تأملت خطوط يده . رأت امرأة ، تمشي نحو الأفق ، تلتحف إزارا أبيض ، لا يُشتكى منها قصرً ولا طولُ . بشرتها صافية مثل الماء ، يكاد وجهها يعكس صورة من ينظر إليها .
رفعت العرافة بصرها ، وتأملت ملامح الرجل ، وصمتت قليلا ، ثم همست بصوت واهن ، كأنها تتحدث إلى نفسها :
ـ كرامة ! المرأة ذات الشعر الغجري . قيل بأنها تعشق ، وتنتظر نبيا ، رحل لاستلام الرسالة ، ولم يظهر بعد .
ثم أشارت بأصبعها :
مرت منذ سنوات من هناك . كانت حزينة ! اشتكت من ظلم الناس ، وقسوة الغربة ، وألم الفراق ، فركبت القطار . لا أحد يعرف المكان الذي قصدته ، ولا متى ستعود . كل الموظفين والعمال والتجار ، وعيون السلطة ، وبقية الناس الذين ترى في المحطة يسألون مثلك ، ويتمنون لو حظوا بقبس من ضيائها حتى يتعافون من أمراضهم .
قال مثقف تاجر لزوجته :
ـ والله لو رأيتها لتمنيتِ أن تكوني مثلها !
نهرته بقوة ، وشتمته في خاطرها :
ـ ألم يدرك ميت القلب بعد ، بأنّ المال صرفه عن رسالته ، وبأن المرأة لا تحب أن تتشبه بأحد ؟
أدرك حجم خطئه ، فانقبضت ملامح وجهه ، ثم أطلق العنان لابتسامة صفراء .
صَوتُ القطار يَهدِرُ من بعيد . تبادل الرجال والنساء النظرات . حمل الرجل حقيبته ، وسار بضع خطوات إلى الأمام وتوقف . لكن القطار لم يتوقف ، مَرّ سريعا مثل العمر.
بقي الانتظار وحده يبلع قسوة الأيام ، وهَديرَ أصوات القطارات التي تأتي وتمضي .
فتح الحارسُ شريط الغناء . خيم صمت رهيب على المحطة ، لم يخرقه سوى صوت المغني :
ـ (ستُفتِّش عنها يا ولدي في كل مكان
وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان
فحبيبةُ قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان)*
—
الهامش :
*مقطع من قصيدة قارئة الفنجان لنزار قباني ، وقد لحنها محمد الموجي ، وغناها عبد الحليم حافظ سنة 1976 .
مراكش 26 مارس 2021