هنا خلف أسوار السجن نفوس توقفت عن الحلم، فالغد مبهم يكتنفه الغموض، الأفق مضبب عدا هؤلاء الذين يجاورونه ويشاركونه تلك البقعة قصرا ويديرون كل أعمالهم المناوئة للقانون القابع في الأضابير كي يستخرجه كل باحث عن درجة علمية يكتسب بها كنية جديدة، لأجلها يحسن ارتداء رباط عنقه، الليل ليل والنهار نهار ولكن ليله ونهاره يقتسمان جلده.
الليل طويل كأنه لن ينجلي والنهار له عيون جاحظة قاسية، لا يألو جهدا في رفع سوطه عاليا كي يجلده دون منطق يفهمه سوى الفراغ الذي يسلمه إلى فراغ آخر أشد وحشة، لينزف داخله في داخله، يستره جلده المنسوج بتضام مكونه.
بالأمس القريب كان يذرع الفراغ بذراعيه ليحتوي الدنيا كلها في صدره ويمضي واثق الخطى مرفوع الهامة، يقبض على مسوغات القوة التي يمتلكها، هو المهندس ذو الحيثية، بلغ سن الحكم والنبوة، متزوج منذ خمسة عشر عاما، فتاته التي سعى إليها ليقترن بها، هي من الجمال والأنوثة ما جعله يضطرب فلم تسكن أعطافه إلا عندما رآها في بيته تفيض عليه بغنج صوتها الطبيعي وقدها المياس، بها صارا أيكة من خمسة أفراد ما جعله يستزيد في ساعات عمله ليحقق مطلوبات أيكته في هذا الظرف العصيب من الوقت، جده الخامس إسمه زيدان، ولكي يتخلص من جلد الذات الذي أصابه بالنصب، جعل الفراغ الذي يحتويه يستدعي زيدان كي يحاكمه، لماذا لم يكتب وصية تقي أحفاده الذلل، مازال ينوء بجلد ذاته فيقول مهدئا نفسه:
نعم هو الذي لم يترك وصية تكون كالسيف على الرقاب، واجبة التنفيذ.
الآن زيدان الذي لم يره في حياته يحضر إليه بجلباب وعمامة.
يقول متلمسا ما يرطب داخله الملتهب: أعطني عمامتك.
فيقول الآخر بلكنة ريفية ناتئة بطين الأرض: هذه يلبسها الرجال.
يقول وهو المتداعي: ماذا تريد أن تقول أنني لست رجل.
هل ترى غير ذلك؟
أنت المسئول وتتهرب بإلقاء اللوم علي.
كفاية عليك اللهيب الذي يتصاعد من عينيك.
متى تزوجت؟
وأنا عندي سبعة عشر عاما.
أنا تزوجت وعمري خمس وثلاثين عاما.
كم عدد زوجاتك؟
ثلاثة
كلهن معك؟
نعم
ماذا كنت تعمل؟
كان عندي خمسة أفدنة وجاموستين وبقرة وحمار.
يعجبك ما حدث لي؟
الرجل إن لم يكن رجل في بيته يحدث له أكثر من ذلك.
عندما شكيت فيها راقبتها وعندما تأكدت طلقتها وخرب البيت، رافقت الدموع جملته الأخيرة .
البيت لم يخرب، البيت كان أساسه خرب.
أنت لم تعش في زماننا ولا تعرف نواميسه.
من الذي سن لكم هذه النواميس؟
…………
لماذا تلومني أنا، لا تلمن إلا نفسك.
عاد لجلد ذاته مرة أخرى في متسع الليل الرتيب المتمهل، جف حلقه وفاضت عيناه.
انعطف به الفراغ إلى زوجته هذه المرة، عندما صفى شركته ولم يبقى منها سوى القليل جدا الذي لا يحقق ما كان من النفقات، كانت تشتري ما يسمى روتين الشعر، روتين البشرة، روتين الجسم، دائما هي في شغل بجمالها، حريصة على ألا يغيب عنها وهو بها سعيد فخور، تقلصت نفقاتها وانتفى منها الكثير، واستغنت عن روتينها كله، والنادي والمجاملات ومدارس أبنائها المتميزة، وعايرته بقلة ذات اليد.
ساءها أفول ألقها وهي التي كانوا يمطرونها بكلمات الإطراء والثناء على جمالها حتى في تلك الشاشة الزرقاء والتي كان منها مستصغر الشرر، طلب أحدهم صداقتها وفتحت صفحته لتطلع عليها فألفته يجيد صياغة عبارات الحب والعشق، تماس مع ظمأ داخلها، فاقتحمها بصندوقه الثريد لتسمع منه ما لم تسمعه من قبل، انهارت قواها وأدمنت هذه العبارات وعرف بخبرته في ممارسة آثامه نقطة ضعفها.
طلب منها المزيد فانصاعت واستذلها بانحدارها، طلب منها فتح الكاميرا ليراها بملابس عارية فتمنعت وهي الراغبة فمازالت تقاوم، انسابت معه في الحديث ليتيقن من انحسار نفقاتها وتجلي أزمتها المادية، فعرض عليها أن تفتح له الكاميرا بمقابل مادي ورسم لها تخوما جديدة، فكلما زادت في التعري زاد السعر.
انساقت خلفه وكثر روادها كما ازدادت غلال الإثم، وصارت المسافة بينها وبين زوجها بعيدة بعد المشرقين وإن كانا في فراش واحد، فهي لا ترغبه، تكثر الحجج الباطلة، كسيرة النظرة كأن جفنيها يسترا داخلها المعطوب، ولكن العطب رائحته نفاذة امتدت لأنف زوجها وبات يضيق صدره ولا ينطلق لسانه، مكدر الأعطاف خاصة وهو يعود إلى البيت ليجدها بكامل زينتها وشبه عارية ولم تكن تفعل ذلك من قبل، فأخفى لها كاميرا وظل خائفا يترقب ولا يغمض له جفن، فعاد في غير ميعاده وانهارت الحجب ورأى بأم عينيه خيانتها المشيدة، مسحت فعلتها بسرعة من الشاشة بينما انهال عليها ضربا كملتاث العقل وعجز عن إثبات جريمتها فانقلب السحر على الساحر.