همساً كنّا نتناقل فيما بيننا: بيت الكوارث!
غرفتان متهالكتان، باحة حوش لا تتعدى أربعة × ستة أمتار، حمام و بيت راحة من طين، موقعه ليس بمغرىٍ، رغم أنّه يتوسط زقاقنا، وكل من قطنه جلببه الحزن بسرباله، قبل أن يتوارى من أمام أنظارنا.
***
حكايات كثيرة شاعت، لونتها ـ بغريب المواقف ـ ألسن فقدت موازينها، تعويضاً عن قسوة العيش والحياة وحرية التعبير عن خلجات الذات، قبل أن يتناثر يقين بين الناس: عيون صاحبه وراءه!
قال نسوة زقاقنا، وهنّ يقسمن بكل ولي له ضريح يلتجأ إليه الناس، لتحقيق مراد أو غاية إعجازية: ـ شبح عملاق يظهر فوق البيت منتصف كل ليلة!
كان حقاً على النساء أن ينفثن أنفاسهن في بالون الرهبة، خلال عقدين ونصف من الزمن، احترقت امرأة داخل المطبخ بسبب تسرب الغاز، ودهست أخرى ذهبت ترافق طفلتها إلى المدرسة، ونُهبت فتاة مليحة من قبل شاب غريب كان يحوم في المنطقة قبل أن يختفيا معاً، وقُتل رجلان في الحرب، تفصل بين قتليهما مدة سنتين، ومات طفلان بداء الإسهال، وهجرت امرأة زوجها جرّاء الفقر المتواصل، وآخر قاطن للمنزل، فقد ابنه وعروسه بحادث مرور ليلة زفافهما، غادرت تلك العائلة البيت بعد يومين من انتهاء مراسيم الفاتحة على روحيهما، وكُتب على جدرانه ’’المنزل للبيع‘‘. ومن يوم رحيلهم ظلّ البيت مأوى للكلاب المتكاثرة والقطط المتناسلة، بيت شؤم لم يتجرأ أحد أن يقطنه أو يشتريه رغم تواضع سعره.
***
كان مالكه الشرعي، رجل متواضع فقير الحال كبير العائلة، نسوة المحلة كنّ ينادينه كامو تدليلاً عن اسمه كاميران، أو بناء على رغبة زوجته في مناداتها له، كان يتحلى بشفافية عالية وروح مرحة وثّابة، لكم أنا الآن نادم على ذلك، لأنني كنت أتجنبه كلما التقينا، ولم يحصل أنني صرفت ولو لمرة واحدة بعض وقتي معه من باب المجاملة، دائماً كنت أكتشف نفوري منه كلّما تحين الفرصة، أو محاولة منه، أن يلين صلابة موقفي تجاه الجيران، للحق أقول، لم أرصد فيه صفة متطرفة أو مثيرة للشبهات، بل وجدته حلو المعشر، خفيف الظل إلى حدٍ ما، هيّاب لكل فعل، ورغم هروبي المتواصل من رغبته، وعدم الجواب على كل سلام كان يلقيه علي، ظلّ يواصل ترحيباته لي، خلت لحظتها أن أي جواب منّي له، يعني فتح الباب لريح ستتواصل هبوبها علي، لقد كان ـ هذا ما يعرفه الجميع ـ يحمل بكل ود، تواضعه فوق راحتيه.
***
ذات مساء رأيته معصوب الرأس، خلته لعب لعبة شاعت بين موظفي البلاد، بعدما صار العمل في الدوائر جحيماً، تم سحب مركبات النقل، وإلغاء أيام العطل الرسمية، ومنع الإجازات الدورية، صار النهار كلّه عمل ممل متواصل، وتم اللجوء إلى الحيّل لنيل أيام راحة، أو الابتعاد من خطوط النار في الجبهات، صار الجندي يميت أبيه أو أمه مرات ومرات كلما تبدل الآمر أو قُتل، وصار العامل يلتجأ إلى العيادات المرضية للحصول على استراحة لمدة يومين أو ثلاثة.
ولأنني أعرفه، خلته ربط رأسه من أجل ما ظننت، لكن أخباره ليست لها مقام أو ضريح، كل بادرة أو فعل من أفعاله تطلقها الألسن للريح سرعان ما ينتشر كالنار في الهشيم، عرفت من زوجتي إنه أوقف الحافلة لحظة وقعت عيناه على صبيان يتراشقون بالحجر، قالت أيضاً: إنه أفلح في إصلاح ذات البين بين الفريقين المتخاصمين، وجعلهم يتبادلون قبلات الصلح، ولحظة انسحب وهو يترنم بلسانه تعبيراً عن سروره، هبط عليه سيل حجر من قبل المجموعتين. رأوه يقف، رأوا الدم يصبغ وجهه، هرع إليه فاعل خير وقاده نحو المشفى، وبعد إجراءات معقدة ما بين الشرطة والمشفى تم تضميد رأسه باليود والشاش.
فاعل الخير لمّا ملّ من الروتين الجاري، قام برشوة ضابط التحقيق بعلبة سجائر سومر أبو السن الطويل ، قام بدوره بتبديل أقواله البدائية، كتب: الإصابة ناجمة عن حجارة طارت من تحت إطار سيارة عسكرية كانت مارقة نحو الجبهة!
***
ذات صباح رافقت أخي لأشهد على زواج ابنه في محكمة البداءة، وجدت في لوحة الإعلانات قراراً يمنع كامو بائع الشاي من الدخول إلى أروقة المحكمة، بطبيعة الحال، كثيرون يعرفون أنّه كان سبّاقاً لكل فعل، يهرع صوب كل مشكلة، ويحشر نفسه في قضايا كبيرة في محاولة منه لتذليل العوائق، أو تقريب وجهات النظر، ونبذ الخلافات مهما كانت بين الأطراف المتخاصمة.
***
صار كامو على كل لسان، وتمت صياغة حكايات تندر حوله، بل صار جحا مدينتنا، ربما وهذا من عنديّاتي بسبب غلق كل المنافذ الترويحية للناس، من قبل عيون السلطة المركزية ووشاتها، واعتبار كل كلام تقليد أو سخرية، مسمار مدقوق في جبين السلطة أو خازوق يحشر في استها. تعرفون طبعاً مصير من يتفوه بسوء حول أي مرفق من مرافق دولتنا، أينما نكون، داخل حافلة، أو في مقهى، وحتى في غرف الدوائر الرسمية، ولا أكتمكم القول حتى في الكثير من الاجتماعات الحزبية، كانوا يتطرقون إلى نوادر كامو، ودائماً هناك ناقل خبر تازة، تنطلق الضحكات غير الممنوعة، تلطفها ألسن جاهزة، مضافاً إليها توابل ماتعة، ومُضحكات إضافية ترطب الحكاية بعسل الأنس وتكنس كوابيس الصدور.
كلّما كنت أعود من عملي، كانت زوجتي المغرمة بمتابعة لطائفه وظرائفه تبتدرني:
ـ ها.. ما هي آخر أخبار صاحبنا؟
***
كان كامو مستخدماً في بلدية مدينتنا، تم طرده بناء على بقرار حاسم من الحزب، عرفت من شخص قريب أن الحزب فاتح دائرته بإخطار رسمي لا نقاش فيه، أسّر قريبي لي:
ـ استقبل القرار برحابة صدر!
وقال أيضاً:
ـ بابتسامة زهو!
رجل كثير الهذر فقد معنوياته، حنث بوعده، اندفع كثورٍ هائج وهو يطلق لسانه لاعناً حظه، ويوم سكن في منطقتنا، تم حجزه من قبل لجنة أمنية، لم يحتمل ضربهم، أنقذ نفسه بوشايته لناقل الخبر إليه، وتم طرد كامو من وظيفته، وحرق كشكه في تجمع حزبي تعالت فيه هتافات النصر وأهازيج الفرح من أفواه جمعٌ من دبابير وذباب بشر متلون.
قريبي نقل لي مضمون ما جاء في التقرير الحزبي: إن المدعو كاميران مصطفى محمود، المستخدم في دائرتكم وبائع الشاي قرب بيت الشعب، جاسوس يقوم بتشويه سمعة الحزب بإفشاء أسراره، لذا نأمركم إصدار أمر فصله من وظيفته عاجلاً، مع حرمانه من كافة حقوقه الوظيفية!
أفشى لي أيضاً:
ـ وشى به رجل ’’كمش‘‘* كلّما قاموا بترشيح قاطعٍ للجيش الشعبي كان ذلك الرجل على رأس القائمة!
كان بديلاً جاهزاً وصيداً سهلاً تحت مخالب فئة عديمة الرحمة، كلّما حصل نقص في القوائم أو يريدون تبديل صاحب يد طويلة بآخر لا حول له ولا قوة لسياقه إلى جبهة الحرب ضمن الجيش المساند.
ذلك الرجل لم يحتمل الخبر الذي نقلته زوجة كامو لزوجته، كونه عاد في التو من إحدى قواطع الجيش الشعبي، فقد صبره وحاجج المسئولين بلسان فقد حصانته، قبل أن يجد نفسه في متاهة، راح ضحيتها ـ صاحبنا كامو ـ كما كان يحلو لزوجتي أن تسميه.
تناول كامو قرار طرده من رجل الاستعلامات، وضع كفه اليمين على صدره، اطرق برأسه، استدار وخرج يبتسم كسجين أُطلق سراحه.
ما تزال زوجتي تتذكر تفاصيل ذلك الصباح.. تردد دائماً:
ـ عفارم زوجته نسرين، تناولت قرار الحزب من كامو، ألقته في حوض المرحاض، وبالت عليه!
***
رجال لا يموتون بيسر، كلّما يوصد باب رزق بوجوههم يحطمون أبواب أخرى لجلب السعادة لأنفسهم، كامو لم يركن للحظة يأس، أو محاولة تحطيم الصدمة، مع تباشير فجر متجلد خرج يدفع عربته ـ على باب الله ـ وهو يترنم بصوته الذي صار لازمة لا تفارق ذهني، وأتذكر جيداً أنني همست مع نفسي:
ـ أمثالك لا يموتون يا كاميران!
تناقلت الألسن همساً سبب طرده، كنت أرصد في عيون الناس حبّات دموع تتلألأ وأوشحة حزن تخط على السحنات أخاديد منكمشة، كنت أقول أنها فطرة البشر، المصائب توحد القلوب وتستدر الدموع حتى لو كان الهلاك يحوم فوق رؤوسهم، كان يمتلك كشكاً لبيع الشاي بعد طرده من وظيفته، في رأس زقاق يقود نحو بيت الحزب، وكان يعرف ما تطبخ فيه من أسرار ومؤامرات حول الناس، كان يمرر كل سر يمس حياة شخص ما عبر زوجته إلى زوجة الشخص المعني: أعمال الخير وراء ما جرى له! كلام تهمسه العيون تخشى الألسن بوحه.
***
ليس بوسعي أن أنكر جميل معروفه، لكن طبيعتي أبت أن تتنازل عن غرورها، الحق يقال أنه قام بإسداء خدمة لي لا تكافأ. ذات مساء وجدت زوجتي على خلاف طبيعتها، مخطوفة الوجه، همست في أذني ما جاء به كامو حدّقت فيها بذهول، قبل أن أتصل بقريبي، حاول أن يعرف من أين سمعت هذا الكلام، أقنعته من عابر سبيل كان يهمس في أذن زميله، كان قرار الحزب ترحيل كل عائلة لديها أبناً خارج البلاد، مهما كانت أسباب السفر، فهو في المفهوم الصادر من ’’مجلس قيادة الثورة‘‘ هارباً من الحرب، سيتم مصادرة المنزل وطرد ذويه من وظائفهم، عملت بنصيحة قريبي، في اللحظة الحاسمة بعت تلفزيون البيت، ’’وزفّرت‘‘** أفواه السادة المسئولين بوليمة دسمة، تم فيما بعد تدبيج تزكية حصينة لي، ولولدي وهو يواصل دراسته خارج البلاد.
***
اختفى كامو، ساد ذعر في الزقاق، لم يتجرأ أحد السؤال عنه، كنت ألحظ زوجته وهي تجرجر أطفالها السبعة، تخرج صباحاً وتعود عند الغروب، ثابتة الشكيمة، لا تنطق بشيء حوله، في البدء خلته وجد عملاً في مكان ما، لكن ما حصل بعد مرور أسبوع على غيابه، جعلني أبدو قلقاً للغاية، منتصف الليل أفقت على حركة مركبات تبدد الظلام، ومن وراء ستائر نافذة غرفة استقبال الضيوف، رأيت سيارات طويلة سوداء، اقتحم رهط رجال ببدلات مهندمة غامقة المنزل المقابل لمنزلي، أخرجوا العائلة، وزجّوا بهم داخل مركبتين وانطلقوا إلى الظلام، ليس بوسعي الآن أن أستحضر رعب اللحظة، ربما أجدني أستعير مقولة متداولة، صاعقة حلّت على رؤوسنا، فقدت وعيي، وكل لحظة كنت أهجس أن مركبات مماثلة لا محال آتية لتغريبي، كل شيء ممكن وجائز، فهو جاري ولابد للجار أن يعرف أسرار جاره، لابد أن يتسقط أخباره وينقلها ساعة بساعة كما تنص التعليمات المتكررة من ألسن رجال ألأمن والحزب، كل صغيرة وكبيرة يجب أن يتم دسها في تقارير متواصلة تسلم إلى مسؤول المحلة، من يأتي ويذهب، من يدير شبكة تلفازه باتجاه إيران، من يسمع أخبار لندن و صوت أميركا، فكل زيارة هي مثيرة للشبهات، كل تجمع شبابي محاولة لتعكير، أو تعطيل عجلة التقدم، حتى النظرات العميقة بوجه المسؤولين كانت تفسر نظرات غضب واحتجاج.
***
كنت عائداً من الاحتفال الكبير، لم أتمكن أن أمضي أكثر مما استغرق وقت إسقاط صنم خوفو المتربع صدر مدينتنا، على أيدي الناس، وسط زغاريد النساء، ورقصات الشباب، واطلاق اسراب الحمام وبالونات غازية، عدت راجلاً رغم المسافة البعيدة، يدفعني فرح ينفخ جسدي خفة ونشاط، هالني منظر شاب وسيم كان يعالج باب ’’بيت الكوارث‘‘، على ما أظن أنه لم يسمع ترحيبي له، كان يعمل بنشاط وهو يدندن مع نفسه، حرّكت رأسي مستغرباً وحين دفعت باب البيت، خلت أن ابني قد عاد من غربته، كانت الصالة تعج بكركرات نسائية، لم تدم المفاجأة كثيراً، وجدت نفسي أقف، وتقف أمامي امرأة نهضت من رماد ذاكرتي، لم أنتبه لسقوط العكاز من يدي، في تلك الوقفة توصلت إلى قناعة أن الزمن مهما شاخ ليس بوسعه سلب سر رقتها أو يوقف ينابيع الفرح في عينيها، عرفتني قبل أن أعرفها، ناولتني العكّاز، تبادلنا حرارة السلام وسيل دموع وتعطل فينا الكلام.
***
ـ أتتذكر تلك الليلة المظلمة؟
ـ هيّ ليالينا كلها كانت مظلمة!
ـ ليلة انقطع الكهرباء ونفد مخزون النفط!
ـ آه.. تعنين ليلة طرق الباب، وخرجت لأجد ابن.. ابـ…!
توقفت لحظة عن الكلام، صفعت جبهتي بباطن كفي.. صحت:
ـ خبريني، أهذا الذي رأيته يدندن أمام باب بيت القدر، هو ذلك الصبي الذي جاء في تلك الليلة يطلب منا الخبز؟
***
من جديد عاد كامو ليشغلني ويملئ قلبي غصصاً وآهات، لقد كان في مرآب مدينتنا ذات أصيل بعيد، لمح غرباء يسألون عن فندق للمبيت، ترك عربته وقادهم إلى بيته ضيوفاً مكرمين، ذلك كل ما فعله قبل أن يختفي، وتم شنقه بحجة إيواء وافدين أكراد من الشمال.
***
ـ أنك لم تبكِ كما بكيت طيلة فترة حياتنا؟!
ـ ندمٌ سيظل رفيقي، لقد أخطأت بحقه!
ـ أرجو أن تكون قريباً من أولاده هذه المرة!
ـ ليت الزمن يعود لأغيّر أسلوبي في الحياة!
***
ما تزال زوجتي تسرد لأحفادي، ليلة زوال تمثال خوفو من واجهة البلدة، بعد دخول الغزاة، كيف فقدت صوابي عندما حكت لي كل شيء عن كاميران:
ـ لقد اندفع جدّكم وهو يلوّح بعكّازهِ صوب بيت كامو، وقف ببابهم وراح يصرخ:
ـ رحل القدر عن هذا البيت، رحل القدر عن بيت كـ.. ا.. مـ.. يـ.. ر.. اااا.. ن!
***
*كمش: باللغة العراقية الدارجة، الذي يسقط نفسه ضحية في المواقف العابرة، أو من يكون دائماً في متناول كل يد سخرة.
**زفّرت: من الزفرة، أي لوّثت.