الصَّديق العزيز د.سيد شعبان أستاذٌ جامِعيّ وأديبٌ، مالَ إلى الأدبِ حتَّى استولَى عليه. غزيرُ الإنتاج، مُجَوِّدُه.
جَمَعَتْ بيننا صداقةٌ افتراضيَّةٌ متينة، وانعقدَتْ بيني وبينه المَحَبَّةُ في الله، وشَغَلَتْنا هُمُومُ الأدب والثَّقافة.
كان صديقي – كعادةِ كثيرٍ مِنَ الأساتذة – مسكونًا بِوَهْمِ ما يُسَمِّيه «الآباءَ المؤسِّسِين»! – يَعني بهذه العِبارةِ نَفَرًا مِنْ أساتذتِه في الكُلِّيَّةِ التي تَخَرَّجَ فيها – وكُنْتُ أرفضُ هذه العِبارةَ وأُشَدِّدُ عليها النَّكيرَ؛ فأساتذتُه، الذين كَتَبْتُ عنهم كثيرًا، ليسوا إلَّا مُقَلِّدين ومترجمين وناقلين! ولا يَجُوز، متى احترمْنا عُقُولَنا، تَسْمِيَتُهُمْ «مؤسِّسين»!
أَحْسَنَ الدُّكتور سيِّد شعبان الظَّنَّ بِي، وجَعَلَ يَذْكُرُني، كثيرًا، في منشوراتِه، ويَخْلَعُ عَلَيَّ مِنَ الصِّفاتِ أنبلَها وأجملَها.
لمْ يُعْجِبْ نَفَرًا مِنَ الطَّغَامِ كلامُه في شخصٍ فَنَّدَ بالعِلْمِ والمنهجِ أوهامًا شاعَتْ عُقُودًا، دُون أن يتنبَّهَ لها مَنْ عَطَّلُوا عُقُولَهم وتَحَوَّلوا إلى «مَجاذِيبَ» و»دراويشَ» لِمَن يَدْعُونَهُمْ «آباءً مؤسِّسين»، في ضَرْبٍ غريبٍ على ثقافتِنا التي تُعْلِي قِيمةَ العَقْل، ومِنْ أَظْهَرِ عُلُومِها «عِلْمُ الرِّجال»، و»عِلْمُ الجَرْحِ والتَّعديل» = وفي أسلوبٍ يُبايِنُ مَناهجَ أهلِ العِلْم، يُشْبِهُ أن يَكُونَ بقايا ثقافةٍ تقومُ على «عِبادةِ الأسلاف»!
حاوَلَتْ فِئةٌ مِنْ أولئك الطَّغَام مُناظَرَتي، وما أَشَدَّ فَرَحي بالمُناظَرةِ! لكنَّ أولئك الطَّغامَ انكسروا، لأمرٍ يسيرٍ، هو أنَّني – بفضلِ الله – تَسَلَّحْتُ بأخلاقِ طالبِ العِلْمِ، وأَقَمْتُ كلامي على الحُجَّةِ والبُرهان، أمَّا هُمْ فتَعَرَّوْا إلَّا مِنَ الجَهْلِ والتَّعالُمِ ورِقَّةِ الثَّقافةِ وسُوءِ الأدب، فلمَّا افتضحُوا، وعَرَفَ أهلُ العِلْمِ مِقدارَ ما هُمْ فيه مِنْ مَذَلَّةِ الجَهْلِ = لجأوا، لخَيْبَتِهِمْ وحِطَّتِهِمْ، إلى ما أَدْعُوهُ «عَنْطَزَةً» هي حِيلةُ مَنْ فاتَهُ قِطارُ الزَّمان، ولا يزالُ يسبحُ في خيالاتِهِ المريضةِ!
وما كان أولئك الطَّغام شيئًا، وإنْ عَلَتْ أصواتُهُمْ، ويأبَى الله إلَّا أن يَفْضَحَ جَهْلَهُمْ، وحينئذٍ جَعَلَ بعضُهُمْ يستعطِفُني ويَرْجُوني، وقدْ كان، مِنْ قَبْلُ، نَمِرًا، ولكنْ مِنْ وَرَق، وظَنَّ أنَّ ما اعتادُوه مِنَ الصُّرَاخِ والهَدْرِ بقادِرٍ على أن يُسْكِتَ أهلَ العِلْمِ وطُلَّابَه، آلآنَ، أيُّها المغرورُ، وقدْ لَبِسْتَ لي جِلْدَ النَّمِرِ مِنْ قَبْلُ!
لنْ أتحدَّثَ عنْ مَرَضِ أولئك الطَّغَام، ومَبْلَغِ ما هُمْ فيه مِنْ عُنْصُرِيَّةٍ فاحَ عَفَنُها وأَزْكَمَ الأُنُوف!
ولكنَّني سأتحدَّثُ عنْ صديقي الدُّكتور سيِّد شعبان ذِي القلبِ الطَّاهر، الأديبِ، الكاتِب، الفنَّان!
فقدْ تَعَاهَدَ أولئك الصِّغارُ على النَّيْلِ مِنْه، والائتمارِ به، وتثبيطِ هِمَّتِه، وما لا أدريهِ مِنْ أساليبِهِم الرَّخيصة، لا لشيءٍ! إلَّا لأنَّ هذا الأديبَ الكبيرَ كان شاهِدَ صِدْقٍ على جَهْلِهِم وتَفَاهَتِهِمْ، وأنَّه نَزَلَ، يومَ قرأَ ما كَتَبْتُه في تبديد الأوهام = على شَرْطِ العقل والمنهج، وحادَ عنْ «عِبادة الأسلاف»، وعَرَفَ الحَقَّ فَلَزِمَه!
وأخيرًا…
أقولُ لك أيُّها الصَّديقُ: لا تبتئسْ، ولا تَحْفِلْ بأولئك الصِّغارِ، وامْضِ في طريقِ إبداعِك، ودَعْهُمْ في رَدْغَةِ الجَهْلِ يتخبَّطون، ورَدِّدْ معي قولَ الأوَّل:
وَلَوْ أَنِّي بُلِيتُ بِهَاشِمِيٍّ
خُؤُولَتُهُ بَنُو عَبْدِ المَدَانِ
لَهَانَ عَلَيَّ ما أَلْقَى ولَكِنْ
تَعَالَوْا فانْظُرُوا بِمَنِ ابْتَلَانِي!
جُدَّة في ٨ رجب ١٤٤٤هـ