الحركة الجوهرية
1972نهض بصير بدشداشة عتيقة وكوفية غير مرتبة وبيديه كتب .. قاطع الروزخون في احدى الحسينيات بمنطقة البجاري :(مظهري يفصح عن مخبري … وهذه كتب فلسفتنا واقتصادنا ) وجلس . قبلها رايته رافعا المجلدات وهو يصيح في سوق المطاعم بالعشار (هذا هو كتاب الفيلسوف الاسلامي محمد باقر الصدر .. البنك اللاربوي وفلسفتنا ).. رجل قصير اعمى ..كان العشار سيلا هادرا من البشر وام البروم حية حيوية حتى الفجر حتى قيل <العالم يغفو والبصرة لا تنام|>.. كانت مقهانا على بعد امتار من مطعم ابو ستار الشهير ومائة متر تبعد عن ملهى حمورابي …جذبتني تلك المصنفات قبل ان اقرأها ..نتحدث عن ينبوع المراهقة الاول .. عمر ثلاث عشرة سنة ..حيث المخيلة محلقة وفضول المعرفة موج هادر.مع شحة بالكتب والافتقار الى بوصلة من احد.
سنة 1973 اقتنيت الكتاب (فلسفتنا ).. طباعة فاخرة وغلاف انيق ..ماذا تتوقع من شاب انعزالي بلا ارشاد وهو يقع في سيل متلاطم من المعارف ..التقيت حيدر الكعبي في المكتبة العامة .. اخبرته يوما ( قرأت كتاب \كانت \بفتح النون ) فضحك مرددها بتسكين النون ..مضيفا \< فيلسوف الماني مهم >.اذن عليّ ان اقرأ لعشرات العلماء والفلاسفة ..لاول مرة ادرك عمق جهلي ..وكانت المهمة عسيرة وانت متعجل ..الفرويدية .. الوجودية .. الماركسية ..الظاهراتية …قبلت التحدي وكنت اقرأ عشر ساعات يوميا على الاقل .. نوم قليل وكدح ثقافي .
اهم ما استوقفني في فلسفتنا موضوعة (الحركة الجوهرية ) \للفيلسوف المتأله الملا صدرا الشيرازي التي بينها في كتابه الرابع اﻷسفار اﻷربعة \…
<<الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادة والروح، فان المادة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها وتستمر في تكاملها حتى تتجرد عن ماديتها ضمن شروط معينة وتصبح كائنا غير مادي أي كائنا روحيا فليس بين المادي والروحي حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من انها ليست مادية فان لها نسبا ماديا ).
اطلعت صديقي الرائد البريكان على هذه النظرية فقال (ان لم يسبقه احد فهو انجاز علمي هائل ), ولكني وجدت جذورا لهذه النظرية في الفكر العربي وان بدرجة اقل وان الفكر الاوربي خاض بمثل هذا البحث : ((ظهرت هذه النظرية عام 1948 على يد جورج غاموف، ثم أكّدتها الأبحاث العلمية المتلاحقة في عامي 1960 و1970، حيث أنّ جورج غاموف ذهب إلى القول بوجود تحرّك بدئي في المادة أو الكون في مجال لا يتجاوز حيّز البروتون الواحد.))
لكن في تلك الايام مع فقر للمصادر وندرة اليد الساندة من سيشرح لي هذه النظرية …قلت انها لا تفرق اذن عن التنظير الماركسي (الروح مادة تطورت )..
اثناء معركة الفاو اخر الثمانينيات هجرنا اختيارا فسكنا الناصرية اقرب محافظة للبصرة .. هناك دخلت المكتبة العامة وطلبت كتاب (الحركة الجوهرية ) فقال المشرفون : < هذا الكتاب منعت استعارته ).
بعد السقوط بسنة رأيت شيخين قرب الجوازات سألت احدهما عن النظرية فقال سانادي صاحبي فهو مختص بالفلسفة … صاحبه ارشدني بان اطلع على المؤلفات الفارسية لتفهم الموضوع .
في احد جوامع البصرة …قيل لي اذهب اليه .. يعطي دروسا متقدمة باللغة العربية ..سألت طلابه قبل وصوله عن اعراب جملة بسيطة من مبتدأ وخبر فيها تقديم .. فاحتجوا \ انت تريد اختبارنا !!\..اتى المدرس معتما بعمامة سوداء , وجه بهي , وركود نفسي مثالي .والقى درسا من بن عقيل فاستغربت لذلك …قال لي لك ربع ساعة فانا ادرس نهارا بحي الحسين وليلا هنا .. قلت له طلابك يجهلون الاوليات وانت تدرسهم بن عقيل , قال (نحن كتبنا اعلانا يشترط شهادة اعدادية او معهد ).. في اللقاء الثاني بعد اسبوع كان الوقت موسعا بيننا فسألته عن الحركة الجوهرية اجاب راجع علي الكوراني ودارسين مختصين بالحركة الجوهرية في ايران .
اليوم وانا استذكر كل هذا الذي جرى قبل نصف قرن لا انصح مبتدئا ان يدنو من أي علم او فلسفة دون ان يتدرج باستيعاب الاوليات .وان المدرس الماهر ان توفر للفرد يحجم له الجهد. بقيت طيلة منع كتاب فلسفتنا نجم الجلسات اشيد به واشرح منه ..رغم اختلاف مع بعض اطروحاته لاحقا ..لكن هذا الكتاب <فلسفتنا >الذي اصبح متاحا بعد سقوط النظام .. وبسعر زهيد نادرا ما رأيت احدا يقتنيه او يقرؤه .. كان المنع حافزا اليه .
لقد تمكن النت من اعتقال ( الاخرين ).