…الليل حالك هذا المساء أحلك من أي يوم مضى وزمهرير كانون الأول ينفذ إلى العظام…الريح تعوي تصك الآذان فتئن البراغي وتتململ المتارس….
خمس طالبات كنا تلفنا رهبة الموت في تلك الزنزانة البئيسة التي جمعتنا دون موعد ، تم اعتقالنا من أماكن متعددة كل ما يجمعنا ويوحدنا أننا مقدسيات ننتمي لمنزل ثائر…أو لمدينة صرخت من تحت الأنقاض…التهمة لكل معتقل جاهزة في بلدي…
خمس طالبات يترقبن في صمت ورهبة ما ينتظرهن خلف ذاك الباب الحديدي يترقبن تنفيذ حكم الإعدام بشرفهن…
يتم أخذنا تباعا لغرف التحقيق…الهدوء المرعب يحلق في كل مكان…الرهبة تملأ نفس الضحية القادمة….
تلك الطالبة العشرينية ترتجف كعصفور مقيد تتخبط في ذهول وغياب تام عن الوعي، رموها كخرقة بالية على أرض الزنزانة العفن…تحجرت مقلتاها، اجتمعنا نحوها لنسألها عما فعلوه بها…لسانها فارق الحياة وهي تنطق الشهادتين….
لوحة الموت المرسومة أمامنا زادت من مشهد الرهبة والرعب على أرواحنا….
بتنا نتساءل من منا سيأتي عليها الدور!!!
…خارت قواي جلست في مكاني أستند إلى جدار أزداد إلتصاقا به…حتى أوشكت أن أنغرس فيه…أتخيلهم قادمين إلي يفكون رباط جدائلي القرمزي. يرمونني أرضا…يسحقون براعم أنوثتي ، يمزقون ثيابي بأيديهم المسعورة…يزداد شعوري بالغثيان والإقياء ، أسمع صدى خطواتهم ترتد من على جدران الردهة المؤدية إلينا…يزداد الصدى قوة…ويزداد قلبي لهاثا وخفقانا…عيناي مذهولتان مسمرتان على الباب …فجأة أحسست كما لو أن قلبي قد توقف.
….سافرت بي الذكرى جرفتني بعيدا إلى ذلك اليوم عندما كانت طفلة صغيرة عائدة من حلقة تحفيظ القران الكريم…كانت والدتها على الجانب الآخر من الشارع تنتظر عودة صغيرتها ” ميس” …عندها سمع دوي قوي في الأرجاء حيث استهدفت ثلاث طائرات إسرائيلية أطفالا وسط غزة…جن جنون الأم وأخذت تجري هنا وهناك…تصرخ بشكل هستيري تبحث عن صغيرتها بين الأنقاض غير عابئة بما يهددها من موت محقق…وفي لحظة تحولت الأم إلى أشلاء تناثرت عبر الشارع الرئيسي بعدما أصابتها قذيفة العدو…انتفضت ميس من مكانها كمن لدغتها أفعى وهي تراقب ما يحدث وقد تفجرت براكين الغضب بعروقها…وهي تصرخ…أمااااه….أماااه…سأمزقكم إربا إربا أيها الوحوش…سأنتقم منكم أيها الخنازير…
كان الجو باردا ذلك اليوم…الجثث تفترش الشوارع…الدماء والأشلاء في كل مكان…انطلقت صرخاتها البريئة أخذت تركض محاولة الفرار من الإنفجارات والقذائف…صيحات الرعب والهلع تدوي في كل مكان…
وبدأ الموت مؤكدا يزحف نحوها بسرعة رهيبة.
….وبينما الصغيرة تنتظر قدرها المحتوم إذ بسيدة تكاد تكون دون الثلاثين تنتشلها من بين الجثث وتحتويها بين ذراعيها . وبسرعة خاطفة حملتها واحتمت خلف إحدى البنايات المهدمة..أخذت تنظر إليها…تطمئنها بعدما استبد الرعب بكيانها الصغير _ كانت هذه السيدة خالتها ” بيسان” إحدى السواعد الطبية بمستشفى الشفاء بغزة…
لازالت هذه المشاهد تعاود ذاكرتها بين الفينة والأخرى وهي تقف على أنقاض منزل عائلتها الذي دمرته قوات الاحتلال الصهيوني في الحرب الأخيرة على غزة…عبثا تحاول انتشال تفكيرها من دوامة الاحزان…تناهى إلى مسمعها صوت والدتها ” إما النصر وإما الشهادة” كان الخراب يطوق المكان كله…لم تستطع أن تكفكف أدمعها…
فجأة أفقت مذهولة على صفعة أحدهم يصرخ بملء فيه…ميس أحمد هيا…صوته البارد القادم من دهاليز الأرض السابعة يستفزني…وبرودة أعصابه تشعل في أحشائي براكينا وحمما…
مازالت تلك الصرخة التي أطلقتها وأنا خارجة من زنزانتي تصك الآذان …وأنا أمشي أمام الجنود منتصبة القامة مرفوعة الهامة أدعو الله بعام كعام الفيل…اللهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل تجعلهم كعصف مأكول
…كقذيفة تقتحم كل ما تمر به لتحيله حطاما ، هكذا تلقيت نبأ وضعي في زنزانة انفرادية….ويأتي المساء الملغوم بالألغاز كدمعة معلقة بين رموش الدهشة وجفون الحسرات …متعب وجهه ذابلة عيونه مفرغة من المعاني عدا من كلمات أم الشهداء- الحاجة نعيمة- كانت هذه الأخيرة بمثابة أم لنا جميعا…كنا أسرة واحدة قبل أن ترتقي روحها في شموخ وثبات….
هذه الليلة وعلى خلاف كل الليالي التي مرت بي هنا…تلك الزفرات المنبعثة من صدري كغليون مهترئ تلهيني عن الانسجام التام بالمشهد….
كان صوته القادم من غياهب الجحيم يستفزني كي أتمرد…جسدي غرق في الحمى…برحتني رعشة الموت …شبحه المشؤوم لازال يتراقص أمامي وكلماته تتشظى بالقرب من مسمعي…ويداه تضغطان علي يريد كتم أنفاسي : هيا موتي….
الزنزانة الباردة حولي صارت كما التنور اشتعلت لحظة توهج تلك العبارة في أحشائي وبادرته وأنا في قمة الشموخ: هذه الأرض لا تتسع إلا لهويتين…إما نحن…وإما نحن…وعصافير القدس لن تغرد بالعبرية مهما مضى على الاحتلال زمان…
امتدت يده…سحبتني ورمت بي على أرض الزنزانة العفن تاركا إياي غارقة في دمائي…
أيام تمضي…أفترش الحنين…حنين العودة…يزداد الشوق لسجدة بباحة المسجد الأقصى…سنوات تمر…عيناي معلقتان هناك…ورمش العين لا يزف له هطول…لساني يلهج بذكر الله…أنسحب في انتظار يوم جديد…علني أستفيق ذات يوم على موعد مع الحرية….
بعد أكثر من ثلاث سنوات في سجون الاحتلال بتهمة ملفقة شأنها شأن جميع الأسيرات هنا…هاهي ذي الأسيرة ” ميس أحمد” من غزة على موعد مع الحرية الثلاثاء القادم….
وجاء اليوم المنتظر…الله أكبر…الله أكبر…فرحة لا توصف…اصطفت الأسيرات في الردهة المؤدية إلى زنزانتي يكبرن ويزغردن اختلطت الدموع بالتكبيرات….
ابتسمت الشمس من شفتي…واكتحل المساء من عيني…وعبق الجوري من عطري وأنا أنط فرحا لهذه الوفود….وبأعلى صوتي وبمكبر يهزم خنوع الليل ويبشر بفجر جديد…ناديت بملئ في: ” أتظن أنك طمست هويتي ومحوت تاريخي ومعتقداتي؟!! عبثا تحاول…فلا فناء لثائر…أنا كالقيامة ذات يوم آت”
وفلسطين ستبقى قضيتنا…وسيبقى الأقصى قضيتنا….
” اللهم احتضن غزة والقدس وفلسطين بين يديك…اللهم سخر لهم ملائكة من السماء والأرض ومن عليها…اللهم أيدهم بنصركم…واحفظهم بحفظك…وأعنهم ولا تعن عليهم اللهم انت حسبنا ونعم الوكيل”
…دامت الافراح في بيت الخالة ” بيسان” أسبوعا كاملا…وهاهي ذي أيقونتنا” ميس أحمد” تنطلق كشرارة مدوية….
…كانت العصافير ذاك الصباح صامتة شاحبة قد سرق شدوها الرصاص والدخان…الورد والحجر والشجر كان غارقا في الدماء والأشلاء…والدمع قد حفر الاخاديد في كل القلوب…كل شيء صامت كئيب عدا عويل هذه الريح التي تلتهم الخواء…الشمس مازالت تلفح وجه المدينة المحتضر فتتضوع ذاكرتها مسكا….يكتم أنفاس الشارع دخان الحرائق مع كل طلقة كوجه مارد…فتتعالى الصرخات وتبح الاستغاثات…
كانت تعرف الموت ويعرفها…رائحته ما زالت عالقة برباط شعرها القرمزي…حينما هدأ عويل الرصاص وسكن الغول الجائع لبتلات الارواح…أطلقت ميس ساقيها للريح…انطلقت كالرعد المدوي وسط جنود الاحتلال طار فؤادها شوقا إلى الشهادة….
ياحبذا الجنة واقترابها…
طيبة وبارد شرابها…
هذا الصوت وهذا الدفق لا يخطئه مسمعي…ورائحة الدم والعويل تحوم في المكان…رائحة الغاز تنبعث هنا وهناك…والسماء تزغرد تحية للشهيدة…تطايرت الأشلاء في كل الأرجاء….
ثمة يدان بدون جسد أخرجوهما من تحت الركام…كانت يداها تطبقان بشدة على كتاب الله…..