الشاعرة رماح إستطاعت أن تكتب الحدث الخارجي والحدث الداخلي في أغلب نصوصها .الخارجي هو مايحيط بنا من شواهد وأمكنة أو شخوص بأسمائها وأفعالها فقط ،أما الداخلي هو وصف الشعوروالأحاسيس والتفكير الباطني.رماح بوبو حين تفرغ جواهرالشعروكإنها تقول لنا من انّ الحب الذي لانشعر به أبدياً فإنه ليس واقعا ولم يحصل بعد. رماح جعلت الشعر يركض ويركض على قدميه مثلما قالها يوما الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (إذا كان كارل ماركس جعل الفلسفة تمشي على قدميها بعد ان كانت تمشي على رأسها فأنا جعلتها تركض) . لأن ماركس أراد تغيير العالم بعد أن كان قبله أرادوا تفسيره.لذلك نرى مهمة الشعر أيضا هو الحلم في تغيير العالم بعد تفسيره من قبل الشاعر وهذا هو الحلم النشيط الذي نراه لدى الشاعرة رماح اللاذقية المسكن وسورية الهوية في ديوانها قيد دارستنا هذه (خشخات تنقر النافذة) والذي نرى من خلاله عيون الشعر لدى رماح وكإنها أصبحت نوافذا للجسد فتطل على الأشياء الجامدة والمتحركة وعلى أفعال البشر خارج مايحيط بها من جدران .
رماح كتبت في أحد أبواب القصائد(انّ الأحجار والمواد هي أسمى الموجودات ، الإنسان هو العماء أو الإختلاط المطلق.. الشاعر الألماني نوفاليس) وهنا يقول محمود درويش في قصيدته الشهيره( لاشيء يعجبني) وعلى لسان أحد ركاب الباص يقول: درست الأركولوجيا فلم أجد الهوية في الحجارة.للدلالة على أرض فلسطين وهويتها التي سرقت. وتبقى المواد لاتشعر ولاتحس وليس كما الإنسان المعذب على الدوام وهي الخالدة كما خلود خشب السنديان .
لو أريد الإنزياح أكثر وأعطي بعدا آخرا للخشخشة في موسومية الديوان التي تعني الصوت الصامت من حركة الأشياء فهي أقرب الى نبات الخشخاش الذي ينتج المورفين لتهدأة آلامنا عند مشرط الطبيب فهكذا هي البنية ومابنته رماح في لغز القصيد وشكل القصيد عموديا وأفقيا فتعطينا الخدر كي نسترخي على الأرائك حين نستدرك ماتعنيه رماح وهي تتوغل في شعاب ودروس النار في تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة .
رماح لها القدرة على صهر المعرفيات في القصيدة التي تتشكل بين ماهو عام وخاص وتفصلها عن ذلك أيضا ميلودراما لآهاتٍ تنتظر. رماح في هذه المجموعة ترسمُ الموعظة من خلال شعوب مر بها الكثير من الطغيان ولازالت ترزخ تحته ومامهمة الشاعر سوى الإستعارة الواقعية ونقلها للقاريء بتوسعة أفقية وبزمكانية مرّت عليه وعاشها أو كان أحد أبطالها أو سمع بها بنقلٍ صادق.أضف إلى ذلك تعتمد رماح على إيصال الفكرة النهائية للقارئ بشكل صدمة بحيث أنّ القاريْ مُجبر على الشّعور بها بدراية تامّة مثلما نقرأ لأبطال النصوص من أنّ جميعهم كانوا على إدراك عميق بما يفعلونهُ و يستوجبُ المضيّ في فعله وإتمام ما أرادوا أن يصلوا إليه في ذلك المجتمع الذي يعيشون به مثلما حصل للعظيم ( لوركا) ، ومن ثمّ ردّة فعل المجتمعات جعلت من هذا الشاعر الفدائي مشهورا على مرّ التأريخ لأنّ الذي قام به هو ليس ضمن النّطاق الإعتيادي لأخلاق البشر وتضحيّاتهم بل هو حالة قلّما تتكرّر في التأريخ البطولي لنقرأ رماح بهذا الخصوص ونص( لوركا في أحضان النارنج) :
سأتناول هاتفي
سأتصل بلوركا
ثم أغلقه قبل إندلاع الرنين
هكذا ألعب مع عبّاد الشمس
أنكمش كازدحام النبض في مرحبا
جاءت بعد انتظار طويل
آسفة سوريا / أحاول أنْ/أعتق الملكوت
وأمشي الى الرذاذ/ ولكنك لاتنفكين قصيّة / وكل دنانكِ قصب
إبقَ حيث الغناء فالأشرار لايغنون ( مثل غجري)..
النص هنا صادم في جزءه الأول( سأتصل بلوركا) ثم تنثال رماح بشكل زهري وتعطينا درسها من أنّ لوركا والثورييون ليسوا عبيدا كما زهرة عباد الشمس وإنما يصنعون قراراتهم بمحض إرادتهم إذا ما أرادوا شمس الحرية .النص هنا بطولية خالصة فرديّة فأعطته رماح الطبيعة العابرة لسلوك الإنسان العادي،إذ أنّ القارئ يميلُ للتّعاطُف مع البطل وخُصوصا البطل الذي يحملُ عُنصر الخير لا الشرّ، والمتلقي يهمه الإستمتاع الأكثر تشويقا كما في الشعر المسرحي أو الفن السابع وكيف نرى البطل يقوم بدور تحقيق العدالة ولو على نطاق ضيّق لكنّها في المعنى العامّ تُفيد من أنّ البطل هذا هو المُخلّص أو هو المُنقذ للشّعوب من الظّلم والحيف الذي يحلّ بها. ومن خلال أولئك الأبطال تنطلق رماح إلى الشريحة الاجتماعية التي عاشت بها وترى ماهي ردة فعل الشعوب هذه أزاء أولئك الأبطال ولذلك إنداحت وقالت :(آسفة سوريا / أحاول أن/أعتق الملكوت /وأمشي الى الرذاذ..الخ) وكإنها هنا حين سمعت كلمة (مرحبا) من الطرف الآخر الذي هو ( سوريا) فأبدت بعذلها الجميل والرافض بنفس الوقت ( كل دنانك قصب) فلاثمر ولافاكهةٍ ولاشيء ينفع للآدميين . ومن بين كل هذا النص الممزوج بالفنتازيا والواقعية نجد أن هناك علاقة مفصلية بين الأبطال أمثال( لوركا) وردة فعل الشعوب الآخرى أي بمعنى أدق أصبح شعر رماح كوني أو أممي . وتستمر رماح بما يجول في سريرتها عن الأوطان في ( مخالب زنبقة) :
أيها الوطن
لماذا
كلما ركضنا نحوك
تمسكتْ بصندوق سيارة الخضار
وأخذتَ
ترمينا بالنباح
قال الروائي الشهير ساماراغو ( انهم يريدون عالماً للأثرياء فقط ، ونحن الفقراء نرد عليهم : ويحكم إبتعدوا عنا ثكلتكم ملياراتكم) . هنا الشاعرة كانت بمنتهى السطوع والسنا والتسربل والإيغال بالسياسة وحب الوطن الذي بات عصياً على الفهم وأصبحت المعايشة به لاتطاق لعدم
توفر العدالة المنشودة. وبالتالي لا يسعني سوى أن أتذكر من خلال هذه الميلودراما المفعمة بالحزن،الأغنية السورية الشهيرة للشاعر السوري (محمد سلمان) والتي كتبها أيام حرب الجولان 1973والتي تقول ( بكتب إسمك يبلادي /عل الشمس الما بتغيب / لامالي ولا ولادي على حبّك مافي حبيب) . لكن بلداننا يبدو عليها قد كتبت على أقراصٍ من الظلام بدلا من الشمس . وفي الشذرة الأخيرة ( ترمينا بالنباح) كانت الشاعرة في مستوى عالي من الإدراك والفهم العميق لما يخاف منه الفرد في ظل جمهوريات الرعب فليصمت كل من من يرفع راية الإحتجاج وهذه نقلها لنا الروائي العراقي (علي بدر) عن مستقبل العراقيين وكيف هم كمن يركض وراء الذئاب لمسكها وقتلها والإستفادة من جلودها لكنهم حين يصلوا اليها تلتفت اليهم وتمزقهم أربا .هذا يعني ليس لديهم مستقبلا وإنما هو السراب بعينه.هو الموت ولامناص منه لكن الثوري الحقيقي لايهابه.لنر الشاعرة بخصوص هذا الموت المارد في (نص ابتسامة مجففة):
الموت ليس موجعا أبدا
هو نهاية جميلة
إبتسامة مجففة
مايوجع
الاّ تحب إبنتي فساتينها الزرق
ولاتوسد ورد الله في كتابها
مايوجع
انْ يفقد الشعراء أسنانهم الأمامية
حينما مر كلكامش في طريقه الى دلمون على صاحبة الحانة (سيدوري) طالبا منها الحصول على عشبة الأبدية لأنه أصبح خائفا من الموت بعد فناء صديقه (أنكيدو) وظل يشرب الخمر حتى قالت له ياكلكامش ( لاخلود للجسد ، فعليك أن تكسو أطفالك وتشبع بطونهم وتدخل على زوجتك ضاحكا باسما) هذه هي الحياة لاغيرها إذا أردت أن تبني مجدك.وفعلا ظل كلكامش خالدا بإسمه بعد إن بنى لشعبه الكثير الكثير لكن الجسد توارى تحت التراب. أما الفيلسوف الألماني (هايدغر) وفي بداية القرن التاسع عشر فقال عن الموت( لاأخافه لآنه حينما يأتي أنا غير موجود وعنمدما لايأتي أنا موجود والمرء حين يموت لايحس بشيء) وهكذا بنى فلسفته على هذا القدر الذي يستحق الوقوف عنده.أما في آخر شذرة للنص والمتعلّقة بالعدميّة أيضا فكانت رماح متجاوزة في الإبداع عن أسنان الشاعر لأنها الواجهة الأمامية عند الصعود للمنصات ولكن هنا نقف ونقول : أغلب الشعراء في بلداننا لايستطيع أن يصلح ما أفسده الدهر لقلّة ذات اليد وأبسط الأمثلة الشاعر السوري محمد الماغوط بينما محمد مهدي الجواهري عاش في الغرب وكان يقول( أنا لمدة ثلاثين عاماً أعيش بأسنان أصطناعية دون أن يعرف أحد لأن من أصلحها لي هو الطبيب الخبير والخاص لرئيس الإتحاد السوفيتي أنذاك (ليونيد بريجنيف).ويبقى الشاعر قلقاً مضطرباً مع هاجسه وموقفه من العدمية التي أرّقت كبار الشعراء.لنحدّق في بوح الشاعرة رماح في ( لايعجبني هذا المُطهّر) :
سنشوى
وما إنْ يترمّم جلدٌ حتى
يفزّ من لدنهِ جلدٌ جديد
وثانية وثالثة سنشوى والى أبد الآبدين
لايعجبني هذا المطهر يادانتي
حتى تقول..
أحيينا ثانية أيتها
البلاد العنيدة
فكم من قبل أحييتنا
وكنا
رميما
في هذا النص نجد رماح تستخدم إسلوبين وهما الشك قبل الوصول الى اليقين والسخرية على غرارالشاعر الروسي (مايكوفسكي) والحداثة عندها لاتعرف التبعيض بحيث أننا نتخذ مايفيدنا منها ونترك التي لاتعجبنا .
أليغري دانتي وتلك السخرية التي يتحدث بها عن الجحيم وكيف يموت المرء ويذهب الى النار حسب زعم المثولوجيا الدينية وهذه مثلت في فيلم مرعب للغاية يصور لنا كيف تشوى البشرية العاصية ملايين المرات وفي كل مرة تحيى وتشوى من جديد ، ولماذا تحيى مرات ومرات ولماذا لاتشوى وهي ميتة ؟ لكي يصوروا لنا مدى العذابات التي تتلقاها هناك جراء أفعالك التي لاتؤمن بالرب الذي خلقك للعبادة فقط ( وماخلقنا الأنس والجن الا ليعبدون) وهذه موجودة في الإنجيل وفي كل الكتب السماوية .هل هو هذا الرب الرحيم أم أنه وحش جبار لايكل من تعذيب الآخرين. شعوبنا تعيش هذا الجحيم اليوم وكإننا في نار الرب المرعبة التي تجعلنا ننظر اليه وكإنه وحش كاسر أو أنه طاغية لايختلف عن بقية طغاة هذا العالم أمثال دراكولا و هتلر وصدام وغيرهم. فإذا لم تعبد هؤلاء القتلة المتجبرين كما الآلهة فعقابك الشواء والتعذيب والذوبان في حامض الكبريتيك. وحتى إذا أتيت بموعظة تدحض ميثولوجيا النار كفّروك مثلما حصل مع المطران الزنجي الأمريكي (كارلتون بيرسون) والذي مثلت قصته في فيلم بديع عام 2018بعنوان( تعال يوم الأحد) تمثيل إيجيفور وكوندولا راشود . قال المطران انّ جميع المؤمنين وغير المؤمنين سيتم تخليصهم يعني لايوجد عذاب أخروي مما أثار حفيظة المتشددين أنذاك في الخمسينيات من القرن المنصرم وأرادوا قتله لأنه تجاوز على ماجاء في الإنجيل .
بعد كل هذا الإستعراض أنا أرى نتيجة تجوالي و ترحالي لمختلف الشّعوب وأجناسها توصلتْ إلى نتيجة مفادها أنّ أسوأ إنسان في مختلف الميادين هو الإنسان المتأسلم لأن الإسلام يختلف عن كلمة مسلم.كما وأن بقيّة الشّعوب إستطاعت بالقدر الكبير أن تصل الى السوبرمان ( الإنسان الأعلى ) الذي كان ينادي به الكاتب الشهير ( نيتشه) في كتابه هكذا تكلم زرادشت فارتقتْ إلى المستويات العليا في الحضارة والديمقراطية . بينما المتأسلم أصبح أكثرُ افتراسا وحقدا و فتكا لبني جلدته وبدون أدنى رحمة لآنه قد إتخذ الخرافات أعرافاً ودساتيرا ومثل ما قال الفرنسي الشهير فولتير ( من يجعلك تؤمن بالخرافات والسخافات يستطيع أن يجعلك ترتكب الفظائع) . وهكذا بقي المتأسلم ليس سوى أن يدّعي بحضارته العريقة وحريته الزائفة بينما الحريّة نالها الفرد قبل الحضارة (ليستْ حُريّة الفرد من الحضارة فهذه الحريّة كانتْ في أقصى درجاتها قبل نشوء الحضارة…. سيجموند فرويد) . وتبقى شعوبنا بمناضليها اللذين يتصدون لكل طاغٍ وفي كل زمان ومكان في سبيل نيل المطالب بالتمني لأن أسوار الطغاة محصنة ومنيعة وليس من السهولة كسرها والغلبة عليها .لنقرأ رماح بخصوص تضحية الثوار ونص ( عائد عن الصليب) :
ظل مصلوبا حتى
بنت الأقمار في عينيه عشا
أزاح نظرته عن جلاده
كي لايحرجه بإحتمال الحياء
لكن كل من يقترب منه
يلمح على كتفيه
ثقوبا كالمسامير تشد للريح قامته
وعلى شفتيه يلمح
بريق أغنية كانت
ولما تزل
الأخُ التّوأمُ حين يقتلُ أخاه يتألم وبعدها يندم ( ولات ساعة مندمِ)، هذا هو طبعُ البشر الذي يميلُ إلى الصّراع الدّائم والدامي على مرّ العصور.فهنا نجدُ من أنّ الشاعرة تناولت مسألة الصّراع الذي أورثه البشر منذُ الأزل سواء إنْ كان صراعا طبقيّا أو فكريّا أو صراع المنازعات الكبرى، وصراع الأديان كما ورد أعلاه في نص الشاعرة ، بحيث أنّ الإنسان لو نظر لنفسه في المرايا لخجل من نفسه أو تحوّل إلى إنسان متمادي في حُبّ ذاته ونرجسيته .يتجلّى هنا ما ماقرأناه عن الملك الفرنسي لويس السادس عشر المجرم المتعطش للدماء والذي لم يسلم من بطشه حتى أخوه الطيب الورع فقال له قبل أن يقتله كلماتاً قلّما مرّت في تأريج الإجرام: ( أخي الطيّب والمُحبّ والسّاذج أنت لا تصلحُ للأرض بل للجنّة والعالم السّفلي أو بالقرب من ربّك الرّحيم ..أمّا أنا فقد قطعتُ شوطا كبيرا مع الدّم ولا مجال هنا للنّكوص والعودة من جديد إلى الأخلاق والأخذ بنصائحك والكفّ عن الدّم.. ولذلك سأرسلُك سريعا إلى جنان الخلد فأنت تصلحُ هناك وليْس هنا ..فقتله دون أدنى رحمة أو أسف). وهكذا إتخذت رماح من صلب المسيح نموذجا لبقية الثوار الذين ظلوا يحملون صليبهم فوق ظهورهم يتحدون الطغاة وليأتي الموت إذا كان في سبيل قضية أو مبدأ لصالح الشعوب المقهورة مثلما أعدمت الثائرة الفرنسية( مدام رولان) بالمقصلة بعدما كانت هي المدافعة الأولى عن الحرية وياما وياما نالت المقاصل والسجون من الثوريين وظلّت أرواحهم تصدح في سماء الخلود.لنتمعن رماح فيما كتبته عن السجون في (صفحات) :
في السجن
كان الحلم يأتي كمالايريد قلبي
ولاالسجان
شفافاًوأبيض
رأيت رفاقي يحملون دفاترا وأزهاراً
ثم تقول في النهاية..
في صفحات الفيس بوك
لم يزل يباغتني رحيليهم
ولم ازل أبكي
حتى
ينتهي شحن الموبايل
أدب السجون هو المثير للجدل لكثرة ما في هذا العالم من سجناء ساسيين تغيبوا في الأقبية ولم نسمع عنهم.مئات الروايات والنصوص عن هذا الأدب المبكي والمؤلم . هناك رواية مصرية بعنوان( حوار مع الشيوعيين) لعبدالحليم الخفاجي وكيف إلتقى بهم في السجن وحاورهم.رواية ( الحياة والسجن) للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم . كتاب أمريكي ( الجنون في غياهب السجون ) وكيف إلتقى الطبيب (تري كوبرز) مع المساجين الذي فقدوا عقولهم وأصبحوا مجانين وإستطاع أن يدخل هذه العقول وأعطانا رواية ممتعة ومرعبة بنفس الوقت وتبيّن أزمة الصحة العقلية خلف القضبان الأمريكية . رواية مشرحة بغداد للروائي العراقي ( برهان شاوي) الذي يشرح بها تجربته في السجن . رواية (القط الذي علمنا الطيران) للروائي هاشم غرايبة عن سجون الأردن . ونوال السعداوي عن تجربتها في سجن النساء وغيرها الكثير لايسعنا درجها هنا. بينما الشاعرة رماح نفهم من نصها أنها أيضا قد إكتوت من جحيم هذا القباء المعتم . وكإنها تقول لنا على غرار ( للحب وقت وللموت وقت) للروائي الالماني (أريش ماريا ريمارك) وكيف يصف لنا أن السلطة القمعية تسلب عقلك فتوصيك من أنك لوفكرت في أن تحلم فنحن نعرف بك ونستطيع معرفة مايدور في رأسك فتبقى في السجن مثل آلة تعمل ليل نهار ولايحق لها أن تفكر والاّ ستكون العواقب وخيمة. في السجن تصل شهوة الموت والحلم به لدى السجين الى أعلى مستوياتها.يقول جورج أوريل في روايته 1984 ونقلا عن السجان والسلطة القمعية (ألد أعداءك هو جهازك العصبي ) فإذا فكرت بشكل آخر لايرضي السلطة فلسوف تتعرض الى مالايحمد عقباه. وهكذا تُسلب عقول السجناء حتى تصبح حجرا أصم. وهناك مثالٌ آخر عن السجين البريء في مستعمرة غويانا الفرنسية المحكوم بالمؤبد ظلماً والذي يرمي بنفسه من أعالي المرتفعات بقفة صنعها بيده ويسقط في البحر وينجو ويقول وهو في عرض البحر فوق قفّته ( أنا هنا أيها السفلة). أما الذين يحالفهم الحظ في الخروج من المعتقلات كما تنقل لنا الشاعرة رماح ( بل هي ذاتها كانت سجينة ربما) وكيف يظل السجين يتذكر رفاقه يحملون دفاترا وأزهارا حتى تصبح الإقحوانة نخيلا أبديا. ويبقى السجين المطلق سراحه يعاني مهما مرت الدهور عليه ولايمكن لها أن تمحى فتقول الشاعرة حين تتصفح الفيس بوك ويالكثرة مابه من مآسي في هذا المجال المرعب في تحطيم عقل الإنسان وسلبه إرادته فتقول : (أظل أبكي حتى ينتهي شحن الموبايل ) هذا يعني البكاء والبكاء طالما في الجسم نبض وطالما هناك شحن في الموبايل وكانت موفقة رماح هنا في هذا التعبير المجازي العابرللإبداع فأن الموبايل لايمكن أن ينتهي شحنه فدائما هناك شحن وهناك بطارية بديلة مما يعني هناك البكاء المستمر .
من بين كل هذا الخراب والعدمية والموت فهناك ميلاد جديد على مر العصور لكي تحمي البشريه نفسها من الإنقراض فلابد للمرء أن يعيش وفقا للغريزة الطبيعية التي إكتسبها في ممارسة طقوس الحب الذي هو الأسمى في كل مراحل حياتنا وهذا ماتخبرنا به رماح في ( مخالُبُ زنبقة) :
رجل
كلما آوته برتقالة
صار حطبا
إمرأة
كلما ناولوها دمعة
صارت ذئبة
وكسرت النوافذ
رماح تصنع من الخطا صحيحا مثل تلك الفتاة التي وقع الحبرُ على قميصها فقامت بقص البقعة على شكل مثلث ثم ربطتهما معهما واصبح مثل العقدة الجميلة التي تظهر على أسفل البطن كموديل لطيف وعندما رآها صديقها قال لها ما أجمل هذا القميص وهنا فرحت محبوبته أيما فرح لأنها تلقّت مايبهج روحها وقلبها .أما المرأة التي تحس بالأذى وألم الخنجر في خاصرها نتيجة معاملة أحدهم لها فإنها ستنقلب الى تحطيم الجبال ، وإحذر المرأة إذا غضبت كما في الفيلم العالمي التشويقي والعائلي ( يكفيenough ) تمثيل (بيلي كامبل) و (جنيفر لوبيز) صاحبة أجمل عجيزة في العالم ذات يوم ، والتي يؤدي بها المآل أن تتدرب على القتال في سبيل القضاء على زوجها العنيف والذي يريد إنتزاع طفلتها منها ومن ثم قتلها وطفق بضربها في كل مرة وملاحقتها أينما هربت منه وحبست نفسها في أبعد الأماكن لكنه يصل لها لعلاقاته العديدة مع أجهزة الشرطة الفاسدين وهو من الأثرياء فاستغل سلطته على هذه المرأة المسالمة والتي تحبه حباً عظيما لكن طفح الكيل بها ومامن بد سوى أن تتخذ قرارها في التخلص منه فتدربت على القتال والمنازلات والملاكمة لتحمي نفسها منه وبالفعل حصل الشجار بينهما فبدت هي أقوى منه بكثير حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بعد ضربات منها اليه وبهذا تخلّصت منه ولم تعاقب بحجة الدفاع عن النفس . وهنا تبرز ماقالته رماح ( إمرأة كلما ناولوها دمعة صارت ذئبة). ويستمر الحب ولواعجه في حياتنا مهما أوغلنا في السياسة وحب الأوطان لنقرأ شذرة ( خدوش) :
الخدوش التي
تركتها نقراتك على الشرفة الزجاجية
لم تزل
رغم عشرات الشتاءات التي غسلتها
وفصول الربيع التي دللتها
كلما مرت بها ريح تعوي
(فضيلة النساء رهينة بغوايات الرجال .. تيريز تارديف )..
علينا أن نعلّم أنفسنا على الترحيب المستمر بالمرأة ولسوف نرى العطاء المستديم منها . كما أن الشجاعة الحقيقية هي في أغواء المرأة ذاتها أكثر من مرة لا الشجاعة في أغواء أكثر من إمرأة.المرأة بتركيبها الناعم والمهفهف تكره الجرح الداخلي أكثر من الخارجي والذي يأتي من إتخاذ موقف منها أو أهانتها بلا مبرر بينما الجرح الخارجي الناجم من الضرب من الممكن أن يندمل مع مرورالوقت. ومن هذا المنطلق نجد رماح كانت في غاية الإبداع حين وصفت ماتقوله في شذرة قصيرة بارعة حيث تبقى الخدوش( الأذى) مهما مرت عليها الفصول والسنوات لآنها ثبتت لديها كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ.هكذا هو تكوين المرأة الداخلي الذي جبلت عليه منذ الأزل ويبقى صوب الأبدية. فعليه يتطلب منا عندما تكون المراة على خطأ يتوجب البدء من جديد وطلب الصفح منها لكي تستمر الحياة بالسلام والحب المنسجم والإكتواء بالنار والحمى التي تتوالد في كل ممارسة حميمية أو عناق في الهواء الطلق أو فوق أسرّة الحرير مثلما نقرأ نص (وقت بلاهوية):
يقال
الفراش يبقى باردا بلا شرشفها
الشتاء يطول حتى
تصاب ناره بكحة الضجر
وانا والله
اجمل من الرافلات على السجادة الحمراء
لولا انني أبتليت باطفال اليمن
تعال
ترعاني الحمى
بلل جبيني بيقينك
ان كل شيء
سيكون على مايرام
(أجمل العواطف ليست سوى اللقاء بين أنانيتين اثنتين وحتى لقاءات الصدفة طالعة من روابط قامت في حياة سابقة .. الروائي الياباني هاروكي ماروكي )..
الجنسانية هي الأكثر رهافة في الإنسان وهي في نهاية المطاف وجود الأشياء التي تبحث في بعضها عن العنصر الذي ينقصها. تقول رماح ( تعال) فهنا لغرض الرؤيا وإمتلاء العيون لآن العشاق حين يتعانقوا تتعانق حتى عيونهم وأن من ينظر ويحدق بعمق لحبيبه هذا يعني وجود الجمال في عينيه ، كما أن العيون هي نوافذ الروح القابعة في سجن الجسد التي تريد أن ترى وتحس ماذا يعني بقاء الشراشف باردة . بينما لو إلتقى الحبيبين فكلاهما ينطفيء بنار جمرهما . هكذا هو الحب إتحاد بين الجنون والحكمة ومايفعم المرء ليس الشغف الحسي انما اللقاء والحميمية.الدخول الى الشعر بلاحب بمثابة الدخول الى صحراء بلا قطرة ماء وعلى طريقة أوسكار وايلد ( نحب النساء رغم اننا نعرف من أنهن يزدنَ مصروفاتنا الى ثلاث أضعاف) . ومن بين كل هذا الأيروتيك نجد رماح لاتتغافل ولاتنسى من أنها تلك المرأة التي أبتليت بالوطنية الصارخة والضاربة في عمق تفكيرها وعقلها ولايمكنها الخروج من هذا المآل أبدا فقالت ( أبتليت بأطفال اليمن) . هكذا نحن معشر الشعراء مهما حاولنا مسك السعادة الحقيقية نراها سرعان ماتتلاشى من بين أصابع كفوفنا فالسعادة نسبية تتأرجح كما البندول بين ضياعها ووجودها .
هناك نص إنثوي طاغِ وجميل وضع على الغلاف الخلفي للديوان :
مابالكِ
متى تشابكتِ هكذا كعوسجة
وانت ابنة الماء البسيط
اهدئي
فكيف
سالملم من حواكير خيباتنا طفولتك
لنسكن بالألبوم ثانية
ونحتفل
بليلة الميلاد
(الذكريات قوّتنا وعندما يحاول الليل العودة ينبغي اضاءة التواريخ الكبيرة كما تضاء المشاعل .. فيكتور هيجو) .
( مابالكِ) كلمة خاصة أطلقتها رماح لجرجرة الذكرى من ساحة الغفلة فالذكرى سنّارة النسيان. كما وأن هذه الكلمة تُطلق لكي يفزّ المرء ولاينسى فالتأريخ ينسى أخطاء التأريخ على حد زعم الفيلسوف( هيغل) . وأما ذكر الألبوم فهذا يعني ذكرى صورة واحدة منه ماهو سوى الأسف على لحظة ما. وهناك روائي عراقي جعل تأريخ ( مدينة السماوة وهي مدينتي) كلها عبارة عن صور في علبة ( تعني الألبوم) وأعطى موسومية روايته ( مدينة في علبة) وفي كل مرة يسحب صورة ما لشخصية ما ويبدأ بسرد التأريخ عليها وماحصل في تلك الفترة في هذه المدينة وعلاقتها بالوضع الإجتماعي والسياسي العراقي بشكل عام . فهنا توفقت رماح بشكل كبير في محاكاتها لنفسها وكيفية حصولها على متعة ليلة الميلاد بدلاً من أن تكن كعوسجة الشوك .
إستوقفتني أيضا فلقة معنوية رائعة من نص ( طاقة نجاة) :
في مفارق الوقت المشجر بالحراب
وكلّما همّ ظلّك الجبان بطعنك
اذكرني
فأنا بكل العربات التي سحقتني
أسكنك
عين الصواب فيما قالته شهرزاد لآيار وهنا أاقصد روح الحقيقة بما رمته رماح بوجه المعني وهذا لامناص منه أقرب الى الصحيح فكل الضجيج يأتي من العربات الفارغة بينما إبداع رماح كما قطارات معبئة بإزدحام الفكرة والمعاني الإنسانية المتوجهة صوب هدف الوصول الى محطاتنا الأخيرة .
سطور أخيرة بحق الشاعرة :
رماح شاعرة سورية تستدير لها الرقاب لمجهودها الشعري في ثلاث دواوين ومنها ( تفاحتي وقد سرقتها) ولها نصوص مترجمة للغات أخرى وعندها الكثير من الخزين والجاهز للطباعة ولازالت على الدرب يُشجيها الوطن والأدب الرصين الموجع . الذي يتوجب علينا إدراكه هو أنّ الدافعية الجمالية عند رماح هي حاجتها الى الرصد على الدوام والى الخلق وقد وجهت رؤيتها الى مكامن الصور داخلها وخارجها.وأستطيع أن اطلق على قصيدتها بالقصيدة الرماحية على غرار مسميات القصيدة النوابية التي إشتهر بها مظفر ومنها أطلق هذا المصطلح على الشعراء المائزين وكل بإسلوبه الخاص بإسمه وبذلك إستطاعت رماح أن تحفر إسمها في مديات اللامعين والباقين في رموز السطوع دون نضوب . كما أن بساطة رماح في تشكيل نصوصها هي بساطة مخادعة لأنها متعايشة مع الغموض القليل و الصفاء الظاهر والواقعية المنتقاة مع خيط رفيع من السوريالية وهذا يوصلنا الى فهم كلية الشاعرة والى الشعور بتكامل شخصيتها الإبداعية. وانّ بعض المميزات الفنية للشاعرة يمكن ملاحظتها دون عناء يذكر حتى نتوصل الى مفاهيم اهتماماتها المماثلة بالوطن والحب . الشعر بالنسبة لرماح هو طريق الوصول الى الجمال تماشيا مع مع ماقاله الألماني غوتة مستهزءاً حين سأله أحدهم ( مافائدة الشعر) فقال( أنه جميل وهل هذا لايكفي) لأنه لو أصبح ذا فائدة فقد جماليته.أضف الى ذلك رماح تبحث عن شيء بعيدٍ ومستعصٍ وهذه هي ميزة رماح الذهنية في الشعر الوجداني أو الأيروتيك أو في جعل الأوطان على طبقٍ من شعر .
—–
هاتف بشبوش / شاعر وناقدعراقي