جلسنا في الحديقة ننفث دخان سيجارتينا بلذة، كنا نلتفت بين فترة وفترة ناحية البيت الكبير لنتأكد أن لا أحد أكتشف أمرنا.. حين لا نلحظ أية خطوات تتجه صوبنا تجلجل ضحكاتنا، ثم نحاول كتمها بوضع أصابعنا على شفاهنا.
ابتدأنا نحتسي قهوتنا ونراقب الأشكال التي ارتسمت داخل فنجانينا وكأنها حكايات تنتظر أن تسرد.. كلها تهون عن خاتم الخطوبة الذي ظهر بفنجاني بحجم كبير.
كبرنا وكبر أولادنا ولا زلنا نتصرف كمراهقين..كما كنا سابقاً نهرب من والدينا لندخن بمكان قصي.. نهرب الآن من الجميع لندخن خفية عنهم.
رغم تعليمات الأطباء الصارمة لي بالتوقف عن التدخين رفضت التوقف عن التدخين, ربما كنت أجد المتعة بحرق حياتي حتى لا يتبق منها إلا سحابة تتراقص داخل عنق السماء.
” نسرين.. ” هي الحلم الضائع مني .. حبيبتي التي تاهت مني في زحام هذا الكون كانت بقدر ما تعشقني, تكره السيجار الذي لا يفارقني كزوجة أدمنتها حياتي الرتيبة… يبدو أنني ذكرتُ اسمها عالياً ولم يبقى حبيساً في دفاتر ذكرياتي .
تفاجأت بامتقاع وجه صديقي الذي نهض بسرعة غير متوقعة منه حتى كاد يسقط كرسيه على الأرض .. نظراته كانت كئيبة .. شعرته يهم بالاعتذار مني لينصرف لكنني نهضت وربت على كتفه. يبدو أنه فهمني فعاود الجلوس ولم تتوقف التنهيدات التي أصبح يطلقها بغزارة غيث اشتاق للأرض العطشى.
حدثني عن نسرين وعشقها الكبير لي الذي لم تنطفيء جذوته.
شعرت أن الأزهار التفت حول عنقي لتخنقني. نهضت من مقعدي مرة أخرى.. دست على سيجاري بعنف وكأنني أعتصر أنفاسي. تسارعت ضربات قلبي حتى كدت أقع مغشياً علي.. أمسكني صديقي . حاول أن يتصل بطبيبي الخاص لكنني منعته.. وحلقت بي ذاكرتي بعيداً حيث نسرين … أجل أميرة قلبي الفاتنة
بشعرها الحرير الأسود الطويل وعينيها اللوزيتين التي كان طيفي يغرق فيهما بدون أية أمنية للمغادرة . كنا سنتزوج مباشرة بعد تخرجي لكن صدمتي الكبرى كانت حين
هاتفتني والدتها بحزن بالغ لتخبرني عن الحادث المشؤوم.. غادرت جميع المدعوين عدواً لأكون معها وعدت خلفي آخر بسمة فرح..
صدمتي كانت كبيرة بعد شهر حين ناولتني وهي تقبع على سريرها خاتم الخطوبة وأخبرتني أن دفاتر ذكرياتنا قد أغلقت إلى الأبد.. لماذا ؟ لا زلت لا أعلم..
يا الهي , عفوك ريحانة قلبي أصبحت مقعدة. ابتعدت عنها فترة حتى تتأقلم مع وضعها الجديد .
لم أستطع تحمل البعد عنها ..حملت قلبي بين يدي وباقة ورود تحمل كل براعم محبتي لها .. وجدتها في سريرها, تحدق في الفراغ.. رفضت النظر إلي ولم تنتبه أنني أضحيت قطعاً مبعثرة من الزجاج.
جملة وحيدة قالتها لي لتدمي قلبي إلى الأبد: اذهب نادر, ولا تعد هنا مرة أخرى.
ومع هذا عدت وأنا أحمل ما تبقى من كرامة بعد أسبوع لأجد بيتها مهجوراً ..
سافرت مع شقيق صديقي ” نبيل” للعلاج ,, تركتني عرضة للضياع. دعاني زميل لحفل زفافه لألتقي بنادية ألتي ما أن رأتني حتى قررت أن أكون زوجها .. هي غنية للغاية .. مدللة والدها..
عاملتها بخشونة وكنت أتهرب منها كثيرا ,إلى أن جاءتني ذات يوم لمكان عملي تخبرني أنها ضحت بكل أموالها مقابل زواجي بها. تزوجتها ولكن قلبي كان ملكاَ لنسرين ..
توفيت نادية وهي تنجب ابنتنا الوحيدة ” خلود” .. لا أنكر حزنت عليها ولكن
كانت ” نسرين ” تتماثل أمامي بكل جمالها الصارخ..
نظر لي صديقي بخوف وقلق وأخبرني أنه حان الوقت لألتقيها.. بقي ينتظرني وهو يراقب سحائب الدخان تتراقص في الجو كأشباح تبحث عن مسكنها , بينما هرعت إلى بيته لأجدها تجلس في الحديقة تراقب الأشجار . ما أن رأتني حتى قفزت من مكانها وهرعت إلي لترتمي بين ذراعي.. بالبداية حاولت ابعاها عني ولكن سحر الحب جذبني لدائرته الذهبية .. ضممتها وبكينا حتى غسلت دموعنا جراح قلوبنا ..
لم أصدق عيني حبيبتي شفيت تماما..
يا لبرودة هذه الليلة.. ذكرتني بكل العواصف التي مرت بحياتي منذ هجرتني نسرينتي
بسمة كبيرة ارتسمت على شفتيها وهي تنظر في عيني..
أيقظنا من الحلم صوت ابنتي الدافيء.. تأملتها مطولاً .. طبعت قبلة على جبينها ..
ارتدت كنزتها وسارت دون توقف..
أقفلتُ باب الحديقة خلفي وأخرجت سيجارة لأتأملها ملياً ..
السهرة لا تزال ببدايتها لن أتأخر عنها..
رفعتُ ياقة قميصي .. تأملتُ رأسها المنحني..
ناديتها بكل الحب الذي يجتاح جوارحي: حبيبتي, لا تتركيني مجدداً..
وأنقشعت الغيوم..