عند بزوغ فجر هذا اليوم الصيفي، الذي ظهرت فيه سحابة رماديّة موحشة ورياح هائجة مزعجة اهتزّت لها الأرض غبارا وأتربة، ابتعد “مصطفى حليلة” مسافة طويلة عن الحيّ الذي يقطنه في منطقة سيدي حسين وتوقفّ في إحدى الطرقات الفرعية على أطراف سبخة السيجومي، حيث لاح له الطريق السيّارة المؤدّية لأحياء المروج وبن عروس كحزام يطوّق البحيّرة ويحضن أسراب طيور النحام الورديّ المهاجرة.
التفت “مصطفى حليلة” يمنة ويسرة ولمّا تأكّد من خلوّ الطريق من النّاس سحب الكمّامة من جيب سرواله، ووضعها قناعا على وجهه لإخفاء ملامحه وسحب كيس قمامة عملاقة من جيبه الخلفي ثمّ واصل سيره إلى غايته.
انطلق كمقاتل النينجا مع حافة الطريق السيّارة، متدثرا بثوبه الفضفاض، متنقّلا من حاشية إلى أخرى يجمع قوارير البلاستيك التي ألقاها أصحابها من نوافذ سيّاراتهم المرفهة بعد أن أفرغوا ما فيها في بطونهم الضخمة، يضغط عليها بكفّي يديه ككلاّب متين لتقليص حجمها ويقذف بها مكوّرة في الكيس الأسود، ثمّ يرفع الحمل كلّه إلى ظهره، ويواصل سيره بحثا عن المزيد.
قبل أن يبلغ محطّة شال المشيّدة حديثا، انحاز إلى جهة اليسار، مبتعدا عن المحطّة وهو يتظاهر بالتفرّج على طيور الفلامينغو الورديّة وأسراب البطّ والغرنوق تسبح بالقرب من منفذ لمياه الصرف الصحّي وتقتات من النفايات المنزليّة.
قال متفكّرا: “من أجل هذه النفايات في المنطقة الرطبة تجيء الطيور من عمق القارات لتعشّش هنا وتتكاثر، ومن أجلها يأتيها “سطوفة” من ظلمة الأحياء ليوفّر ما يجابه به المصاريف اليوميّة لأسرته. فيا ترى ما نوع النفايات التي يحرق إليها أنداده في البلدان الغربيّة؟ ولأيّ سبب؟”
لم يكن “مصطفىى حليلة” متقدّما في السنّ كأغلب “البرباشة” الناشطين في جمع العلب البلاستيكيّة الفارغة، فقد كان ذا قوّة وفتوّة، في عقده الثالث من عمره، مارس في صغره مهن شتّى، كان آخرها العمل، لسنوات طويلة، بمعمل الكابل وصناعة ملحقات السيّارات المنتصب على الطريق الموازية الرابطة بين سيدي حسين وفوشانة، خلف محطّة شال مباشرة.
أكثر من عشر سنوات قضّاها عاملا هناك قبل أن يتمّ الاستغناء عن خدماته بسبب جائحة كورونا، فلا يمكن لأيّ مؤسّسة صناعيّة مصدّرة أن تستمرّ في توفير أجور عمّالها تحت وطأة قرارات الحجر الصحّي الشامل التي تفرض عليها الغلق لأسابيع متكررة.
كان زملاؤه في العمل يلقّبونه بـ”سطوفة الباهي” لوسامته ورفعة أخلاقه، حتّى زوجته “مفيدة”، التي تعرّف عليها هناك في المعمل، كانت تناديه بهذا اللقب. كانا قد تآلفا فحملها، بعد أشهر قليلة، زوجة إلى بيت مكترى، في أفقر حيّ سكني على ساحل البحيرة المغلقة الذي ارتفع فيها منسوب الترسبات فلم تعد قادرة على استيعاب أمطار الفيضانات، فعادت المياه مرتدّة لتغمر الأحياء كلّ شتاء، وتلوّث محيط المنزل الذي أثّثته “مفيدة” بالكمبيالات.
تشبه هذه الطريق الصراط، إذا عبره “سطوفة” إلى ما بعد مجمّعات الخردة وأطنان هياكل السيّارات وبقايا الأجهزة المنزليّة الصدئة، ابتعد عن الروائح الكريهة وأسراب الذباب والبعوض، وإذا ما قلّب نظره على الصراط وجده يفصل ما بين مظاهر العمران والبداوة. فإذا صرف بصره تلقاء اليمين شاهد بقايا عمليات البناء والردم تقرض الهكتارات المتبقّية من مساحة ملاذ الطيور الآمن وتتوسّع الأحياء السكنيّة على حسابها، وإذا صرف بصره ناحية الشمال رأى حوضا مائيا بديعا وجزرا صغيرة متناثرة ومساحات عشبيّة كأنّها بادية قد حطّت عليها، يوما ما، مضارب البدو، خيام من الأسمال البالية، وأقيمت عليها مواقد نيرانهم.
قبل أيّام، كان “سطوفة” يرى إبلهم ومواشيهم ترعى هناك قرب المراح. والقوم على جانب الطريق معصوبيّ الرؤوس يقفون، كفزّاعة الطيور، رافعين أيديهم بحليب الإبل والأغنام للمارّة، وها هم قد انتزعوا أوتاد خيامهم حملوها مكوّمة في الصناديق الخلفيّة لسيّاراتهم الديماكس وارتحلوا إلى أرض محصودة.
بعد أن تجاوز مركز الحراسة لإدارة الغابات المواجه لمفترق طرق دائري، نزل “سطوفة” إلى ضفّة السبخة مبتعدا عن الطريق، فبدت لعينيه مبرك الجمال، وآثار الأوتاد التي كانت في ما مضى تشدّ الخيام وتثبّت ركائزها، وشاهد رماد قدورهم تفيض على الأثافي. انحنى “سطوفة” على المناصب الحجرية الثلاث وأزاح عن جانبها قطع الأغصان اليابسة التي غطّى بها عربة الأطفال الخفيفة بعد أن طواها لإخفائها عن الأنظار، أخرجها وأعادها واقفة على عجلاتها، ثمّ جرّها إلى الطريق، ومشى منهكا يدفع العربة الصغيرة أمامه رغم أنّه ما يزال في بداية يومه وأمامه مسافة طويلة ليقطعها.
كانت العربة وسيلته في حمل أثقل ما يمكن جمعه، كان يتركها قريبا من هنا، ثمّ يعود إليها بالحمل الذي على ظهره ليضع الكيس على مقعدها كأنّه طفل صغير نائم، وفي المساء، بعد أن يبيع محصوله إلى نقطة التجميع في شارع البيئة بالزهور الرابع، يعيدها إلى مستودعها الخفيّ، وينحدر خفيفا إلى بيته، سعيدا بالمردود المالي اليومي الذي كسبه.
كانت أجرته الشهرية تعادل أو تفوق ما كان يكسبه في معمل الكابل قبل أن يتخفف المصنع منه. ليس فقط لأنّ نقطة التجميع التي يبيعها “سطوفة” حصاد يومه، سخيّة جدّا معه، إذ تقدّم له سعرا تفاضليا أعلى من الثمن الذي حدّدته الوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات للكيلوغرام الواحد، بل أيضا بفضل حمّالة “الرزن” هذه التي عثر عليها ذات يوم في مصبّ للنفايات مع أشياء أخرى جديدة لم يتوقّع من أيّ عاقل أن يرمي بمثلها في المهملات.
يومها وجد مع العربة أثاث غرفة نوم كاملة، سريرا مزدوجا من خشب الزان الأحمر مفكّك الهيكل، إلى جانب عدّة أشياء أخرى، فراش طبّي ووسادتين وأغطية فراش مطرّزة وعدد كبير من أغطية مخدّات من القماش المطرّز، وملابس نسوية ومصابيح إلكترونية ولوحات تشكيلية في أطرها، وصندوق مجوهرات، بالإضافة إلى مثلث تحذير ما يزال في قرطاسه، وقطع غيار سيّارة صالحة للاستعمال وكتب فيزياء وغيرها. ولأنّ الوضع الصحّي كان آنذاك استثنائيا، يعيش فيها البلد حالة من الرعب بسبب جائحة الوباء في موجتها الأولى، رغم أنّ الإصابات كانت وقتها قليلة تعدّ بالأصابع، والتخاطب مع النّاس يتمّ من وراء حجب، و أحيانا بواسطة الروبوت، فقد خمّن “سطوفة” أنّ صاحب هذه الأشياء هو أولى ضحايا الفيروس القاتل، عجّل أعوان الفرق الصحّيّة بالتخلّص من جثّتها بوضعها في كيس بلاستيكي ورميها في حفرة دون وداع، وعجّل أهلها بالتخلّص من أدباشها الملوّثة بأنفاسها لتجنّب انتقال العدوى.
ارتجفت يداه وهو يتذكّر كيف قلّب تلك الأشياء الموبوءة دون خوف، وضع ذات الأحجام الصغيرة في سلّة تخزين العربة تحت المقعد، وراكم بعضها فوق بعض على المقعد، ولمّا كان على وشك أن يتحرّك من مكانه ويدفع العربة إلى الطريق، توقفّت بجانبه شاحنة ثقيلة وسأله سائقها إن كان لا يرغب في الحشيّة، فهو يحتاجها عندما يجبر على التوقّف لاستراحة تمنع عليه النوم على مقود القيادة. أشار له “سطوفة” بأخذها وابتعد.
دفن الغنيمة في إحدى زوايا البيت قبل قدوم زوجته من المعمل، لم يستخرجها إلاّ بعد مرور ساعات ظنّها مدّة كافية للقضاء على الفيروس دون تعقيم، ولم يخبر “مفيدة” عن مصدرها إلاّ تلميحا، قال: “في زمن قبيل الكورونا، كانت ممتلكات الميّت، باستثناء الملابس، تغري القريب وتصنع الضغائن، اليوم، نفثة الخوف من المجهول جعلت الأسر تفرّط في إرثها للمهمشين.”، ولم يزد، ولم تعقّب على ما قاله، ربّما لأنّها لم تسمعه. كانت منشغلة بتقليب قشرة مخدّة في يدها، وكانت أصابعه المدرّبة تخرق العربة لتذهب عنها الأطماع، قطع حزام أمانها المبطّن الذي يثبّت الطفل ويمنعه من الانزلاق، وأتلف مظلّتها الواقية. أحزنه أن يفعل ذلك ولكن لكل غرض صورة خاصة تلائمه.