد للمتع الحسية والرغبات الشهوانية الجريئة مادام المرء راغبا بها ويملك القوة المحصنة التي تعيده لإكتشاف الروح الزاهدة . وبالنهاية الهجر شجن وإقفال والوصال سعادة وإنطلاق . وفي هذا المجال أكثر من قدم عن العلاقة الوصالية والهَجرية بين الجنسين هم الأغريق وأدبهم العريق فيما يسمى (نساء الأدب الأغريقي ) نقلا عن الروائي الجميل ( برهان شاوي) . فليس هناك شعب من شعوب الكرة الأرضية قدم للأدب العالمي هذا الحشد من النساء البطلات في الملاحم والأساطير قديما حتى وقتنا الحالي مثل الشعب الإغريقي الذي بيّن الوصال والهجر بين الحبيبن من خلال البطولات الفردية في المعارك الشرسة أنذاك . في المثيولوجيا الإغريقية قدمت آلهة مثل: هيرا، أفروديت وأرتميس وأوربا وأثينا، بل جعلوا خالق الكون أنثى هي (وكاوس) . هوميروس في ملحمتيه قدم لنا: أندروماخ وألكسندرا، وهلينيا، ويفجينيا وكلوتايمنسترا، وألكترا، وبينيلوبة وغيرهم الكثير الكثير . كل هذه الشخصيات في ملاحمها تمثل صروحا في صفحات التأريخ التي تحدثت عنها الشاعرة كريمة في بوحها الدافيء (ذرني أرفل في صرحي) :
أرنو إليك…
وأنت…
على عرشك المهزوز
تجلس رافعا عنانك للأرض
تبحث عن ملكة ورقية
نجمة حرفها عاقر
في عكاظ الحياة …
كيف لك أيها المؤمن بقاعدة العشق الممنوع
أن ترغب في وصال شهب النثر
تفتض بكارة العبارة
من خجل طيفك
………..
………..
لا تعاند عطاءاتي
لا تناقص على مزايداتي
لا تزايد على مناقصاتي
فوجودي كفر في صولات البغاء
وغيابي إيمان في دائرة العطاء.
الأدب ليس مجرد تقنية وفن لرسم الجمال وإرضاء الشعور الباطني لدى الإنسان دون هدف او منفعة انه بمثابة صخرة تحطمت عليها أمواج الأراذل وتطايرت عليها رذاذا ، وصياغة لتجارب إنسانية خاضعة لحسابات تكمن في الشعور ، انه جزء من قضية الثقافة والفلسفة ، انه يخرج من دائرة الكبت ليحلق في سماء الإنفعال والمعاناة ليرسم شعاعا لنيل الحرية والبحث عن التأمل في الحياة الإنسانية وتهذيبها ومواجهتها بالتعاضد والألفة والتحسيس بفجيعتها بين آونة واخرى ، و هو الذي يحدد أبعاد القضية الوجودية وجعل الإنسان لايحتكم الى نفس المسارات الطويلة التي أدت به الى المتاهات بكل اشكالها ، كما وأنه يوجه الرؤى الى العقل والى التغييرالذي يمنح بني البشر أملاً في انْ يكونوا أسياداً لأنفسهم ، لايتجاوزوا مدى الحرية التي إنبثقت من عهود ودمار شامل لبيع المرأة في سوق عكاظ كما أشارت الشاعرة في نصها أعلاه وللأسف لازال عالمنا هذا يرزح تحت وطأة هذا السوق النخاسي القميء رغم اننا في القرن الواحد والعشرين حيث توضع النساء الجميلات على منصة عالية وتبدأ المزايدات العلنية بشرائهن بأبشع عملية إمتهان للمرأة .
لدى فيديل كاسترو العظيم نظرة فيما يخص البغاء الذي تطرّقت له الشاعرة بكل جدارة وماوقع من حيف على المرأة بخصوص هذا المنحى . قرار اتخذه مجلس الوزراء الكوبي وأثار غضب كاسترو في بداية الثورة الكوبية التي خلعت الفاشيست والطاغية ( باتيستا) وهو قرار إلغاء البغاء ، فخرجت آلاف المومسات في تظاهرات إحتجاجية لأن هذا القرار معناه قطع مصدر أرزاقهن. فأوصى كاسترو بعدم إلغاء البغاء قائلا بأنهن اضطررن لهذا العمل بسبب الفقر والجوع فعليكم أن تجدوا العمل الشريف البديل عن هذه المهنة التي تمتهن المرأة وهكذا بقي البغاء حتى توفرت فرص العمل لهن وأنتهى من غير رجعة. بينما اليوم وفي العديد من البلدان الرأسمالية نرى مجموعة من الفتيات يعرضن أكفالهن وأجسادهن من خلال خانات مفتوحة لغرض البغاء وكسب الرزق بهذه الطريقة التي تحط من مكانتهن . ورغم كل ذلك تبقى المرأة هي العطاء الإيماني في كل الأوقات وإذا جردناها من كل فضيلة يكفي انها تحمل فضيلة الأمومة التي لايضاهيها فضيلة على الإطلاق . وفي خضم هذا الألم تنطلق كريمة كشاعرة لايمكنها الصبر على تحمل ماتراه منافياً لحقائق كبيرة عانت منها المرأة الكونية أو المغربية كريمة بذاتها فتقول في نصها ( مذكرات مازوخية ) :
غدا حين تبحث عني…
في مرافئ نهر السين
في جسر العشاق
في برج إيفل
سأركب اليخت القديم في النيل العظيم…
التقي بصديقتي كيلوبترا الحالمة
لأتكحل من موجات كحلها الوردي
فتنمو رموش لن تتبلل بعد اليوم،
هذه الأحلام بنيل التتويج الملكي على أمثال كليوبترة وقائد جيشها وحبيبها أنطونيوس لم يأت إعتباطا وإنما نتيجة القهر القسري الذي طال المرأة المغربية والعربية على حد سواء فراحت كريمة بشقشقياتها البريئة تستأنس بالطيف ، فالحلم هو واقع الحياة وإنعكاساتها ، والدهشة فيه هي الأكثر وضوحا ، فحين رسمت كريمة هذه المازوخية المؤلمة فهذا يعني هو التطلع الى عالم ينتشلها مما هي فيه ، عالم المخيال ، عالم الإبداع الذي نراه ونقرؤه شعريا ومن خلاله نستطيع أن نعبر ضفاف الوجد والألم الى ضفة تعطينا الدفق في الحياة ومصلها مثلما ركوب اليخت في النيل للوصول الى ضفة الخلاص لا ذلك الخلاص الذي يجعل من المرأة أضحية وقرابين ترمى في نهر النيل وهذه كانت عادة سنوية في الأزمنة الغابرة في مصر لإرضاء الآلهة بشكل يثير القيء . هناك طقوس دينية في جزيرة شتلاند وهي التي تعرف اليوم بإسكتلندا حيث إذا ما ولدت المرأة يُعطى وليدها لإمرأةٍ عاقر ومن ثم يقطع قلب الزوجة الوالدة من قبل زوجها ويقدم كأضحية إسطورية للرب بإحتفالٍ سريٍ مهيب ومرعب في ذات الوقت من قبل الرجال المتخصصين بهذه الطائفة الدينية الشاذة . هذه الطائفة ظلّت نشطة للقرن العشرين ومن ثم إختفت ويقال لازالت تعمل بالسر . فأي حيفٍ مازوخيٍ هذا الرهيب الذي وقع على النساء . ولهذا تتأسف شاعرتنا كريمة الى من ينظر الى المرأة من أنها خطيئة تمشي على قدمين كما في بعض البلدان المتخلّفة . وهنا تقف شاعرتنا القديرة كريمة كي تنقل لنا جانب من المأساة التراجيدية الملحمية التي وقعت على المرأة في بوحها الموسوم ( بقايا إمرأة ) وهو الذي إتخذ موسومية ديوانها هذا في مدار بحثنا وقراءتنا:
أرخت ظلمة المساء شراشفها
ناداني سريري الأسطوري
لتخليد ملحمة اللقاء
مررت بمرآتي العجوز….
أمسكَت بخاصرة أحلامي المستحيلة
تبسمتُ لها فرسمَت تجاعيد الفرح
ظفائر في غرفتي
فتحتُ أزرار قلبي …
ولجتُ في أوردتي…
أبحثُ عن بقايا امرأة …
قَطفت لهيب الشمس
لتسقي بذورالأرض
(الحلم الجميل هو الذي لايوقظنا منه سوى الموت .. الأديب المغربي محمد منصور في كتاب شهوة القص ) ….
كريمة هنا في النثرية البديعة أثبتت لنا من أننا في الشعر نستطيع انْ نجد كيف انّ اللغة واللسان هما عضوان فعالان ، أنه كلام الإنسان النابع من نهر خياله والذي يصب في محكمة العقل ، أنه الأسمى من الايديولوجية ، أنه الإنفعال المنبعث من الروح القلقة ، الجنون الإبداعي ، الباكي حرقة وألماَ على المصير المفقود والضائع لبني الإنسان .
كريمة وماتبقى منها جعلت من الشعر حقيقة ووهما في نفس الوقت ، هو اللسان الحذق واللبق والمتدفق ، أنه لايحب الحَذر ولايحب اللجام ، يدركه الكبار ويذكره الصغار ، عابر الحصون والقلاع ، يلوّح دائما ويغني للعابرين في قطارات العمر اللامنتهية ، له آلاف العيون التي نراها في المرايا والسحب والشمس والأنهر والأثير و في كل ماهو جميل لايحب النظر الى القبيح من الأشياء والأفعال . أنه القدرة على الإنتصار الفنتازي الذي روته لنا الشاعرة كريمة في سطورها الأخيرة من النص أعلاه ( ولجتُ في أوردتي أبحثُ عن بقايا إمرأة /قَطفتُ لهيب الشمس/ لتسقي بذورالأرض) . تعبير في غاية الهدفيّة والمغزى فالنبت والزرع والأشجار باقية خالدة على مدى الدهور بينما بني البشر زائلون لامحال وهذا بحد ذاته إنتصار لوجود كريمة الأبدي والقادم من الأزل المتمثل بها كإمرأة مغربية أو في الذات الأنثوية الكونية التي لايمكن لها أن تكون مكفنة ميتة تحت أيةِ ذريعة ولايمكنها الصراخ بالكلمة ، فالحروف بتشكيلها تمثل السلاح الأساسي للشاعر الذي لايمتلك غيره ولهذا أعلنت كريمة شجبها في نص ( كفن الرزايا) :
أورفيوس يا صديقي
تمسك بيدي
ورفرف فوق ضباب الرؤيا
فحوافر أسنة الهزيمة تحيك
كفن الرزايا على قفر الأيام
تمسك بيدي…
وامش …
على لجة سحاب مرآتي
أورفيوس يا صديقي
التفت كي أسقط منك..
رويدا
رويدا
أحيانا يتصرف الأديب بروح رواقية ولكن الشئ الذي لايستطيع تقبله هي لامبالاة العالم والتي تكون على نحو غير مريح أقرب الى فتور الشعور وهذه بحد ذاتها تقوده الى المتاهة ، ولكي يجتاز هذه المتاهة تتطلب منه مغامرة إنسانية تتصف بالشجاعة والخيال الإبداعي .
يتـبـع في الجـزء الثانـالث
هاتف بشبوش/شاعروناقد عراقي