“عند نافذة معلقة
وجدت نفسك
أكثر وضوحا
تحت الشمس
الشمس التي
جلدت
بسياطها البيض
سطح البيت
وأنت تدور
من بيت
إلى بيت
إلى بيت
تذكرت
وسالت روحك :
منذ متى
لم تعد
إلى البيت ؟”
كنت قد كتبت هذا النص عام1994 بعد شهور قليلة على مغادرتي بيتنا ببغداد وأذكر إنني كتبته وكنت بضيافة الكاتب الراحل محمد طملية مضطجعا على سطح بيته في منطقة “الحسين” , حينها كانت موضوعة الحنين الى البيت تشغلني ولم أكن أعلم إن غيابي عن “البيت” سيمتد لستة عشر عاما , إنتقلت خلالها بين عدة بيوت لكن حنيني ظل متسمرا عند عتبة ذلك البيت الكائن في مدينة الحرية ببغداد
* * *
حين تلقيت رسالة من إدارة مهرجان المربد تدعوني للمشاركة في المهرجان السادس الذي كان قد تقرر عقده في البصرة من الفترة 23ولغاية26 مارس”آذار” 2010 م لم أكن أتصور, أن هذه الرسالة ستطلق النار على كل تلك السنوات التي وقفت بطابور طويل , ولأنني كنت مستبعدا جدا العودة للبيت لذا أجبت بالموافقة على الدعوة ,بلا تفكير ولا تردد , لألقي الكرة في ملعب الأيام وأريح ضميري تجاه أهلي الذين فوجئوا بالخبر , وصفقوا لي وبدأوا الإستعدادات للزيارة , كطلاء البيت وترتيب جدول و..و..و..و, وكنت حين أسمع تلك التفاصيل أضحك بيني وبين نفسي وأقول : إنهم يتصرفون كأنني حقا سأزور البيت !!!
وصرت كلما أفتح بريدي أضع يدي على قلبي خوفا من وصول رسالة من إدارة المهرجان تخص الدعوة , وإستمر الحال أياما حتى تناهى لسمعي أن المهرجان أجّل فطرت فرحا !!
ذلك لأنني لم أكن على إستعداد نفسي كامل لمواجهة حدث كهذا , لكن فرحتي لم تستمر طويلا لأن الدكتور سعيد الزبيدي الذي سيرافقني في الرحلة أبلغني أن وزير الثقافة أعلن عن إقامة المهرجان بموعده المقرر نقلا عن قناة “العراقية ” الفضائية .
إذن لا مفر من الرحلة الصعبة التي ستعيدني الى نقطة وضعتها صباح يوم1-2-1994م حين ودعت والدي ووالدتي وجدتي وأخوتي وحملت حقيبتي ومضيت الى كراج علاوي الحلة بصحبة أخي محمد الذي ودعني هناك مع الصديقين وديع نادر وجبار المشهداني وكانت معي في الرحلة الصديقة الشاعرة أمل الجبوري وابنتها الرضيعة “ملاك” والصديقة حكمية جرار , واليوم بعد هذه السنوات الطوال , رحل الثلاثة الذين ودعتهم في بيتنا “والدي ووالدتي وجدتي ” أما الرضيعة “ملاك” فقد صارت شابة في السابعة عشر من العمر وحكمية جرار رحلت قبل عامين وتغير وجه بغداد بالتأكيد, لكنها ظلت تتنفس في مخيلتي!
“عندما تعود الى الوطن
لا توجه وجهك
صوب البيوت
والمدن
والحدائق
اعط وجهك المقبرة
هناك
هناك
ستجد الكثيرين
ممن تود أن ترى
ويودون أن يروك
ولو من تحت
تراب الذكريات”
كنت أطرد هذه الأفكار من رأسي بالإنغماس بالعمل , بخاصة أن الأيام التي تفصلني عن موعد الدعوة كانت مليئة بالعمل والأنشطة والفعاليات كان أبرزها الإشتغال بملحق يومي عن جريدتنا يغطي فعاليات مهرجان مسقط السينمائي ,وقبل ذلك المشاركة بمهرجان مسرحي جامعي أقيم بالرستاق , لذا لم أطل التفكير كثيرا في الرحلة , حتى وصلتني التذكرة ,وكانت الى بغداد , فصرت وجها لوجه أمام الحدث المنتظر ,
وأي حدث !
كان قلبي يخفق كلما إقترب الموعد المقرر للسفر , ويصاب تفكيري بالشلل , لكنني في الأيام الثلاثة الأخيرة بدوت مستسلما للفكرة , مقتنعا بما سيأتي , لذا أوقفت التفكير بهذا الأمر تماما , وصرت الملم ملابسي وأضعها في حقيبتي بحركة ميكانيكية , وفي الليلة الأخيرة كنت مصمما على إمتصاص آخر رشفة في رحيق مسقط ومهرجانها السينمائي حيث حضرت حفل الختام , وحين خرجت من القاعة فتحت هاتفي وإذا بسيل من الإتصالات من أهلي يخبرونني إنهم سيكونون بإنتظاري في ساحة عباس بن فرناس ! وحين إستفسرت عن تلك الساحة قيل لي إنها آخر نقطة يسمح بها توديع وإستقبال المسافرين في مطار بغداد الدولي من باب التحوطات الأمنية وتقع على بعد عدة كيلومترات عن المطار , فطلبت منهم إنتظاري في فندق المنصور ميليا مقر إقامة ضيوف المهرجان ظهرا , حيث أن الطائرة ستنطلق في الثامنة صباحا متجهة للمنامة , وبعد “ترانزيت ” لأقل من ساعات ستتجه الطائرة لبغداد , وبعد عدة محاولات إقتنعوا بإقتراحي , حاولت في تلك الليلة أن أحافظ على هدوئي محاولا النوم ولو لساعات قليلة حيث ان بإنتظاري رحلة شاقة , وبالفعل تمكنت من النوم قليلا, نهضت فجرا , وبعد أدائي لطقوس الصباح المعتادة حملت حقيبتي وغادرت البيت بصحبة زوجتي التي طفرت من عينيها عدة دمعات , فلم تكن موافقة على السفر لاسيما أن وسائل الإعلام تنقل لنا يوميا صورة مؤلمة عن تدهور الوضع الأمني , إستحضرت أبا زريق البغدادي:
لاتعذليه فإن العذل يوجعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
لكن إتجاهي كان متعاكسا مع البغدادي الذي قالها مودعا بغداد والقمر الذي “من فلك الأزرار مطلعه” بينما أتجه أنا الى بغداد التي بدت الطائرة مسرعة جدا وهي تتجه صوبها , لم أصدق أذني حين أعلن أحد أفراد طاقم الطائرة عبر مكبر الصوت دخولنا الأجواء العراقية ,ثم أردف ” راجين البقاء في مقاعدكم نظرا لوجود مطبات هوائية غير متوقعة ”
قلت : إذن دخلنا فعلنا الاجواء العراقية !
إبتسم الدكتور سعيد , ثم أغمض عينيه ,مستسلما لنعاس لذيذ أفسده مطبات خفيفة داعبت جسم الطائرة التي ظلت تسير بسرعة خلتها جنونية !
بدأت الطائرة تهبط شيئا فشيئا , مثلما تهبط أية طائرة على وجه البسيطة !
نظرت الى الأسفل عادت الى روحي الطمأنينة , شاهدت المربعات والمستطيلات الخضراء تذكرت إننا في موسم الربيع الذي ترتدي خلاله أرض العراق ثوبا مطرزا بالإخضرار , بل أن ذلك اليوم هو يوم عيد الربيع أو عيد نوروز وبه تبلغ الطبيعة هناك ذروة عنفوانها !
سلاما أيتها الطفولة الغارقة تحت ركام الأيام والدخان
سلاما أيتها الريح الحنونة
سلاما أيتها المآذن ودعوات الأمهات
سلاما….سلاما
بدأت البيوت بالظهور ,مثل حبات قمح صغيرة ثم صارت تكبر صرنا نرى مآذن وساحات , ظل نظري شاخصا يبحث عن البيت وسط مئات أطنان حبات القمح !
تبادلنا الإبتسامات حين هبطت الطائرة وأوقفت محركاتها عن الدوران, إذن كل شيء سار بسلام , و لم يبق لي سوى دخول عتبة البيت !ولكن دون ذلك طرقات ونقاط تفتيش وحواجز كونكريتية كانت تبدو من الأعلى مثل أسوار رفيعة تفصل مناطق بغداد عن بعضها !
حين نزلنا من السلّم شعرنا ببرودة الهواء وعذوبته, لحسن الحظ أن الحرائق لم تفسد علينا الهواء الذي لم يزل مثلما تركته , بداية طيبة , جعلتني أتفاءل خيرا وأحث السير لأضع قدمي على الأرض التي فارقت , لكن إسفلت ا{ضية المطار حرمني من ملامسة التراب
وقبل أن أطيل التفكير كانت الحافلة التي تقلنا الى بناية المطار , قاطعة امتارا قليلة , لا تعرف ماذا يجري في رأسي من أعاصير وعواصف , صعدنا , وبعد دقائق وجدنا أنفسنا في الباب الخلفي للقاعة , شاهدت رجلا من إدارة المهرجان يتقدم الينا ويرحب بنا بلطف شديد ويأخذ جوازاتنا أنا ومن كان معي في الرحلة :الدكتور سعيد الزبيدي والشاعرة هاشمية الموسوي والشاعر حيدر النجم ,والشاعر المغربي كمال أخلاقي إتصلت بأخي الأصغر عدنان قلت له:أنا في بغدااااد
بدا أخي من خلال إرتعاشة صوته غير مصدق ,فصاح:” هلا , الف الحمد لله على السلامة , أهلا , نورت , سننطلق الآن من البيت لنلتقيك في فندق المنصور ميليا ”
أغلقت الخط وأنا أدرك إن أخوتي رغم كل وعودي لم يصدقوا إنني سأفعلها وها إنني فعلتها وجئت لمكان ربما لم أجد لي به مكانا أجالس به ذكريات الأمس البعيد , ربما كيّف نفسه على الإستغناء عن وجودي !ربما
لاحظ “النجم ” صمتي حاول أن يستفسر قلت له : هذه عودتي الأولى لبغداد بعد 16سنة متواصلة , فبدا على وجهه التأثر, قلت له : دعك من هذا الآن ولنلتقط صورة بالمناسبة , وقبل أن يجيب أخرجت كاميرتي ,وسلمتها لأحد الذين كانوا معنا على متن الطائرة , ولكن على الفور جاء رجل أمن شاب وقال:عذرا , التصوير ممنوع , فأعدت غطاء الكاميرا , علق:إنها تعليمات الشركات الأمنية , قلنا له:لا عليك ,فقط أردنا أن نوثق اللحظة , فكرر إعتذاره, بعد دقائق عاد وقال: إنها مجرد صورة, لكن ماذا نفعل للشركات الأمنية وتعليماتها, قلنا له: نقدر ذلك, لا تهتم, بعد قليل عاد الينا قائلا:التقطوا الصورة , وليحدث ما يحدث فضحكنا وقلنا:بهذه أثبتت عراقيتك!
أعادوا الينا جوازاتنا فعبرنا الحاجز وهناك وجدنا مجموعة من الرجال الأنيقين يتقدمهم الشاعر منعم الفقير تبادلنا التحيات والسؤال عن الحال والرحلة والمدعوين .
توزعنا على السيارات التي إنطلقت بنا كان معي في السيارة د.سعيد الزبيدي وحيدر النجم وكمال أخلاقي , مددت البصر على الجانبين بدت لي الأشجار واقفة في مكانها كما كانت , لم أشاهد أثرا لدوريات عسكرية محطمة كما خيل لي ,ومن بعيد لاح لي تمثال “عباس بن فرناس” وهو يفرش جناحيه المثبتين بالشمع في الهواء في محاولة يائسة للطيران أجهضتها أشعة الشمس فسقط ليظفر بتمثال إحتل هذا المكان منذ سبعينيات القرن الماضي , وهاهو مثلما كان في مكانه لكنه ما يزال محافظا على حلم الطيران
قال لي د.سعيد الزبيدي: هذا هو المكان الذي قال لك أهلك إنه يريدون إنتظارك به
نظرت اليه شاهدت العديد من السيارات الواقفة في العراء وعشرات المستقبلين والمودعين , فجأة تحركت سيارتان عسكريتان وثالثة للإسعاف واصطف الجميع بموكب طويل ,إستفسرت من السائق عن ذلك؟ أجاب : السيارات معنا من أجل أمن الضيوف , كان من المفترض أن جملة كهذه تشعرني بالطمأنينة لكنها أحدثت أثرا عكسيا , فوجودها دليل وجود خطر , وهو ما نحاول التغلب على الإحساس به بالإنغماس بأحاديث شتى !
في الطريق شاهدنا العديد من نقاط التفتيش وكان رجال النقاط يلقون نظرة علينا ثم يفسحون لنا الطريق حتى وصلنا فندق المنصور ميليا وصدمت برؤية الخراب الذي حل بمسرح الرشيد , المسرح الذي شاهدنا به أروع العروض المسرحية والسينمائية والحفلات الموسيقية , هاهو يتحول الى أنقاض :
إذا صادفتم موتا ضالا
في أحد شوارع بغداد
لا تأخذوا بيده
فهو لا يحتاج إلى إدلاء
إنه يعرف طريقه جيدا ً
إنه يذهب إلى الشموس الأولى
والأعناق
إنه يذهب إلى المكتبات
والمساء العريق
إنه يذهب إلى الحدائق المعلقة
في القلوب
حاملا ً خرائط الغزاة
من أسلافه
إنه يذهب إلى الطفولة
التي تفيض من أثداء دجلة
لتغرقنا بمحبتها
إنه يذهب
حيث تشاء النهايات المفتوحة
وعليه …
إذا صادفتم موتاً ضالا ً
في أحد شوارع بغداد
لا تأخذوا بيده
بل قولوا له :
ـ تفضل
أنت في بيتك
أيها الخراب”
أوقف رجال الأمن المزروعون عند باب فندق “المنصور ميليا ” السيارة التي تقلنا ,
سألنا رجال الأمن إن كنا نحمل معنا سلاحا فأجبنا بالنفي
وبدأوا تفتيشا دقيقا للسيارة , خلال ذلك رفعت نظري الى الأعلى فشاهدت لافتة كتب عليها رقم قرار صادر بأمر من رئيس الوزراء نوري المالكي يفرض به تفتيش الجميع حتى كبار المسؤولين في الدولة وفجأة أشار جهاز الكشف عن المتفجرات وجود مادة كيمياوية في السيارة !!
كرر رجال الأمن سؤالنا إن كنا نحمل معنا سلاحا , فأجبنا بالنفي ,
قال أحدهم : هل معكم عطر أو أحد بأسنانه حشوة ؟
قلت :يمعود, كلي حشوات !
فضحك من كان معي
طلب مني بأدب جم النزول من السيارة
نزلت, أعاد فحصها من دوني فلم يؤشر الجهاز
عندها طلب مني العودة للسيارة مع إعتذار شديد والسماح بالدخول , فضحك كل من كان معي قال كمال اخلاقي :لن نركب معك ثانية , أنت رجل ملغوم بالحشوات!
تحول الموقف الذي وتّر أعصابنا الى طرفة نتبادلها , كما كنا نفعل أيام الحرب في الثمانينيات , كانت السخرية دواء ناجعا للكثير من العلل , ولذا حين التقيت لاحقا بعدد من الشعراء من بينهم :جاسم بديوي وعمر السراي وحسين القاصد وعلي وجيه وعلياء المالكي وعارف الساعدي رووا لي عددا من الطرائف التي أبطالها رجال النظام السابق , سألتهم :نريد أن نسمع طرائف عن المسؤولين الجدد , سكتوا , ذكر أحدهم طرفة حول جلال الطالباني ,علق بديوي: الطرائف تحتاج الى مناخات كبت لكي تزدهر !
* * *
وجدنا في الباب الداخلي بوابة فحص الكترونية إجتزناها فدخلنا الفندق الذي كان المكان المفضل للقاءاتنا أنا وعدنان الصائغ وفضل خلف جبر وجواد الحطاب وأمل الجبوري ودنيا ميخائيل وأياد الزاملي وسلوى كوني وغادة حبيب وايمان محمد وأحمد الدوسري ونجاة عبدالله وريم قيس كبه وحيدر الخفاجي وطارق زياد وضيوفنا في مرابد الثمانينيات .
تحركت عدة خطوات بحثا عن بقايا الذكريات عبثا , كان قد أصبح كل واحد منا تحت نجمة من نجوم سماوات المنافي :
“عندما تعود الى الوطن
وتشتاق الى رفاق الصبا
فلا تبحث عنهم في الأزقة الحامضة
ولا في حانات الذنوب
بل تتبع آثارهم
في خارطة المنافي المعلقة
على طاولة القيامة”
أول من رأيت من الوجوه الشعرية الجديدة كان الشاعر مضر الألوسي صافحته وسألته عن عارف الساعدي وعمر السراي وجاسم بديوي فقال :ستلتقي بهم في البصرة فكلهم مشاركون في المربد
جلست على إحدى الطاولات وماهي الا دقائق حتى دخل أخي عدنان مع وطفلته وزوجته التي رمت على رأسي الحلوى , تبادلت مع أخي عناقا حارا ثم أشار الى الزاوية القصوى من الفندق ظننت إنه يطلب مني الذهاب الى الداخل وإذا بي أرى عددا من أفراد عائلتي كانوا بإنتظاري ولم يعلموا إنني كنت جالسا على بعد أمتار قليلة من مجلسهم , تبادلنا العناق والقبل والتحيات والدموع ,كنت أشبه بالمنوم مغناطيسيا ,شاهدت آثار السنين على وجه عمتي التي أصرت على إستقبالي كما قال ولدها الدكتور خالد عجمي لتعوض عن غياب والدتي , سألتها عن صحتها؟ أجابت: الحمد لله , ثم أطرقت وقالت : “هذه هي الحياة ياولدي مضوا ونحن سنمضي خلفهم وسيأتي أناس آخرون “نظرت في الوجوه الجديدة بعائلتنا وبدأت أستفسر عن أسمائهم التي كنت قد سمعت بها , وكانوا يعرفونني من صوري !
كان أخي الأكبر الدكتور حاتم يتابع أخبار وصولي بغداد من الصين
حقيبتي لم تزل ملقاة في الإستقبال ومفتاح غرفتي في يدي والدموع بقلبي ,بعد قليل وصل بقية أخوتي:علي وعادل ومحمد وأختي الكبرى نضال التي لم تتمالك نفسها فبكت بصوت أثار إنتباه الجالسين الذين يبدو أنهم إعتادوا كثيرا على مثل هذه المشاهد,قال لي أخي عدنان: هناك جزء من العائلة يتهيأ للقدوم فهل تفضل أن ننتظره أم نذهب الى بيتنا لتقابله هناك
فلم أحر جوابا
كنت في حالة ذهول وهيجان عاطفي , نهضت لأستأذن من إدارة المهرجان التي طلبت أرقام هواتف أخوتي بعد التأكد من صلة النسب بي
إذن أنا أمضي بإتجاه البيت , ولكن كيف سأراه من دون عموديه اللذين رحلا خلال الغياب ’الأب عام1994 م والأم عام2006م وخلال ذلك تهاوى العمود الثالث كجدتي التي خصصتها بنص نشر في مجموعتي”شمال مدار السرطان” حمل إسم”مشية مريخ”:
صاحبة هذا الاسم
الفلاحة التي لا تعرف القراءة والكتابة
مثل نبي
البسيطة مثل نجمة
الخجولة مثل هلال
هل كانت تصدّق لو قلت لها
أنني سأدون اسمها في كتاب لي يصدر في عام 2001
ليس من باب المباهاة
ولا لأنها جدتي
ولا … ولا …
بل نكاية بالعالم
الذي لم يذع نبأ موتها
في نشرات الأخبار”
خرجنا من الفندق الذي زودني ببطاقة تؤكد إنني من المقيمين لتسهيل مروري عند الدخول في محيط الفندق ,في الخارج مررتنا بأكثر من نقطة تفتيش شفعت لي عندها البطاقة التي زودني بها الفندق , ربطت حزام الأمان , قال لي أخي: ماذا تفعل هنا لا تحتاج الى حزام أمان ؟ وضحك , وحين شاهدني مصرا على إحكام إغلاق حزام الأمان ربط حزامه أيضا , وعند أول نقطة تفتيش نظر الينا أحد رجال الأمن بدهشة وقال:كلاكما يربط حزام الأمان , مابكما ؟ هل تخافا رجال الشرطة الى هذا الحد؟ وأطلق ضحكة عالية, فعلمت أنني يجب أن أغير بعض عاداتي لكي أندمج في الواقع الجديد أو القديم !!
حين وصلنا منطقة علاوي الحلة شاهدت بناية تجنيد الكرخ التي كانت تمثل لنا نقطة تكدير مزاج فمنها كان الشباب يساقون لمراكز التدريب التي تعدهم بعد ثلاثة شهور أو أكثر او أقل حسب الصنف للذهاب الى جبهات القتال رأيتها قد تحولت الى مركز لمنظمة نسائية !!!
سألت عن أصدقاء طفولتي , أجاب أخي علي مذكرا إياي بنص لي:
“عندما تعود الى الوطن
ويقودك الحنين
الى مدرستك الأولى
لا تبحث عن رحلتك المدرسية
تلك التي تآكل عليها الوقت
وجدول الضرب والقمع
وسروالك الموشى بخرائط الفقر
بل أذهب الى أي ثكنة عسكرية
ستجد دم طفولتك
مسفوحا تحت المجنزرات
بالقلم العريض”
سكت , إستعرضت عددا من الأسماء , إتصلت بعدد منهم :قاسم جبر وبهجت عبدالوهاب الذي لم يبق من شكله القديم حين التقينا في نادي الشعر بإتحاد الأدباء سوى صوته ! وحين سألت عن صديقي هادي الذي كان يقاسمني السكن في صنعاء قيل لي إنه قتل قبل ثلاثة شهور حين دافع عن شخص مطارد يراد قتله فإحتمى به لكن الرصاصة تحولت الى صدره الذي كان مليئا بالمحبة والجمال.
“إنهم يرحلون
والآن لانعرف الآن
كيف نضيء؟”
* * *
رغم أن المساء كان قد حل الا أن الإزدحام كان على أشده إستفسرت من أخوتي! قالوا :إنها حديقة الزوراء تستقبل المحتفلين بعيد النوروز
قلت لهم:ألا يخافون من تفجير سيارة مفخخة أو عبوة ناسفة ؟
أجابوا: هذه الأمور لم تعد تخيف الناس ,وحتى لو ماتوا سيموتون سعداء !
تذكرت “الموت السعيد” لالبير كامو وعبثية الموت في المدن المكتظة بالفجائع!
في الطريق الى مدينة الحرية مررنا بلافتة كبيرةكتب عليها”مقر حزب الدعوة الإسلامي” قلت :سبحان مغير الأحوال !حين غادرت العراق كان مجرد الهمس بإسم هذا الحزب يعني الدخول في غيابة الجب ! أما الآن …
تذكرت قوله تعالى من سورة آل عمران ” إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ”
على الحيطان كانت تنتشر صور المرشحين لإنتخابات البرلمان , الى جانب صور لشهداء ورجال دين بعمائم سود وبيض !
بعض تفاصيل المشهد العراقي الراهن
حين بلغنا ساحة عدن إنحرفت سيارة أخي عدنان بإتجاه الجهة اليمنى بإتجاه الكاظمية , قلت له:لماذا لا نستمر؟قال:كما ترى الشارع قطع خلال سنوات العنف الطائفي بلوائح كونكريتية عالية للتحكم في عملية دخول وخروج السيارات , وبذلك كثرت الإزدحامات !
مالت السيارة يسارا وبدأت أستعيد الأماكن فبدوت مثل طفل صغير يتهجى الحروف والأرقام وسط إستحسان معلميه , قلت:هذا معمل الشاي فشهق جميع من كان في السيارة :صحيح ما شاء الله! وهذه منطقة الدباش وووووأخيرا توقف أخي وقال:والآن الى أين نتجه؟
عصرت ذاكرتي واغرورقت عيناي بالدموع , قلت الى اليمين بيتنا , فصاح:ممتاز! أنت شاطر!
قلت لهم: من الغريب إنني حاولت الوصول الى بيتنا عن طريق تشغيل محرك البحث في “كوكل إرث “فتهت , لكنني عند تشغيل ذاكرتي على التراب نجحت!
ربما لأن التراب ينشط الذاكرة ويدل على نفسه
قبل أن تنحرف السيارة الى اليمين شاهدت قبة كبيرة محطمة قال لي أخي: إنها شاهد على العنف الطائفي , ففي أحد الأيام صعد أحد الإرهابيين قبة هذا الجامع وتمركز في المنارة , وظل يطلق النار على كل من يمر بهذا الشارع , فقتل الكثير حتى جاءت جماعة مسلحة ففجرت القبة , وقتلت القناص !
” عندما تعود الى الوطن
لا تحمل ورودا لمن ينتظرك
وسط دخان الحرائق
تحت أنقاض الغد
فالورود معرضة للرياح المفخخة
وقد تجد مأوى لجثامينها
فوق قطرة دم تسلق
الشبابيك البلاستيكية
عند انفجار أقرب لغم”
* * *
ظلت السيارة تمشي حتى قلت لأخي والدموع تملأ حدقتيّ :قف , نزلت لم أطرق الباب
“وأنت تدور
من بيت
إلى بيت
إلى بيت
تذكرت
وسالت روحك :
– ياه…
منذ متى
لم تعد
إلى البيت ؟”
بنات أختي اللواتي تركتهن صغيرات وصرن نساء متزوجات يقفن مع اطفالهن نثرن الحلوى على رأسي, علامة إبتهاج كما فعلت زوجة أخي الأصغر في الفندق .
كانت النخلة التي تركتها صغيرة صارت عالية جدا, تطاول قامتها الطابق الثاني من بيتنا , نظرت الى حشائش حديقتنا وجدتها قد شاخت وأصيب جزء منها بالصلع حيث ظهر طين الحديقة الذي سحقت ظهره أقدام الأيام واضحا للعيان !
تحركت بإتجاه غرفة الضيوف وجدتها غاصة بالضيوف من الأهل إستعدت المكان شاهدت لوحتين زيتيّتين للدكتور برهان جبر إستقاهما من نصوص لي وقد إستقرا في مكانهما , وكنت قد نسيتهما , شاهدت جزءا من كتبي في المكتبة , شاهدت صورة معلقة لأخي الشهيد عبدالستار كنا نخفيها عن الأعين , بينما الآن كبرت الصورة وإحتلت مكانا بارزا في الغرفة , وجوه في البيت إختفت وظهرت وجوه أخرى جديدة مؤكدة حركية الزمن
بعد أن تناولنا وجبة عشاء كانت حافلة بالمأكولات العراقية قلت لأخوتي:علي ّأن أعود الى الفندق فغدا ينتظرني سفر آخر للبصرة
وبصعوبة إستطعت مغادرة البيت.
“نشر في العدد الجديد 63 من مجلة “نزوى ” يوليو2010 ”
razaq61@yahoo.com