… خطير هو هذا الكتاب الذي صدر عن سلسلة عالم المعرفة والذي حمل عنوان «كامي وسارتر» – قصة الصداقة والصراع الذي أنهاها – وهو من تأليف «رونالد أرونسون» وترجمة «شوقي جلال» ويقع في ثلاثمائة وعشر صفحات. و«لأرنسون» – وهو أستاذ البحوث البينية (Interdisciplinary) في جامعة (Wayne State)، كتب أخرى عن «سارتر» منها: «الحقيقة والوجود عند سارتر» و«النقد الثاني لسارتر» أي أنه من المتخصصين بالأدب الفرنسي وتاريخه ، وفي سارتر تحديدا .
وإذا عدنا إلى المقدمة التي كتبها الأستاذ«شوقي جلال» للكتاب فسنقرأ أنّ: «ألبير كامي وجان بول سارتر» مفكران مبدعان في تنّوع: في الأدب والفلسفة، في الرواية والمسرح، في السياسة والصحافة. وكذا في المقاومة. صاغا إطار الفكر الثقافي الذي دار في فلكه المثقفون في العالم إبان الحرب العالمية وبعدها على مدى الحرب الباردة. اتفقا وتحالفا. واختلفا وتباعدا. ودارت بينهما معارك فكرية هي شهادة على ثقافة عصر وعلى كلّ مـا عاشته ثقافة العالم من توتّر وأمل وإحباط، وظلت الصداقة والإعجاب المتبادل ثم الخصومة والقطعية والصراع قصّة غير معروفة بالكامل. إنها قصة الصراع السياسي والفكري على الصعيد العالمي.. وقصّة الصراع بين السياسة والأخلاق.. بين متغيرات السياسة وثوابت الأخلاق.. تقاسما معاً مواقف مثقفي العالم: سارتر أم كامي ؟.. مع السياسة والوسيلة أم الأخلاق والمبادئ.. مع العنف طريقاً للحرية أم مع الحرية وسيلة وغاية للبناء والتقدم.. أم هناك موقف ثالث ؟..».. ثم يبيّن المترجم أنّ هذا الكتاب هو دراما واقعية معزّزة بالوثائق والسيرة الذاتية وشهادات الكتّاب والمفكرين.. عن قصّة «صداقة» ألبير كامي وسارتر وصراعهما المرير . وقد وضعت مفردة ” صداقة ” بين قوسين لأنها ستثير – وبعد أن نكمل قراءة الكتاب بدقة – الكثير من الالتباس. هل كان كامي وسارتر صديقين حميمين بمعنى الصداقة الحقة البعيدة عن التحسّس والتحاسد والضغائن والقائمة على التضحية والمحبة العميقة؟
لم يستطع المترجم في مقدمته التقاط ما هو غاطس تحت سطح العلاقة بين هذين المفكرين البارزين وهذا الأمر ليس من واجبه بالتأكيد، لكن المؤلف وهو مختص بالأدب الفرنسي كما قلت – كان متردداً في الإفصاح وبصـورة قـاطعة عـن أمرين: الأوّل أنّ العلاقة بين سارتر وكامي كانت علاقة صراع منافسة منذ البداية، والثاني هو أنّ موقف سارتر الهجومي ومقالته الشهيرة ضد كامي كانت سبباً أساسياً في تأزم شخصية الأخير وتصعيد سلوكه الانتحاري الهادف إلى تدمير الذات وتوتر علاقاته مع الآخرين.
لنعد إلى التذييل الذي ختم به «أرونسون» كتابه والذي استعرض فيه مسرحية لم تنشر «لألبير كامي» هي «ارتجالات الفلاسفة» وهي مسرحية من فصل واحد كتبها «كامي» في العام 1946 ويصفها المؤلف بأنّها شديدة الجاذبية ومسلية وزاخرة بالتلميحات عن «سارتر» وكانت محفوظة لدى «كاترين كامي» ابنة «كامي». تتحدث المسرحية عن السيد «فين» وهو صيدلاني وعمدة ريفي يزوره بائع جوّال يرّوج لمذاهب جديدة هو مسيو «نيانت» (وهي مفردة تعني العدم).. فمن هو الفيلسوف الآخر في باريس أو فرنسا الذي سيتجه إليه فكر الناس عند سماع اسم «نيانت – العدم »، وهو الاسم المختار عمداً من سفر سارتر العظيم؟ ويخدع «نيانت» فين بالإنجيل الجديد الذي يحمله معه من باريس ويتضمن السفر الكبير الذي يكدّسه «نيانت» حوله وهذا تلميح شبه واضح إلى كتاب «سارتر» الشهير «الوجود والعدم».
ويقول «فين» لابنته «صوفي» أنّ صديقها «ميلوسين» سوف يطلب منها، إذا كان يحبها حقاً، أن يشاركها غرفتها، وقد يفضي هذا إلى حمل وإنجاب طفل سِفاحاً مما يهيئ لها فهماً أعمق لمعنى أنها موجودة. وهنا يحاكي «كامي» تأكيد «سارتر» الفلسفي على المواقف المتطرفة، ويلعب بشكل مباشر بكتاب «سارتر» «عصر العقل» الذي أحدث إثارة أدبية في خريف العام 1945. ويخبر السيّد «فين» ابنته أنّ فتاها لا يمكن أن يحبها من دون أن يكون ملتزماً، ولن يكون ملتزماً دون أن يضعها في موقف مرّوع. وهنا يتضح من جديد خط السخرية من تسلسل المعادلة الوجودية السارترية .
وبينما كان الصيدلاني – العمدة يتحدث إلى ابنته شدّد على أنّ الشاب ليس هو هو – هنا لعب على فكرة «سارتر» أننا دائماً في حالة صيرورة، ولا نكون ما نحن عليه بشكل ثابت ومستقر إلاّ في حالة الوفاة. وتردد «صوفي» كلمات «سارترية» طنّانة ملأت الآفاق مثل : المسؤولية والالتزام والحريّة.. ويسخر «كامي» من افتتان «سارتر» بالشواذ جنسياً.. ويتذكر «كامي» في إحدى التبادلات فكرة «سارتر» المشهورة عنه وهي أنّ الفرنسيين لم يكونوا أكثر حريّة مما كانوا عليه في ظل الاحتلال الألماني وهو ما يتمثل في قول «نيانت» أنّ حرية المرء رهن كونه مقهوراً.. ويعلن «نيانت» أنّ عليه أن يمارس حبّه للإنسانية خلف أبوابٍ مغلقة. وها هنا تلميح واضح بواحدة من أشهر مسرحيات «سارتر» حيث يتسلى «كامي» بفكرتها وهي أن الجحيم هو الآخرون.. المهم: هل كان «كامي» – كما يتساءل «أرونسون» يقصد الدعابة فقط؟ أم أنّ المسرحية تلمح من طرف خفي إلى ما سوف يكون فيما بعد من تباعد حادّ بين الرجلين ، بل ربّما يشير إلى تصدّع العلاقة والافتراق؟.. ولا أعلم لماذا يتساءل المؤلف في خاتمة كتابه بهذه الطريقة وهو الذي ساق عشرات الأمثلة والوقائع التي تؤكد بشكل لا يقبل اللبس أنّ علاقة كامي بسارتر كان محكوماً عليها بالفشل وأن تنتهي بصراع مرير منذ البداية.
لقد كان اللقاء الأول بين «سارتر» و«كامي» في يونيو من العام 1943 عند افتتاح مسرحية «سارتر» «الذباب».. لكن منذ البداية كان «كامي» متحسّساً من أن يظهر في صورة مساعد «لسارتر». وكان فرط إعجاب كل منهما بالآخر يعبّر – نفسيّاً – عن ضيق كل منهما بالآخر.. فقد ذكر كل منهما اسم الآخر في أوّل مقالة أكثر من عشرين مرّة . لقد كتب «كامي» عن «الغثيان» رواية «سارتر» قبل أن يراه وقال: «هذه أول رواية من كاتب لنا أن نتوقع منه كل شيء.. يا لها من سكينة طبيعية جداً حال بقائه عند الحدود البعيدة للفكر الواعي، ويا لها من شفافية مؤلمة. وهذه جميعاً مؤشرات دالّة على مواهب غير محدودة. ونرى في كل هذا أساساً مكيناً لكي نرحب بـ«الغثيان» باعتبارها أوّل الغيث من عقل أصيل مفعم حيوية ونشاطاً مما يجعلنا نتحرق شوقاً على الآتي من دروسه وأعماله».. وفي مقالة أخرى يصف «كامي» «سارتر» بـ«الكاتب العظيم الذي يقدّم لنا دائماً عالمه الخاص ورسالته».. أمّا «سارتر» فقد كان إعجابه بـ«كامي» مفرطاً وفق آلية دفاعية نفسية «مخادعة» وليست نابعة عن موقف أصيل. لقد كتب «سارتر» مقالاً فيّاضاً مطوّلاً من «6000»كلمة عن رواية «كامي» «الغريب».. ثم أعدّ كتيباً عن «أسطورة سيزيف».. لكن ومنذ البداية نجد أنّ الفيلسوف الحاصل على درجة الأستاذية من مدرسة المعلمين العليا يحطّ من قدر المتفلسف الحاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة الجزائر. وكان «كامي» يشكو منذ البداية من حدّة «سارتر» النقدية، ولكن محاولة «سارتر» الحطّ من قدر العمل ربما جاءت تعويضاً عن استخفاف سابق يلحظه القارئ في فقرة وردت سابقاً ومقتبسة من «أسطورة سيزيف» حيث يقول «كامي»: « إنّ هذا الغثيان، كما يسميّه واحد من كتّاب اليوم، هو أيضاً العبث»، وفي جملة «واحد من كتّاب اليوم» من دون ذكر اسم «سارتر» استخفاف بالأخير، كما كان «كامي» لا يخطئ تجاهل «سارتر» إظهار تقديره له.
هناك جانب آخر يجب أن لا نغفله لأهميته الكبيرة وهو الجانب المتعلّق بموقف «سيمون دي بوفوار» من «كامي» ومعروفة علاقتها العاطفية بـ«سارتر». إنّ أعقد مشاعر «بوفوار» الخاصّة هو أنّها قدمت نفسها إلى «كامي» كعاشقة غير أنّه صدّها. ويذكرنا هذا بأنّ «بوفوار» لم تكن مجرد مراقب لعلاقة سارتر – كامي، بل متورطة فيها إلى الأعماق – قوّة ثالثة بمشاعرها الخاصة المستقلة عن «كامي». واشتكت فيما بعد من أنه فظّ فـجّ ضيق الصدر معها. وتصورت، تخميناً، أنّ سبب ذلك أنّه رجل صاحب نظرة بحر متوسطية إلى النساء، ورأى فيها امرأة غير جذابة ولا يسعه قبولها ندّاً ثقافياً له. ولم تكن تعرف أنّ «كامي» قال في تعليق له عنها إلى «آرثر كويستلر»: «تخيّل ماذا عساها تقول بعد ذلك وهي على الوسادة. يا لهول مثل هذه الامرأة المثقفة الثرثارة، إنّها شيء غير محتمل». لقد صرّحت «بوفوار» وهي في سنّ الشيخوخة بأنّها خافت من إقبال «سارتر» بقوة على «كامي» عندما التقيا لأول مرّة، إذ تحدث عنه بلغة ربما كان أولى به أن يتحدث بها عن امرأة يلاحقها. ثم تقوم بـ«فبركة» استنتاج مخالف للحالة الواقعية فتقول: «نظراً لأن «سارتر» هو أقوى من عرفته «بوفوار» متمتعاً بجنسية غيريـة، وليس لديه أي ميل مهما كان واهناً إلى الجنسية المثلية، فقد استشعرت قلقاً وضيقاً بسبب «افتتانه» بـ«كامي». لقد كان «سارتر» منجذباً بقوة نحو الشاب الأنيق «كامي» الذي كان دوره في حياة «سارتر» و«بوفوار» آنذاك دوراً مهولاً وعظيم الشأن. إنه بدا، علاوة على فحولته المتصوّرة، واقعياً ملتزماً، لكن به نقاط ضعف مستهدفة. وترجع نقاط ضعفه جزئياً إلى مرض السلّ المتحكم في حياته اليومية – كان يسعل ويفرز دمّاً، وبدا منهكاً في أغلب الأحيان وبحاجة إلى علاج وإلى راحة..
يتساءل «أرونسون» بعد ذلك: هل كانا متنافسين؟.. ورغم «اللياقة» السردية التي حاول «أرونسون» التعامل بها مع إجابة مثل هذا السؤال إلاّ أننا نستطيع القول إنّ المنافسة كانت قائمة حتى قبل أن يلتقي المفكران الصديقان اللدودان. وقد تحدثت «بوفوار» مرّة عن أن «سارتر» كان «غيوراً بعض الشيء» من «كامي»، ولكن ليس باعتباره كاتباً. إذ أن نظرات «كامي» الوسيمة هيّأت له ميزة يستاء منها سارتر ، وذكر سارتر فيما بعد علاقة كامي بـ«واندا كوزاكيوفكس» باعتبارها واحدة من بين تصرفات أربع أو خمس صدرت عن «كامي» وكانت سبباً في ما طرأ على الصداقة من مرارة. وفي العام 1944 كتب «سارتر» إلى «بوفوار» قائلاً: «ما الذي كانت تفكر فيه «واندا» ويحفزها إلى ملاحقة «كامي»؟ ما الذي تريده منه؟ ألم أكن أنا أفضل منه؟ وأكثر كياسة وتهذيباً؟ حريّ بها أن تلزم الحذر». والجدير ذكره أن «سارتر»، بينما كان ثملاً ذات يوم، قال موجّها الحديث إلى «كامي»: «أنا أذكى منك، هه ؟ أذكى منك». ووافقه «كامي». ورأى «كامي» في يوم آخر «سارتر» يودّع فتاة جميلة وسأله: «ما الذي يوقعك في هذه المشكلة الكبيرة؟». أجاب «سارتر»: «هل تطلّعت إلى وجهي؟». و«سارتر» معروف بقبحه.
يقول «أرونسون» في نهاية هذا الفصل إنّ السياسة سوف تفرق بين «كامي» و«سارتر» في العام 1952 بعد أن جمعت بينهما في العام 1944. وهو استنتاج غريب لأنهما لم يكونا متفقين أبداً، وكانت جمرة الصراع تستعر تحت رماد الائتلاف الشكلي. لقد فرّقت السياسة، فعلاً، بينهما وكان موطن الخلاف الأول هو الموقف من الاحتلال الألماني لفرنسا الذي كانا فيه على النقيض تماماً ويجدر بهذه القضية الوطنية الخطيرة أن توصلهما إلى القطيعة النهائية إذا كانت السياسة، فعلاً، هي التي فرقتهما. لكن للاّشعور ألعابه الماكرة ومصائده الخلاّقة بحـيث حفـظت الصـلة بينهما لسنوات لأنّ هناك ما هو مخفي ومستتر من حفزات نفسية أعمق وأقوى فعلاً، ولنتذكر دائماً أنّ الإنسان – حسب معطيات التحليل النفسي – حيوان تبريري وليس كائناً منطقياً. وتهمني هنا الإشارة إلى أنّ «سارتر» قد غلبه النعاس وهو يحضر – مع «كامي» – تدريبات إحدى المسرحيّات، أيقظه «كامي» بالكلمات الآتية: «لقد وجهت مقعدك في المسرح في اتجاه التاريخ».
ومن المؤكد أنّ صدور مثل هذه الملاحظة بأسلوب «كامي» الساخر الودود جعل منها محوراً لما حدث من شقاق بينهما فيما بعد. وتذكّر «كامي» هذا الحدث في جدال دار بينهما لاحقاً، وقالها «كامي» بحدّة قاسيـة، وردّها له «سارتر» الصاع صاعين، فهل يُعقل أن تسبب حادثة بسيطة مثل هذه قطيعة نهائية ومدمّرة بين «صديقين»؟ إنّ هذه الحادثة لا يمكن أن يكون لها دور في ذلك إلاّ إذا كانت غطاء فجّر ما هو مكبوت في أعماق «الصديقين». من بين الأمور السياسية التي باعدت بين «كامي وسارتر» – حسب أرونسون – هو الموقف من الشيوعية عموماً ومن الاتحاد السوفيتي وتصرفات «ستالين» خصوصاً، يظهر الفارق في الموقفين صارخاً جداً إذا قرأنا ما سطره «كامي» في مذكراته:
– أما زلت ماركسياً الآن؟
– نعم.
– إذن ستكون قاتلاً.
«كامي» كان يعامل الشيوعية باعتبارها مرضاً حضارياً ويسميّها «جنون العصر» ويرى أنها حولت بلداناً كاملة إلى معسكرات اعتقال وسببت مجاعة لحقت بالملايين من صغار الفلاحين وأعدمت في الاتحاد السوفيتي وحده مليون نسمة رمياً بالرصاص للاشتباه في أنهم متآمرون. أمّا «سارتر» فقد كان منحازاً تماماً للشيوعية وللاتحاد السوفيتي. إنّه يقول ببساطة في العام 1952: «إنّ المناهض للشيوعية كلب!! وليس بوسعي أن أرى مخرجاً غير هذا ولن أجد».
أخيراً جاءت لحظة الانفجار والخراب النهائي بين «كامي وسارتر»؛ فقد أصدر الأوّل كتابه «الإنسان المتمـرّد»، ولم يجد الثاني الذي كان يرأس تحرير أشهر مجلة في فرنسا وهي «الأزمنة الحديثة» غير محرّر شاب لا يتجاوز عمره الخمسة وعشرين عاماً هو «فرنسيس جينسون» الذي كتب نقداً قاسياً عن الكتاب وقع في واحد وعشرين صفحة انتقد فيه «كامي» وكتاباته السابقة حتى قبل أن يمسّ جوهر الكتاب. واستخدم لهجة ساخرة عزاها إلى رغبته في الحدّ من شهرة «كامي» كقدّيس أخلاقي. ردّ «كامي» بمقال من سبع عشرة صفحة وكان الردّ موجهاً إلى «السيّد رئيس التحرير» دون أن يذكر اسم «جينسون» ولو مرّة واحدة، وكان «كامي» يذكر في تبادل مفردة «معاونكم» ومفردة «مقالكم» وتعامل مع مقال «جينسون» وكأنه مقال كتبه «سارتر» لأنه على يقين بأنّ «سارتر» «متضامن» مع موقف الكاتب. وقد ضمت الفقرة قبل الأخيرة من الردّ تعليقاً مباشراً وشخصياً على «سارتر» حيث تقول: «بدأت أشعر بقليل من السأم إذ أرى نفسي أتلقى دروساً بلا نهاية عن الفعالية من نقاد لم يفعلوا أيّ شيء سوى أن يديروا مقعدهم في اتجاه التاريخ»، وهي الكلمات التي أيقظ بها «كامي» صديقه النائم في صالة المسرح. ويهمنا هنا القول إنّ كتاب «كامي»: «الإنسان المتمّرد» موجّه أساساً ضد من يبرّرون القتل، المثقفين المتواطئين مع الشيوعية. وبطبيعة الحال فإنّ «سارتر» واحد منهم حسب وجهة نظره. وهنا يأتي ردّ «سارتر» عنيفاً ومدوّياً ويخلط بين ما هو سياسي وشخصي ولكنّ هذا الرّد يوصلك إلى استنتاج وحيد هو أنّه يعبّر عن عداء كُبت طويلاً في أعماق «سارتر». هكذا بدأ الرد:
«عزيزي كامي : لم تكن صداقتنا سهلة، وإن كنت سأفقدها. إذ أنهيتها اليوم». وهذا يعني أنّ ردّ «كامي» وليس نقد «جينسون» هو السبب في إنهاء «الصداقة» بينهما. كان ردّ «سارتر» مكوناً من عشرين صفحة بالإضافة إلى هجمة من «جينسون» في ثلاثين صفحة ضمها العدد نفسه من الأزمنة الحديثة. لقد كبح «كامي» جماح نفسه، ولكن «سارتر» كان منفلتاً وحطم كل شيء:
«كم من المؤسف أن تضعني عن عمد أمام محاكمة، وبمثل هذه اللهجة القبيحة، بحيث أ صبحت عاجزاً عن الاستمرار في التزام الصمت من دون أن أفقد ماء وجهي (…) إنك أصبحت ضحية زهو أخرق.. يخفي مشكلاتك التي تطوي عليها صدرك والتي أظنّ أنك قد تسميّها اعتدالاً متوسطياً». لقد سلخ «سارتر» «كامي» بأشدّ الكلمات مساساً بشخصه في ردّ تجاوز به كل حدود العنف ولا يبرره شيء مما حدث قبل ذلك. لقد فجّر كل ما استثاره وضايقه من «كامي» على مدى السنوات العشر الماضية. إنّ «سارتر» الذي يؤمن بالعنف يقدّم الدليل على مدى ما يتصف به من عنف . ولم تكن الصورة التي وضعها سوى محاولة لكي يدمّر «كامي» بالكامل، إن لم يكن يقضي عليه ويخرسه.
ما الذي حصل بعد ذلك؟.
كان «سارتر» مرتاحاً – وبروح سادية – إلى الضجة الإعلامية التي ثارت بعد رسالته في حين غشيَ «كامي» شك ذاتي وشعور بالكآبة. وحدث مرّة أن اندفع كالإعصار إلى داخل شقة «ماريا كاساريس» ويكاد الدمع يغالبه. سرعان ما اكتشف «كامي» وهو يدور على أصدقائه وبيده مجلة الأزمنة الحديثة أنّ الغالبية العظمى منهم يصدقون أن «سارتر» كسب المعركة وأن «النـزال» كان عادلاً. أخذ الحرج والصدمة يغوصان عميقاً في نفسه. ساءت علاقته بحبيبته «فرانسين» حتى أنها قامت بمحاولة انتحار وطلبت منه أمها مغادرة المنـزل. كان «كامي» – حتى في مذكراته – فناناً مفرطاً في استخدام كلمة «آخ» على علاتها ويكشف لنا مدى الجرح العميق الذي أصابه من هجوم «سارتر». يقول «أرونسون» إنّ «سارتر» افترس «كامي» وهو وصف بالغ الدّقة. فبعد هذا الردّ المدمّر حاول «كامي» من دون جدوى الاهتداء إلى سبيل للعودة إلى الإبداع. أخبر أحد أصدقائه بأنه أصبح عاجزاً عن العمل طوال السنة وقال: «لم أعد أعرف كيف أكتب». وقال في مناسبة أخرى: «أشعر أنني جففت تماماً.. كما الحبر في منشفة من الورق». استولى «سارتر» على عقله ووجدانه فأبدع روايته : «السقوط» وفي بطلها جوانب كثيرة من «سارتر» ومنه هو أيضاً. لقد رأى نفسه في «هنري» بطل رواية «الماندارين» «لسيمون دي بوفوار» والتي يعتقد البعض أنّها مرّغته في الوحل فيها. وكان حتمياً أن يرى «كامي» الرواية بمنـزلة تصفية حسابات. وقال لأحد أصدقائه: «ألقوا كل أوساخهم الملعونة على ظهري».. واستمر يعلن لأصدقائه بأنه لا يستطيع الكتابة.
يقـول «أرونسـون»: «إلى أي مـدى ارتبط صمت «كامي» العميق، أي ما بدا له فقداناً لذاته ككاتب، بالقطيعة بينه وبين «سارتر»؟ إن حارس بوابة باريس طرد الفرنسي الجزائري؟ وتعرّض الكاتب المتحفظ للتشهير والتنديد به علانية على يد إنسان قادر على أن يقول أي شيء في الصحافة؛ وأصبح اليساري المناهض للشيوعية الذي لا يشعر بالأمان على جمهوره موضع ازدراء من المثقفين أبناء الجناح اليساري؛ وسخر رجال الإدارة من الوافد الجديد بسبب تعليمه الزائف وكسله الفكري. وها هي قصصه التي حاول كتابة مسوداتها خلال العامين (1954و 1955) تتحدث عن الخيانة والعزلة والمعاناة الشديدة، وعن حياة تفتقد الخصوصية، وعن العقم الفني .
في 4يناير 1960 وعندما كان «كامي» عائداً من لورمارين إلى باريس دهمته سيّارة أودت بحياته. كان في السادسة والأربعين من عمره. أذهل موته باريس والجزائر والكثيرين في العالم. وحتى في الكلمة التي نشرها في وداع «كامي»، ظل «سارتر» يتحدث عن مواقف «كامي» السياسية التي أثارت الخلاف بينهما أي أنه لم يكن مستعداً لتناسي خلافاته مع «كامي» رغم موته..
إن مراجعة دقيقة وشاملة للوقائع التي أوردها «رونالد أرونسون» ووفق رؤية نفسية تحليلية صارمة – وهنا تظهر أهمية المنهج النفسي في النقد والتحليل – تشير بصورة لا تقبل اللبس إلى أنّ عوامل عديدة قد تجمعت لتوصل «ألبير كامي» إلى نهايته الانتحارية الغير مباشرة – نرجسيته المشروخة، عدوانيته المكبوتة، مازوخيتــه، شعوره الكامن بالذنب…. إلخ – ولكن الأمر الذي لا يمكن إنكاره – والذي لم يستطع المؤلف ، ومن المحتمل أن عدم استطاعته هذه قد تعود إلى أسباب نفسية – هو أنّ موقف «سارتر» من «كامي» منذ بداية علاقتهما بما شابها من كبوتات وقمع ثم ما تلاها من انفجار من جانب «سارتر» كانت سبباً رئيساً في تصعيد السلوك الانتحاري الذي كان قائماً أصلاً لدى «كامي».
وإذا عدنا إلى المقدمة التي كتبها الأستاذ«شوقي جلال» للكتاب فسنقرأ أنّ: «ألبير كامي وجان بول سارتر» مفكران مبدعان في تنّوع: في الأدب والفلسفة، في الرواية والمسرح، في السياسة والصحافة. وكذا في المقاومة. صاغا إطار الفكر الثقافي الذي دار في فلكه المثقفون في العالم إبان الحرب العالمية وبعدها على مدى الحرب الباردة. اتفقا وتحالفا. واختلفا وتباعدا. ودارت بينهما معارك فكرية هي شهادة على ثقافة عصر وعلى كلّ مـا عاشته ثقافة العالم من توتّر وأمل وإحباط، وظلت الصداقة والإعجاب المتبادل ثم الخصومة والقطعية والصراع قصّة غير معروفة بالكامل. إنها قصة الصراع السياسي والفكري على الصعيد العالمي.. وقصّة الصراع بين السياسة والأخلاق.. بين متغيرات السياسة وثوابت الأخلاق.. تقاسما معاً مواقف مثقفي العالم: سارتر أم كامي ؟.. مع السياسة والوسيلة أم الأخلاق والمبادئ.. مع العنف طريقاً للحرية أم مع الحرية وسيلة وغاية للبناء والتقدم.. أم هناك موقف ثالث ؟..».. ثم يبيّن المترجم أنّ هذا الكتاب هو دراما واقعية معزّزة بالوثائق والسيرة الذاتية وشهادات الكتّاب والمفكرين.. عن قصّة «صداقة» ألبير كامي وسارتر وصراعهما المرير . وقد وضعت مفردة ” صداقة ” بين قوسين لأنها ستثير – وبعد أن نكمل قراءة الكتاب بدقة – الكثير من الالتباس. هل كان كامي وسارتر صديقين حميمين بمعنى الصداقة الحقة البعيدة عن التحسّس والتحاسد والضغائن والقائمة على التضحية والمحبة العميقة؟
لم يستطع المترجم في مقدمته التقاط ما هو غاطس تحت سطح العلاقة بين هذين المفكرين البارزين وهذا الأمر ليس من واجبه بالتأكيد، لكن المؤلف وهو مختص بالأدب الفرنسي كما قلت – كان متردداً في الإفصاح وبصـورة قـاطعة عـن أمرين: الأوّل أنّ العلاقة بين سارتر وكامي كانت علاقة صراع منافسة منذ البداية، والثاني هو أنّ موقف سارتر الهجومي ومقالته الشهيرة ضد كامي كانت سبباً أساسياً في تأزم شخصية الأخير وتصعيد سلوكه الانتحاري الهادف إلى تدمير الذات وتوتر علاقاته مع الآخرين.
لنعد إلى التذييل الذي ختم به «أرونسون» كتابه والذي استعرض فيه مسرحية لم تنشر «لألبير كامي» هي «ارتجالات الفلاسفة» وهي مسرحية من فصل واحد كتبها «كامي» في العام 1946 ويصفها المؤلف بأنّها شديدة الجاذبية ومسلية وزاخرة بالتلميحات عن «سارتر» وكانت محفوظة لدى «كاترين كامي» ابنة «كامي». تتحدث المسرحية عن السيد «فين» وهو صيدلاني وعمدة ريفي يزوره بائع جوّال يرّوج لمذاهب جديدة هو مسيو «نيانت» (وهي مفردة تعني العدم).. فمن هو الفيلسوف الآخر في باريس أو فرنسا الذي سيتجه إليه فكر الناس عند سماع اسم «نيانت – العدم »، وهو الاسم المختار عمداً من سفر سارتر العظيم؟ ويخدع «نيانت» فين بالإنجيل الجديد الذي يحمله معه من باريس ويتضمن السفر الكبير الذي يكدّسه «نيانت» حوله وهذا تلميح شبه واضح إلى كتاب «سارتر» الشهير «الوجود والعدم».
ويقول «فين» لابنته «صوفي» أنّ صديقها «ميلوسين» سوف يطلب منها، إذا كان يحبها حقاً، أن يشاركها غرفتها، وقد يفضي هذا إلى حمل وإنجاب طفل سِفاحاً مما يهيئ لها فهماً أعمق لمعنى أنها موجودة. وهنا يحاكي «كامي» تأكيد «سارتر» الفلسفي على المواقف المتطرفة، ويلعب بشكل مباشر بكتاب «سارتر» «عصر العقل» الذي أحدث إثارة أدبية في خريف العام 1945. ويخبر السيّد «فين» ابنته أنّ فتاها لا يمكن أن يحبها من دون أن يكون ملتزماً، ولن يكون ملتزماً دون أن يضعها في موقف مرّوع. وهنا يتضح من جديد خط السخرية من تسلسل المعادلة الوجودية السارترية .
وبينما كان الصيدلاني – العمدة يتحدث إلى ابنته شدّد على أنّ الشاب ليس هو هو – هنا لعب على فكرة «سارتر» أننا دائماً في حالة صيرورة، ولا نكون ما نحن عليه بشكل ثابت ومستقر إلاّ في حالة الوفاة. وتردد «صوفي» كلمات «سارترية» طنّانة ملأت الآفاق مثل : المسؤولية والالتزام والحريّة.. ويسخر «كامي» من افتتان «سارتر» بالشواذ جنسياً.. ويتذكر «كامي» في إحدى التبادلات فكرة «سارتر» المشهورة عنه وهي أنّ الفرنسيين لم يكونوا أكثر حريّة مما كانوا عليه في ظل الاحتلال الألماني وهو ما يتمثل في قول «نيانت» أنّ حرية المرء رهن كونه مقهوراً.. ويعلن «نيانت» أنّ عليه أن يمارس حبّه للإنسانية خلف أبوابٍ مغلقة. وها هنا تلميح واضح بواحدة من أشهر مسرحيات «سارتر» حيث يتسلى «كامي» بفكرتها وهي أن الجحيم هو الآخرون.. المهم: هل كان «كامي» – كما يتساءل «أرونسون» يقصد الدعابة فقط؟ أم أنّ المسرحية تلمح من طرف خفي إلى ما سوف يكون فيما بعد من تباعد حادّ بين الرجلين ، بل ربّما يشير إلى تصدّع العلاقة والافتراق؟.. ولا أعلم لماذا يتساءل المؤلف في خاتمة كتابه بهذه الطريقة وهو الذي ساق عشرات الأمثلة والوقائع التي تؤكد بشكل لا يقبل اللبس أنّ علاقة كامي بسارتر كان محكوماً عليها بالفشل وأن تنتهي بصراع مرير منذ البداية.
لقد كان اللقاء الأول بين «سارتر» و«كامي» في يونيو من العام 1943 عند افتتاح مسرحية «سارتر» «الذباب».. لكن منذ البداية كان «كامي» متحسّساً من أن يظهر في صورة مساعد «لسارتر». وكان فرط إعجاب كل منهما بالآخر يعبّر – نفسيّاً – عن ضيق كل منهما بالآخر.. فقد ذكر كل منهما اسم الآخر في أوّل مقالة أكثر من عشرين مرّة . لقد كتب «كامي» عن «الغثيان» رواية «سارتر» قبل أن يراه وقال: «هذه أول رواية من كاتب لنا أن نتوقع منه كل شيء.. يا لها من سكينة طبيعية جداً حال بقائه عند الحدود البعيدة للفكر الواعي، ويا لها من شفافية مؤلمة. وهذه جميعاً مؤشرات دالّة على مواهب غير محدودة. ونرى في كل هذا أساساً مكيناً لكي نرحب بـ«الغثيان» باعتبارها أوّل الغيث من عقل أصيل مفعم حيوية ونشاطاً مما يجعلنا نتحرق شوقاً على الآتي من دروسه وأعماله».. وفي مقالة أخرى يصف «كامي» «سارتر» بـ«الكاتب العظيم الذي يقدّم لنا دائماً عالمه الخاص ورسالته».. أمّا «سارتر» فقد كان إعجابه بـ«كامي» مفرطاً وفق آلية دفاعية نفسية «مخادعة» وليست نابعة عن موقف أصيل. لقد كتب «سارتر» مقالاً فيّاضاً مطوّلاً من «6000»كلمة عن رواية «كامي» «الغريب».. ثم أعدّ كتيباً عن «أسطورة سيزيف».. لكن ومنذ البداية نجد أنّ الفيلسوف الحاصل على درجة الأستاذية من مدرسة المعلمين العليا يحطّ من قدر المتفلسف الحاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة الجزائر. وكان «كامي» يشكو منذ البداية من حدّة «سارتر» النقدية، ولكن محاولة «سارتر» الحطّ من قدر العمل ربما جاءت تعويضاً عن استخفاف سابق يلحظه القارئ في فقرة وردت سابقاً ومقتبسة من «أسطورة سيزيف» حيث يقول «كامي»: « إنّ هذا الغثيان، كما يسميّه واحد من كتّاب اليوم، هو أيضاً العبث»، وفي جملة «واحد من كتّاب اليوم» من دون ذكر اسم «سارتر» استخفاف بالأخير، كما كان «كامي» لا يخطئ تجاهل «سارتر» إظهار تقديره له.
هناك جانب آخر يجب أن لا نغفله لأهميته الكبيرة وهو الجانب المتعلّق بموقف «سيمون دي بوفوار» من «كامي» ومعروفة علاقتها العاطفية بـ«سارتر». إنّ أعقد مشاعر «بوفوار» الخاصّة هو أنّها قدمت نفسها إلى «كامي» كعاشقة غير أنّه صدّها. ويذكرنا هذا بأنّ «بوفوار» لم تكن مجرد مراقب لعلاقة سارتر – كامي، بل متورطة فيها إلى الأعماق – قوّة ثالثة بمشاعرها الخاصة المستقلة عن «كامي». واشتكت فيما بعد من أنه فظّ فـجّ ضيق الصدر معها. وتصورت، تخميناً، أنّ سبب ذلك أنّه رجل صاحب نظرة بحر متوسطية إلى النساء، ورأى فيها امرأة غير جذابة ولا يسعه قبولها ندّاً ثقافياً له. ولم تكن تعرف أنّ «كامي» قال في تعليق له عنها إلى «آرثر كويستلر»: «تخيّل ماذا عساها تقول بعد ذلك وهي على الوسادة. يا لهول مثل هذه الامرأة المثقفة الثرثارة، إنّها شيء غير محتمل». لقد صرّحت «بوفوار» وهي في سنّ الشيخوخة بأنّها خافت من إقبال «سارتر» بقوة على «كامي» عندما التقيا لأول مرّة، إذ تحدث عنه بلغة ربما كان أولى به أن يتحدث بها عن امرأة يلاحقها. ثم تقوم بـ«فبركة» استنتاج مخالف للحالة الواقعية فتقول: «نظراً لأن «سارتر» هو أقوى من عرفته «بوفوار» متمتعاً بجنسية غيريـة، وليس لديه أي ميل مهما كان واهناً إلى الجنسية المثلية، فقد استشعرت قلقاً وضيقاً بسبب «افتتانه» بـ«كامي». لقد كان «سارتر» منجذباً بقوة نحو الشاب الأنيق «كامي» الذي كان دوره في حياة «سارتر» و«بوفوار» آنذاك دوراً مهولاً وعظيم الشأن. إنه بدا، علاوة على فحولته المتصوّرة، واقعياً ملتزماً، لكن به نقاط ضعف مستهدفة. وترجع نقاط ضعفه جزئياً إلى مرض السلّ المتحكم في حياته اليومية – كان يسعل ويفرز دمّاً، وبدا منهكاً في أغلب الأحيان وبحاجة إلى علاج وإلى راحة..
يتساءل «أرونسون» بعد ذلك: هل كانا متنافسين؟.. ورغم «اللياقة» السردية التي حاول «أرونسون» التعامل بها مع إجابة مثل هذا السؤال إلاّ أننا نستطيع القول إنّ المنافسة كانت قائمة حتى قبل أن يلتقي المفكران الصديقان اللدودان. وقد تحدثت «بوفوار» مرّة عن أن «سارتر» كان «غيوراً بعض الشيء» من «كامي»، ولكن ليس باعتباره كاتباً. إذ أن نظرات «كامي» الوسيمة هيّأت له ميزة يستاء منها سارتر ، وذكر سارتر فيما بعد علاقة كامي بـ«واندا كوزاكيوفكس» باعتبارها واحدة من بين تصرفات أربع أو خمس صدرت عن «كامي» وكانت سبباً في ما طرأ على الصداقة من مرارة. وفي العام 1944 كتب «سارتر» إلى «بوفوار» قائلاً: «ما الذي كانت تفكر فيه «واندا» ويحفزها إلى ملاحقة «كامي»؟ ما الذي تريده منه؟ ألم أكن أنا أفضل منه؟ وأكثر كياسة وتهذيباً؟ حريّ بها أن تلزم الحذر». والجدير ذكره أن «سارتر»، بينما كان ثملاً ذات يوم، قال موجّها الحديث إلى «كامي»: «أنا أذكى منك، هه ؟ أذكى منك». ووافقه «كامي». ورأى «كامي» في يوم آخر «سارتر» يودّع فتاة جميلة وسأله: «ما الذي يوقعك في هذه المشكلة الكبيرة؟». أجاب «سارتر»: «هل تطلّعت إلى وجهي؟». و«سارتر» معروف بقبحه.
يقول «أرونسون» في نهاية هذا الفصل إنّ السياسة سوف تفرق بين «كامي» و«سارتر» في العام 1952 بعد أن جمعت بينهما في العام 1944. وهو استنتاج غريب لأنهما لم يكونا متفقين أبداً، وكانت جمرة الصراع تستعر تحت رماد الائتلاف الشكلي. لقد فرّقت السياسة، فعلاً، بينهما وكان موطن الخلاف الأول هو الموقف من الاحتلال الألماني لفرنسا الذي كانا فيه على النقيض تماماً ويجدر بهذه القضية الوطنية الخطيرة أن توصلهما إلى القطيعة النهائية إذا كانت السياسة، فعلاً، هي التي فرقتهما. لكن للاّشعور ألعابه الماكرة ومصائده الخلاّقة بحـيث حفـظت الصـلة بينهما لسنوات لأنّ هناك ما هو مخفي ومستتر من حفزات نفسية أعمق وأقوى فعلاً، ولنتذكر دائماً أنّ الإنسان – حسب معطيات التحليل النفسي – حيوان تبريري وليس كائناً منطقياً. وتهمني هنا الإشارة إلى أنّ «سارتر» قد غلبه النعاس وهو يحضر – مع «كامي» – تدريبات إحدى المسرحيّات، أيقظه «كامي» بالكلمات الآتية: «لقد وجهت مقعدك في المسرح في اتجاه التاريخ».
ومن المؤكد أنّ صدور مثل هذه الملاحظة بأسلوب «كامي» الساخر الودود جعل منها محوراً لما حدث من شقاق بينهما فيما بعد. وتذكّر «كامي» هذا الحدث في جدال دار بينهما لاحقاً، وقالها «كامي» بحدّة قاسيـة، وردّها له «سارتر» الصاع صاعين، فهل يُعقل أن تسبب حادثة بسيطة مثل هذه قطيعة نهائية ومدمّرة بين «صديقين»؟ إنّ هذه الحادثة لا يمكن أن يكون لها دور في ذلك إلاّ إذا كانت غطاء فجّر ما هو مكبوت في أعماق «الصديقين». من بين الأمور السياسية التي باعدت بين «كامي وسارتر» – حسب أرونسون – هو الموقف من الشيوعية عموماً ومن الاتحاد السوفيتي وتصرفات «ستالين» خصوصاً، يظهر الفارق في الموقفين صارخاً جداً إذا قرأنا ما سطره «كامي» في مذكراته:
– أما زلت ماركسياً الآن؟
– نعم.
– إذن ستكون قاتلاً.
«كامي» كان يعامل الشيوعية باعتبارها مرضاً حضارياً ويسميّها «جنون العصر» ويرى أنها حولت بلداناً كاملة إلى معسكرات اعتقال وسببت مجاعة لحقت بالملايين من صغار الفلاحين وأعدمت في الاتحاد السوفيتي وحده مليون نسمة رمياً بالرصاص للاشتباه في أنهم متآمرون. أمّا «سارتر» فقد كان منحازاً تماماً للشيوعية وللاتحاد السوفيتي. إنّه يقول ببساطة في العام 1952: «إنّ المناهض للشيوعية كلب!! وليس بوسعي أن أرى مخرجاً غير هذا ولن أجد».
أخيراً جاءت لحظة الانفجار والخراب النهائي بين «كامي وسارتر»؛ فقد أصدر الأوّل كتابه «الإنسان المتمـرّد»، ولم يجد الثاني الذي كان يرأس تحرير أشهر مجلة في فرنسا وهي «الأزمنة الحديثة» غير محرّر شاب لا يتجاوز عمره الخمسة وعشرين عاماً هو «فرنسيس جينسون» الذي كتب نقداً قاسياً عن الكتاب وقع في واحد وعشرين صفحة انتقد فيه «كامي» وكتاباته السابقة حتى قبل أن يمسّ جوهر الكتاب. واستخدم لهجة ساخرة عزاها إلى رغبته في الحدّ من شهرة «كامي» كقدّيس أخلاقي. ردّ «كامي» بمقال من سبع عشرة صفحة وكان الردّ موجهاً إلى «السيّد رئيس التحرير» دون أن يذكر اسم «جينسون» ولو مرّة واحدة، وكان «كامي» يذكر في تبادل مفردة «معاونكم» ومفردة «مقالكم» وتعامل مع مقال «جينسون» وكأنه مقال كتبه «سارتر» لأنه على يقين بأنّ «سارتر» «متضامن» مع موقف الكاتب. وقد ضمت الفقرة قبل الأخيرة من الردّ تعليقاً مباشراً وشخصياً على «سارتر» حيث تقول: «بدأت أشعر بقليل من السأم إذ أرى نفسي أتلقى دروساً بلا نهاية عن الفعالية من نقاد لم يفعلوا أيّ شيء سوى أن يديروا مقعدهم في اتجاه التاريخ»، وهي الكلمات التي أيقظ بها «كامي» صديقه النائم في صالة المسرح. ويهمنا هنا القول إنّ كتاب «كامي»: «الإنسان المتمّرد» موجّه أساساً ضد من يبرّرون القتل، المثقفين المتواطئين مع الشيوعية. وبطبيعة الحال فإنّ «سارتر» واحد منهم حسب وجهة نظره. وهنا يأتي ردّ «سارتر» عنيفاً ومدوّياً ويخلط بين ما هو سياسي وشخصي ولكنّ هذا الرّد يوصلك إلى استنتاج وحيد هو أنّه يعبّر عن عداء كُبت طويلاً في أعماق «سارتر». هكذا بدأ الرد:
«عزيزي كامي : لم تكن صداقتنا سهلة، وإن كنت سأفقدها. إذ أنهيتها اليوم». وهذا يعني أنّ ردّ «كامي» وليس نقد «جينسون» هو السبب في إنهاء «الصداقة» بينهما. كان ردّ «سارتر» مكوناً من عشرين صفحة بالإضافة إلى هجمة من «جينسون» في ثلاثين صفحة ضمها العدد نفسه من الأزمنة الحديثة. لقد كبح «كامي» جماح نفسه، ولكن «سارتر» كان منفلتاً وحطم كل شيء:
«كم من المؤسف أن تضعني عن عمد أمام محاكمة، وبمثل هذه اللهجة القبيحة، بحيث أ صبحت عاجزاً عن الاستمرار في التزام الصمت من دون أن أفقد ماء وجهي (…) إنك أصبحت ضحية زهو أخرق.. يخفي مشكلاتك التي تطوي عليها صدرك والتي أظنّ أنك قد تسميّها اعتدالاً متوسطياً». لقد سلخ «سارتر» «كامي» بأشدّ الكلمات مساساً بشخصه في ردّ تجاوز به كل حدود العنف ولا يبرره شيء مما حدث قبل ذلك. لقد فجّر كل ما استثاره وضايقه من «كامي» على مدى السنوات العشر الماضية. إنّ «سارتر» الذي يؤمن بالعنف يقدّم الدليل على مدى ما يتصف به من عنف . ولم تكن الصورة التي وضعها سوى محاولة لكي يدمّر «كامي» بالكامل، إن لم يكن يقضي عليه ويخرسه.
ما الذي حصل بعد ذلك؟.
كان «سارتر» مرتاحاً – وبروح سادية – إلى الضجة الإعلامية التي ثارت بعد رسالته في حين غشيَ «كامي» شك ذاتي وشعور بالكآبة. وحدث مرّة أن اندفع كالإعصار إلى داخل شقة «ماريا كاساريس» ويكاد الدمع يغالبه. سرعان ما اكتشف «كامي» وهو يدور على أصدقائه وبيده مجلة الأزمنة الحديثة أنّ الغالبية العظمى منهم يصدقون أن «سارتر» كسب المعركة وأن «النـزال» كان عادلاً. أخذ الحرج والصدمة يغوصان عميقاً في نفسه. ساءت علاقته بحبيبته «فرانسين» حتى أنها قامت بمحاولة انتحار وطلبت منه أمها مغادرة المنـزل. كان «كامي» – حتى في مذكراته – فناناً مفرطاً في استخدام كلمة «آخ» على علاتها ويكشف لنا مدى الجرح العميق الذي أصابه من هجوم «سارتر». يقول «أرونسون» إنّ «سارتر» افترس «كامي» وهو وصف بالغ الدّقة. فبعد هذا الردّ المدمّر حاول «كامي» من دون جدوى الاهتداء إلى سبيل للعودة إلى الإبداع. أخبر أحد أصدقائه بأنه أصبح عاجزاً عن العمل طوال السنة وقال: «لم أعد أعرف كيف أكتب». وقال في مناسبة أخرى: «أشعر أنني جففت تماماً.. كما الحبر في منشفة من الورق». استولى «سارتر» على عقله ووجدانه فأبدع روايته : «السقوط» وفي بطلها جوانب كثيرة من «سارتر» ومنه هو أيضاً. لقد رأى نفسه في «هنري» بطل رواية «الماندارين» «لسيمون دي بوفوار» والتي يعتقد البعض أنّها مرّغته في الوحل فيها. وكان حتمياً أن يرى «كامي» الرواية بمنـزلة تصفية حسابات. وقال لأحد أصدقائه: «ألقوا كل أوساخهم الملعونة على ظهري».. واستمر يعلن لأصدقائه بأنه لا يستطيع الكتابة.
يقـول «أرونسـون»: «إلى أي مـدى ارتبط صمت «كامي» العميق، أي ما بدا له فقداناً لذاته ككاتب، بالقطيعة بينه وبين «سارتر»؟ إن حارس بوابة باريس طرد الفرنسي الجزائري؟ وتعرّض الكاتب المتحفظ للتشهير والتنديد به علانية على يد إنسان قادر على أن يقول أي شيء في الصحافة؛ وأصبح اليساري المناهض للشيوعية الذي لا يشعر بالأمان على جمهوره موضع ازدراء من المثقفين أبناء الجناح اليساري؛ وسخر رجال الإدارة من الوافد الجديد بسبب تعليمه الزائف وكسله الفكري. وها هي قصصه التي حاول كتابة مسوداتها خلال العامين (1954و 1955) تتحدث عن الخيانة والعزلة والمعاناة الشديدة، وعن حياة تفتقد الخصوصية، وعن العقم الفني .
في 4يناير 1960 وعندما كان «كامي» عائداً من لورمارين إلى باريس دهمته سيّارة أودت بحياته. كان في السادسة والأربعين من عمره. أذهل موته باريس والجزائر والكثيرين في العالم. وحتى في الكلمة التي نشرها في وداع «كامي»، ظل «سارتر» يتحدث عن مواقف «كامي» السياسية التي أثارت الخلاف بينهما أي أنه لم يكن مستعداً لتناسي خلافاته مع «كامي» رغم موته..
إن مراجعة دقيقة وشاملة للوقائع التي أوردها «رونالد أرونسون» ووفق رؤية نفسية تحليلية صارمة – وهنا تظهر أهمية المنهج النفسي في النقد والتحليل – تشير بصورة لا تقبل اللبس إلى أنّ عوامل عديدة قد تجمعت لتوصل «ألبير كامي» إلى نهايته الانتحارية الغير مباشرة – نرجسيته المشروخة، عدوانيته المكبوتة، مازوخيتــه، شعوره الكامن بالذنب…. إلخ – ولكن الأمر الذي لا يمكن إنكاره – والذي لم يستطع المؤلف ، ومن المحتمل أن عدم استطاعته هذه قد تعود إلى أسباب نفسية – هو أنّ موقف «سارتر» من «كامي» منذ بداية علاقتهما بما شابها من كبوتات وقمع ثم ما تلاها من انفجار من جانب «سارتر» كانت سبباً رئيساً في تصعيد السلوك الانتحاري الذي كان قائماً أصلاً لدى «كامي».