خرخرة، صفير في الصدر، سعال شعرت وكأنها اكتشفت السر في ضيق الناس في هذه الحياة وسعة صدورهم نقطة ضعفهم تكمن في أحبائهم، فالدنيا لن تتسع وتشرق في عيونهم ما لم يكن من يحبون قريبين منهم. الحبيب هو العمود الذي يثبتهم على هذا الكوكب، وعندما يرحل، ماذا يحدث لهم؟ تفقد جاذبية الأرض توازنها. تغيب اليد والعمود الذي كان يمسكهم بالحياة. تصبح المدينة مظلمة في أعينهم، ويشعرون بالضياع، ويفقدون بوصلة وجهتهم، فلا يصلون إلى أي مكان…
تناولت قدحا من الماء، أرادت أن تشربه، لكنها لم تستطع بلعه، فصارت نافورتين من أنفها وفمها أزعجها الأزيز في صدرها، كأنه صوت شخص آخر يتحدث داخلها، مما آلمها. تذكرت النساء الحوامل وتساءلت في نفسها: هل يشعرن بصوت الجنين وهو يتحدث داخلهن؟ بكت. أرادت أن تتحدث، لكن صوتها أصبح كأنه عدو لها. صار سعالها حادا: كح كح كح. رن هاتفها، كانت رسالة من جارتها تطمئن على صحتها…
كتبت لها أنها لم تعد تتحمل الألم، وتريد الذهاب إلى أقرب مستشفى. “دقيقتان فقط وأنا بسيارتي على باب منزلك. هيا، أخرجي. أنا هنا، شعرت بك، لهذا أقلقني الليل الحالِك.”
لحسن حظها، كان المستشفى قريبًا من منزلها. في غرفة الانتظار، لم يكن هناك سوى امرأة واحدة وهي. نادت الممرضة: “سارة مرجاني، هذا اسمي.” ذهبت إلى غرفة قياس الحرارة والضغط، وهي تتعثر في خطواتها، تمشي بصعوبة، ويدها على صدرها والأخرى على فمها تغطيه بمنديل، ورائحة المستشفى تزيد من تعبها.
قالت الممرضة: “حرارتك مرتفعة جدًا، إلى الطبيبة بسرعة.” عندما دخلت على الطبيبة، آلمني حالها، فقد كشفت لي أنها كانت مريضة لأسبوع كامل. تساءلت لماذا لا يُعطى الأطباء إجازة أطول، فهم بشر أيضًا ويعانون مما يرون.
سألتني: “متزوجة؟” فأجبت: “لا، لست متزوجة.” فقالت بلهجتها المصرية: “آه.” لم أفهم ما عَلاقة الزواج بالمرض.
“اشرح لي، يا بنتي، ماذا بك بالضبط؟”
“سعال، خرخرة في صدري.”
“و بلغم؟”
“لا، ما فيه بلغم.”
“من متى؟”
“يومين. كان بالبداية في حلقي.”
“آه، هو كذا يكون بالبداية في حلقك ثم ينتقل إلى صدرك. التهاب الشعب الهوائية هو مرضك. تحتاجين بخار وأدوية، وبعدها ستعود صحتك مثل الفل. لا شيء شديد الْخَطَر.”
“دكتورة، لا أريد بخار، يتعبني.”
“بخارنا غير، يا بنتي.”
“لا، لا أريد.”
“أنتِ فقيرة؟ حالتك صعبة؟ ما عندك فلوس؟”
“لا، يا دكتورة، الخير كثير، بس ما أحب البخار.”
“بكتب لك مضاد لمدة ثلاثة أيام. موافقة؟”
“موافقة.”
كل يوم لمدة ثلاثة أيام، كنت أذهب إلى المستشفى لأخذ إبرة المضاد، وللأسف لم أتحسن. تدهورت حالتي، حتى أنني لم أشعر بوجودي في الحياة. قالوا لي إنني كنت في غيبوبة، وأن الطبيبة المريضة أخطأت في تشخيصي. احتجت إلى تبرع بالدم، وكانت فصيلة دمي نادرة. كتب أهلي إعلانًا وأرسلنه في مجموعات الواتساب: “نداء عاجل لمن يحمل فصيلة دم بي موجب.”
استغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى حصلت على تبرع يكفي لعودة رمق الحياة لي شكليًا، دون أن أصحو من تلك الغيبوبة. في أثناء ذلك، قبضت الشرطة على الدكتورة تحت التحقيق في ملابسات القضية. لم تعاقب وحدها، بل مديرة المستشفى أيضًا، لأنها لم تسمح لها بإجازة طويلة حتى تشفى تمامًا.
قالوا لي إنني عدت للحياة بعد شهر كامل. لا أعرف إن كان كل من كان في غيبوبة يستيقظ منها عند شروق الشمس. فتحت عيني، والتقت عيني بشروق الشمس وضوءه السخي وأشعته الدافئة. نظرت حولي، وعرفت أنني في المستشفى، وعادت ذاكرتي إلى تلك اللحظة التي أخذتني فيها جارتي إلى المستشفى، وابتسمت. لكنني لم أكن أعلم أنني هنا منذ شهر كامل. استضافتني هذه الجدران وصبرت على وجعي وأنيني. أشكرها حقًا. أشكر هذه المستشفيات التي تحتضن مرضاها، وأطبائها، وممرضاتها، وكل العاملين فيها. إنهم حقًا هِبَّة ثمينة يعملون ليل نهار من أجل خير الإنسانية، ولرسم ابتسامة ثانية بعد أن ذبلت الشفاه من الوهن والضعف والمرض.