فكرة جديدة, قصيدة في شكل مونودرامي, كتبها الشاعر محمد الخضري, وتم تمثيلها على مسرح نادي السلام في مدينة العاشر من رمضان, في أكتوبر 2022, لا زلتُ أتخيل هذا الأب, والد الشهيد, الرجل البسيط, وهو يقفُ مُلتاعا, أمام جثة ولده, الذي جاء من جبهة القتال توا, يصطحبه بعض الجنود, المنظر الذي اعتدنا عليه منذ عقود طويلة, منذ بادية الحرب مع الإسرائيليين حتى الحرب مع الإرهابيين, لوعة الأب لفقد فلذة كبده, وموته بعيدا عنه, لكن ما سيطر على المشهد المونودرامي, والذي لم يكن معهودا, ربما الفكرة تكمن في ضمير كل أب, جاء ولده ميتا من جبهة القتال, دون أن يصرح بها, بل دائما كان الراسخ في أذهان الناس؛ أن القادم بطل صال وجال في أرض المعركة, لذلك فدائما يصفونه بالبطل, أما الموقف الفني الذي اخترعه الشاعر محمد الخضري؛ هو الضمير الجمعي الذي تتفق عليه الأمة, بضرورة البسالة في قتال العدو, الغريب هنا هو مراهنة الوالد, على رجولة وشجاعة ولده, أو فقدانه لهما, وتجلى هذا في سؤاله المتكرر, وإلحاحه فيه, على الجنود, أن يخبروه, عن أحوال ابنه في أعمال القتال, هل كان شجاعا أم جبانا, مقداما أم متراجع, لم يسأله كيف سقط, وهل تم إسعافه فورا, أم تركتموه ينزف حتى الموت, مات جوعانا أم عطشانا, كل ما اهتم به هذا الأب المكلوم, والذي لاشك يكتم حزنه, وطغت عاطفته الوطنية على ذلك الجرح الغائر, هي كيفية أداء ولده المقاتل في المعركة.
مونودراما الشاعر محمد الخضري, جسَّد فيها الوطنية في أبهى صورها, رَبَطَ الوطنية بالأبوة, فأداء ولده في المعركة وبطولته من عدمها, يساوي عنده درجة البنوة, البنوة في ضمير الآباء الذين يعيشون بقلوبهم مع أولادهم على جبهة القتال, ومشاعرهم نحوهم, يلح فيها والد الشهيد على زملائه, الذين اصطحبوا جثمانه, لدفنه في مقابر القرية مثلا, أن يصفوا له تصرف ابنه وأدائه في ميدان المعركة, وكـأن الأب في انتظار شهادتهم على أداء ولده في الحرب, هذه الشهادة التي سيقرر بعدها, مكافأة ولده أو معاقبته!, مكافـأته بالقيام بدفنه!!, لكن ماذا لو كانت شهادة الجنود سلبية عن زميلهم الشهيد؟ فأين سيلقي به الأب؟, وماذا سيكون مصير ولده, وهو الشهيد في كل الأحوال, سوف يدفنه أيضا؛ لكن يدفنه وهو غير راضٍ عنه, لأنه لم يقم بواجبه في الحرب كما يجب, تكاسل أو تمارض أو تهرَّب:
( ألاَّ يا ابني اوصف لي حالُه
كان مكانُه ف وسطكم ؟
ولاَّ كان بِيمشِّي حالُه ؟ )
كان مقاتلا معكم رصاصة برصاصة, كان جادا في ميدان الحرب, أم مهرجا يقضي أيامه والسلام؟
( يعني كان واقف معمَّر مدفعُه ؟
مستعد لأي حاجه تمنعُه ؟
ولاَّ كان واقف موطِّي؟
رامي حالُه ع اللي جنبُه
قولِّي يا ابني قبل ما ادفن )
” قبل ما ادفن”؟, وكأنه التحذير الموجه للولد/ الشهيد نفسه, وليس للجنود, فماذا سيكون البديل أيها الأب الوطني؟, أكان رجلا, مقاتلا يعرف دوره في الحرب, يرقد في خندقه في انتظار قوات العدو, أم كان هشًا, يحني رأسه, دِلالة على هروبه وجُبنه, هل كان يتواكل ويعتمد على زملائه, لايتقدم؟, دائما وراء ظهر زميله؟, وليس في المقدمة!, لو كان هذا حاله, فماذا ستفعل بولدك أيها الأب الطيب؟, في كلا الحالتين, إما يدفنه, وإما يدفنه, لكن الفارق سيكون في مشاعره نحوه!
(الرصاصة جت ف قلبُه ؟
يعني كان واقف بصدره ؟
وحش مش همُه اللي قابلُه
ولَّا كان مدي له ضهره ؟
قولِّي يا ابني قبل ما ادفن
ولا يزال الأب يُلح على زملائه, ويراهن, أن يُدلوا بشهادتهم له, لو جاءت الرصاصة في فلبه, معناها أنه كان يتقدم, لا يتأخر, شجاعا, أسدا لا يهمه سلاح العدو, أم كان ” مدي له ضهره ” أي للعدو, وهي كناية على الخوف, والحرص على الحياة, أيها الجندي زميل الشهيد, حاول أن تريح قلب والده, وتقول له الحقيقة عن شجاعة ابنه أم جبنه, هذه الشهادة سيتقرر عليها مصير الولد مع والده.. رغم موته.
شوفته كان رايح عليهم ؟
يعني كان بيطُخ فيهم ؟
يعني موَّت حد فيهم ؟
ولا كان منهم بيجري ؟
قولِّي يا ابني قبل ما ادفن
وكأنه يقول للجندي ” قول لي يا ابني ..وإلا ” وإلا. هذه هو الحل الثاني الذي يتقرر عليه موقف الشهيد, وكأن مجرد الشهادة لا تكفي, هل ابني كان يهجم, ويضرب النار في العدو, وهل قتل منهم أحدا, أم هو مات فطيسا, بدم بارد, دون أن يَقتل قبل أن يُقتل, هل جرى من العدو, أم جرى ناحيتهم, من الممكن أن يجرى هربا من العدو, حيلة وتكتيك ” مُتحرفًا لقتال”, يتفنن في مقاتلة عدوه, وهى أفكار لن يرددها الأب, فهو يلخص مشاعره, يبدو لنا من إصراره, أنه سوف يتركه وينصرف, أو يُعيده مع الجنود, فكما أحضروه يأخذوه, لا يزال يُلح عليهم: كان يتقدم نحو العدو, أم كان يتهرب, يطلق عليهم الرصاص, هل قتل منهم أحد؟ أم كان يجري ليهرب؟
دمه كان نازل بيغلي؟
ولَّا كان بارد مِرَغَّي ؟
فإذا كان دمه يغلي وهو ينزف, فتلك دِلالة على شجاعته وجرأته في الحرب, حرارته الشديدة هي ما دفعته لملاقاة العدو حتى استشهد, فقتله عدوه وهو حاقد عليه.
اللي جابها ف قلب ولدي ..
جابها غِل ؟
ولاَّ جت له وهو مرمي ؟
قولِّي يا ابني قبل ما ادفن
مات وهو ف ايده عِرْضُه ؟
مات مفرَّغ كل طلقَة ..
جات له عُهدة ؟
كان بيحمي بيها ارضُه ؟
مات و ناطق للشهادة ؟
كان سلاحه ف إيده يعني؟
ولَّا ميت مستخبي ؟
قولِّي يا ابني قبل ما ادفن
وربما جاءت له الطلقة وهو يرقد من الشظايا, احتياطات الحرب, طبعا الأمور الفنية هذه لن يُفكر فيها الأب, فهو يأتي بالأمور من الآخر, ولدي كان شجاعا, وحافظ على بندقيته, التي هي بمثابة عِرضه وكرامته, وأفرغ رصاصاته في جنود العدو, دفاعا عن الوطن, وياترى مات وهو ينطق الشهادتين, وكان سلاحه في يده, أم خطفه منه عدوه. يحاول الشاعر التكرار لتأكيد فكرته, فراح يُقلِّب كل مواقف ولده على جميع الجوانب, والفكرة عنده تركزت في الشرط الذي جاء في صورة سؤال استمر مع القصيدة المشهدية, ( قُل لي ياابني قبل ماأدفن), وجواب الشرط المستتر, والمُنتظر كلام الجنود, وبالطبع سوف تشترك الأم مع مشاعر الأب, فالمشاعر الوطنية ليست حكرا على الآباء وحدهم.
قصيدة قولى يابنى هى عبقرية الإبداع الذى قلنا يتكرر نسيج متقن من إندماج الإحساس والإبداع فتكون النتيجة قصيدة نادرة التكرار شكرا للمبدع محمد الخضرى. شكرا للقدير احمد عبدع