أصدر الكاتب السوري « ميخائيل الصقال » (1852-1937م) ، عام 1907م ، روايته «لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر» ، في القاهرةِ.¹
يمر فعل السرد في الرواية بمرحلتين متناقضتين :
أولا : السرد.
ليس لمستوى السرد حضور قويّ ، غير أنه استعمل كمنطلق لمسار الحلم الذي يمثل النواةَ.فكان استهلاليا فحسب ، اقتصر توظيفه في البداية ( الفصل الثالث) لأجل تحديد الزمان (السادس عشر من شهر آب سنة إحدى وتسعمائة وألف) ، والمكان (الدار) ، و الحدث (فعاينتُ والدي مقبلاً عليَّ).²
السرد الاستهلالي الموظَّف يقوم به سارد مؤقت ، يموضِع القارئَ / المتلقيَ ضمن السياق العامّ من خلال استحضار معطياتِه (الزمان/ المكان / الحدث).ثم يتوارى من بعدُ.
لمّا يأت هذا الشكل السردي لوحده فقطّ ، بل تبعه سرد داخليٌّ غيره ، يقف عند حدّ مخاطبه الأوحد ، ولا يتخطاه لأحد سواه.والقائم به – كالأول – مؤقت ، أيضاً.
إذن ، فلنا شكلان متضادان من فعل السرد : خارجي (استهلالي) مساحة التلقي من خلاله تكون واسعةً ، و داخلي محدَّد المخاطَب ، من قبيل :«لما فاظت نفسي حملتها مركبة برقية فمرت بها مرور البرق تقصد السماءَ الثالثة حتى وصلتْ إلى مدينة القضاةِ».³
باستعمال هذا النمط (السرد المؤقت) ، ففعل السرد يشذ عن المألوف ، أي السرد المتواصل الملازم ، الذي تتوالى به الأحداث ، حدثاً تلو آخر.
كما ترتبت الوحدة عن هذا النمَط في ثلاثة عناصر رئيسة ، أولها : الحدث. وثانيها : الزمان.وثالثها : المكان.بمعنى أن مجيء أزمنة أو أمكنة أو أحداث ذات أهمية كبيرة لايحصل إلا مرة واحدة. وما دونها إنما هو عضوي ، لايحمل قيمة كبيرة.لذلك ، كان القول أن كل مكون من المكونات الثلاثة يتصف بالوحدة.
وكذلك ، انحصر مكون الشخصية الرئيسة في شخصيتي الوالد والابن اللتين تختصّان بمجموعة من الخصائص نجمِّعها فيما يأتي :
1.الابن :
– سارد مؤقت أول.
– اهتم بإيراد السياق (سارد خارجي).
– دونما تسمية.
– مخاطب.
2.الوالد :
– سارد مؤقت ثان.
– سارد داخلي.
– دونما تسمية.
– اهتم بذكر وقائع ما بعد الموت ؛ وفاء لوعده لابنه بأن يعلمه كل ما رأى وعلِم ، بعد الرحيل.
هناك اختلاف – على مستوى أهمية الشخصية – بين السرد الخارجي والداخلي ، فالأول تتواجد ضمنه الشخصيتان الرئيستان(الوالد ، والابن) في موقع مركزي ، وليس المجال مفتوحاً للشخصية الثانوية والعابرة.وعلى النقيض ، تظهر ضمن مجال السارد الداخلي شخصيات ثانوية من قبيل ( القضاة ، القاضي الأكبر ، الجالس في الوسَط).⁴
ثانيا : اللاسرد.
بتوقف العملية السردية ، تظهر وظائف جديدة للشخصيتين الأساسيتين ، وظائف خِطابية صرفة.وهي : (المتكلم البارز /الواصف / المحاوِر) وكلها ل(الوالد) ، ثمّ (المحاور/ المخاطَب) اللتين يؤديهما(الابن).
تأخذ شخصيّة(الوالد) حيزا كبيرا جدّا باعتبارها متكلما بارزاً ، ذا حضور قوي ، يقوم بدورين مختلفين : الواصف ، والمحاور.
إن أكثر هاتين الوظيفتين وجوداً هي (الواصف).أما( المحاور) فقليلة الحضور.ذلك أنّ وفاء( الوالد) الراحل بوعده لابنه اقتضى مساحة وصفية خِطابية واسعة.
إن كانت الشخصيتان الرئيستان اتخذتا لنفسيهما وظائفَ أخرى ، فإنّ مجال «اللاسرد» ظهرت فيه أيضا «اللاشخصية» أي الأسماء المجرّدة ، الخارجة عن نطاق التأثير باحتفاظها بموقعها الهامشيّ كجزء من المجال الوصفي.مثل : (الشعراء/الأطباء/المريض/القضاة/الحسناء).
وظيفة (الواصف) تتأسّس على الخيال والمقارنة ، موازية المخاطَب الأوحد (الابن).ولكل منهما سِمات متفردة ، نورِدها في تقسيمنا الآتي :
1-الخيال :
-إيلاء «عالم الزهرة» أهمية كبرى.
-الكمال والمثالية ، فساكنة «الزهرة» (فَلَك الخيال) جملة من رفيعي القدر ، لا يشذون عن الصواب ، هم المثل الأعلى والأكمل في شؤون الحياة جميعها.
-التعدد المجالي (الدين ، المجتمع ، الثقافة…).
2-المقارنة :
-ثبات الحقيقة (الزهرة مقام الأبرار الصالحين ، والأرض سجن العاصين) ، إذ لا يبرح
الأرضيون أحوال النقص والانحطاط والشقاء – خصوصا – في المستوى الديني.
-اعتماد الخيال كشفاً لنقائص الأرضيينَ ومكانتهم المبتذلة.
أما الوظيفة الثانية (المحاور) فتحضر ، وكما قلنا سلفا ، في حيّز ضيق بموازاة المحاور المُقابل (الابن).مثلا :«وقلت لوالدي : يقول بعضهم أنّ الأديان قوانين وضعها العاقلون غير مقرّين بالأنبياء والرسُل.فقال : لو تأمل الإنسان حكمة كل نبي ورسول التي تفوق مدارك قومه ، وإذا دقّق في تعاليمها السامية وغايتها الشريفة منها وما يصدر عنها من الفوائد العائدة على الإنسان بالخير والراحة ، ونظر في معانيها التي هي أرقى وأعلى من معاني قومه بكثير مع أنه منهم…».⁵
من خلال العملية الوصفية-المقارِنة ، يبدو التضاد الحاصِل بين الثنائية المكانية (الزهرة والأرض) في وحدتين دلاليتين مركزيتين متناقضتين ، نستفيض في عرض معطياتهما ما أمكنت الاستفاضة. وهما :
1-وحدة المثالية والكمال :
-الزهرة موطن العابدين الصالحين ؛
-الزهرة جزاء الصلاح والتقوى ؛
-انعدام الكتب الدينية ؛
-اللغة واحدة ؛
-غياب المنتديات والعذرات (أماكن القهوة) ؛
-اكتراث الرجل بأسرته وقت فراغه ؛
-تحاشي الاختلاط ؛
-العلم والفن ، والمعرفة مقاييس لانتقاء الزوجة ؛
-التساوي في اللباس بين الأغنياء والفقراء ، في كل عرس أو وليمة ؛
-غياب التمويه والطلاء ، والخِضاب ؛
-الاكتفاء بسد الحاجة من اللباس ، و المأكل ، و المشرب ؛ اتقاء لضرر الإفراط ؛
-إجادة التعامل مع الطفل في كل صغيرة وكبيرة ؛
-يُسر اللغة والعلوم ، وقلتهما ؛
-المدرسة محلّ المنفعة العظيمة للتلميذ ؛
-القضاة أكفاء ؛
-ردّ الحقوق ؛
-المحامون شرفاء أكفاء.
2-وحدة التردي والنقص :
-الأرض موطن العصاة والضلّال ؛
-الأرض عقوبة العصيان ؛
-مؤلفات دينية ضخمة تفضي إلى تفرق الآراء ، وحدوث الاختلاف ؛
-لغات متعددات تسبّب البغضاء بين الناس ؛
-انشغال الرجل بالمنتديات والعذرات عن أولاده ، وأشغاله ، ومصالحه ؛
-ترك الأسرة ، والذهاب للمنتديات والملاهي ؛
-كثرة الاختلاط المفسد ؛
-الثروة و مكانة الأسرة معياران لاختيار الزوجة ؛
-التفاوت في اللباس بين الأغنياء والفقراء ؛
-وجود التمويه والطلاء والخضاب ؛
-الإفراط في المأكل والمشرب ، واللباس ما يعود بالضَرَر ؛
-غياب العِناية اللازمة بالطفل ؛
-صعوبة اللغة والعلوم ، وكثرتهما ؛
-المدرسة إفساد أخلاقي للتلميذ ؛
-القضاة غير أكفاء ؛
-إضاعة الحقوق ؛
-المحامون أنذال.
______________
-¹لطائف السمر في سكان الزهرة والقمَر ، ميخائيل الصقّال ، كتاب الدوحة ، يناير 2013 ، ص 7 ، 8 ، 19 ، بتصرف.
-²م.ن ، ص 29.
-³م.ن ، ص 29 .
-⁴م.ن ، ص 30.
-⁵م.ن ، ص 180.