![](https://i0.wp.com/basrayatha.com/wp-content/uploads/2023/02/morroocco.jpg?fit=450%2C225&ssl=1)
وشم من ذاكرة ساحة جامع الفنا
محمد بن محمد (رحمه الله)، هكذا كان يقدم اسمه الحقيقي لبعض المقربين منه . قال البعض بأنه من قبيلة تلوات معقل الباشا لكلاوي، وقال البعض الآخر بأن والده كان فقيها وجنديا شارك في حرب الفيتنام ، والعهدة على الرواة.
في الحلقة لا يحب الحديث عن أسرته، فقط يردد في بعض الأحيان بأنه ابن الهلال الأحمر الدولي.
قدم إلى مدينة مراكش، وقيل بأنه تقلب في مهن كثيرة، لم يستقر في أي منها. وعندما استهوته الحلقة وجذبته إلى الساح ، منحته مراكش لقبا جديدا: طبيب الحشرات. أصبح في فترة وجيزة ممثلا بارعا، جعل من الحلقة بجامع الفنا في بداية السبعينات مدرسة للسخرية. لم يكن في حاجة لأي لقب أو تلفزيون، ليتربع على عرش الساحة. حلقته بدون توقيت رسمي. الحظ وحده قد يمنحك لحظة الاستمتاع بمشاهدته. يمر أحيانا من الساحة بشكل سريع، يرصده الأطفال، ويجرون خلفه، ويستعطفونه. وبمجرد ما يقف لالتقاط أنفاسه، أو لإشعال سيجارة، تكون الحلقة قد اكتملت. ينظر حوله، يبتسم بمكر، ثم يبدأ العرض للتعويض عن حرمان هذا الجمهور من الحق في التمدرس، وللتخفيف عنه من آلام التشرد، والمبيت تحت أي عربة يدوية، أو الانزواء في أي ركن مظلم من أركان الساحة. إنه مثلهم غالبا ما ينام تحت النجوم. ربما يريد أن يسعدهم، ويخفف عنهم شيئا من الألم والمرارة التي يتقاسمها معهم. بعد ذلك ينضم إلى حلقته جمهور قادم من الأحياء العتيقة لمراكش للترويح عن نفسه من تعب يوم قائظ. وهو جمهور يتكون في الغالب من رجال التعليم والطلبة والصناع.
أطلق عليه المراكشيون لقب طبيب الحشرات منذ بداية مشواره الفني، لأنه اشتغل على السخرية من الواقع بلعب دور الطبيب، الذي يسخر من أمراض ذات طابع اجتماعي أكثر منها عضوية.
يفحص المرضى بجهاز راديو، وهو عبارة عن كوع دجاجة ميتة يخرجه من جيبه، ويضعه فوق رأس المريض، ثم يحدد له نوع العلة التي أصابته، ويقدم له الوصفة للعلاج. وأحيانا يضع كوع الدجاج على صدر أحد المتفرجين الذي يتظاهر بأنه يسعل ويكح، ويجذب الطبيب العصب، فتتحرك الأصابع، ويشير للمريض بأن في صدره حذاء رياضيا، فتنفجر الحلقة بالضحك.
أغلب موضوعاته يستقيها من تحويره لنشرات الأخبار، وأبطال الأفلام، وأسماء الرؤساء، ويضيف إليها قصصا ساخرة من خياله الواسع، ويشرك الجمهور في أداء أدوارها على طريقة بريخت. وقد تحولت بعض انتقاداته للواقع السياسي والاجتماعي إلى شعارات، رددتها القوى اليسارية في الكثير من المظاهرات مثل: آش قراونا ، قرد ، بقرة ، برتقال.
وكان حاد الذكاء، يفطن إلى اقتراب موعد انطلاق المظاهرات من وسط الساحة، بمجرد ما ينتبه إلى وجوه الجمهور، فينزل بصره إلى الأسفل، ويرى أغلبهم يرتدي سراويل (الجينز) الزرقاء، والأحذية الرياضية التي تقطع الشك باليقين، فيقدم عرضا أو عرضين، ثم يبتسم ويهرب من الحلقة في اتجاه سوق الجديد، لتناول وجبة طعام، وتدخين القنب الهندي. تلك طريقته في إنهاء العروض.
في أمسيات مراكش الحارة، لا يمكن أن يمر أبناء المدينة القديمة من الساحة، دون أن يبحثوا عن حلقته، ويلقوا عليها نظرة.
أثار انتباهه أحد الواقفين في الحلقة بهندام ينم عن وضع اجتماعي مريح. يرتدي كسوة زرقاء أنيقة، وقميصا أبيض بربطة عنق. ربما توسم فيه، أن يُقدّم له مبلغا من النقود، يتناسب مع مقامه. لكنه لاحظ بأنه كلما همّ بالتمهيد لجمع بعض الريالات، انسحب الزبون إلى الحلقة المجاورة. وقد أحرجه مرة أمام الجمهور قبل أن ينسحب وقال له:
ـ دُر كما شئت بين الأقسام، لقد اقتربت ساعة الامتحان.
حلّت عاصفة رعدية بالساحة، وشرع الجمهور في الانسحاب في الوقت الذي بدأ يجمع فيه النقود، فتوجه إلى السماء شاكيا، وخاطب كائنا خفيا بقوله:
ـ ألم تجد غير هذا الوقت يا صاحب (الباش)* الأزرق لتنزل فيه غضبك علي!
في بعض الأحيان عندما ينتهي من جمع النقود، يتوجه إلى الأطفال الذين يجلسون في حلقته:
ـ وانتم ألا تقدمون لي بعض البقشيش؟
ثم يسخر منهم، ويشبههم بخوابي ضريح سيدي أحمد بن الكامل*. وكانت توضع ببابه خوابي لمن أصابه العطش، وأراد أن يشرب الماء بالمجان.
ينتقد أحيانا وبسخرية، شابا بدويا قوي البنيان، يلبس ساعة يدوية غليظة وكبيرة. مرة يتصور على أنها جهاز تجسس، ومرة أخرى يتخيل ما سيحدث لو انفجرت مثل قنبلة، وهدمت الساحة! وبعدها تتعالى الضحكات داخل الحلقة.
الوقوف في حلقات جامع الفنا يحتاج إلى (قشابة واسعة)*. إذا كنت سريع الانفعال، فلا تدخل أصلا إلى هذه الساحة.
حين يختفي لفترات طويلة، يُشاع بأن الشرطة اعتقلته بسبب اقتحامه لمتجر بيع الدخان بهذا الحي أو ذاك، وسرقة محتوياته من نقود وسجائر. وقد تراه وأنت جالس في مقهى الكتبية معتقلا من طرف ضابط شرطة، يقيده مع عمود الكهرباء في انتظار مرور سيارة الأمن. قضى جل حياته في مراكش بين جامع الفنا والسجن. ربما نقل الحلقة من جامع الفنا إلى السجن، لذلك أحبه السجناء، وتمنوا لو طال مقامه بينهم.
وقف وسط الحلقة في يوم غائم، وهو يتضرع إلى الله أن يسقي عباده، وعندما أضاف بهيمته، ابتسم وأشار إلى الجمهور المحيط به. ثم انفجر الجميع بالضحك.
ألِفَ حمّالٌ بشارب كَثٍّ، يشتغل بجر عربة يدوية، أن يضع يده على شفتيه ، ويُصدر صوتا مستفزا (التقباض) *، يُعلق به ساخرا من العرض. فطلب الجمهور من الطبيب أن يتدخل ويضع حدا لاستفزازه، فخاطبه الطبيب:
ـ أنت ! سقطت في مدرسة الطب سنتين متتاليتين، والآن أنت في السنة الثالثة، وتعرف بأنك سترسب في نهاية الموسم، لماذا لا تغير الشعبة، وتذهب إلى مدرسة الرياضة
وأشار إلى حلقة (أولاد سيدي احماد وموسى)*، ثم أضاف:
ـ أو تختار قسم الجغرافيا ؟
ولمّح إلى حلقة (سات كولور)*. وأردف:
ـ أو تلتحق بمدرسة الفنون الجميلة ؟
والتفت ناحية حلقة (عبيدات الرما)*
حدث مرة أن زار السيد المعطي بوعبيد، رحمه الله ، ساحة جامع الفنا في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وهو وزير أول، فرآه أحد المتفرجين، وأخبر الطبيب بذلك. فطلب هذا الأخير من الجمهور أن يفسح المكان للزائر، وخرج من الحلقة، ومد يده للسلام عليه، وهو يقدمه للمتحلقين حوله بصوته الساخر:
ـ استقبل جلالة الملك بساحة جامع الفنا الوزير الأول السيد المعطي بوعبيد.
فاعترض الجمهور بصوت عال:
ـ ونحن ؟
فابتسم الوزير ، وأضاف الطبيب:
ـ وشخصيات أخرى !؟
فانفجر الوزير الأول بالضحك حتى دمعت عيناه.
ابتكر مرة (سكيتش) حول تعليم الرياضيات فلعب الدورين معا يسأل، ويجيب:
ـ مراد تعاوني في (الماط)* ؟ ياك عندك مع (الماط) ؟
ـ ماذا ينقصك ؟
ـ الآن إذا قسمنا حلوة الكيك على ثلاثة، سنحصل في كل ثلث على 0,333، ولكن إذا ضربنا 0,333 في ثلاثة فسنحصل فقط على 0,999 فأين ذهب 0,001 ؟
ـ ألا تعرف أين ذهب 0,001 يا غبي ؟! إنه بقي عالقا في السكين . أي حاجة تعذر عليك فهمها في الماط مرحبا.
عندما تلعب الخمر برأسه، كان يرمي بجسده في المقابر والزوايا المظلمة في باب الجديد، أو يجد نفسه في مخفر الشرطة. أمكنة ينعتها في حلقته بفنادق أمريكا الفخمة. في آخر أيامه أصبح مدمنا على أسوء أنواع الكحول (لالكول 90 درجة) يخلطه مع اللبن، أو مشروب الكوكاكولا. أما عندما يعود إلى الساحة بعد غياب طويل، فهو يبرر اختفاءه بسفره إلى هولندا، ويقصد بها سجن بولمهارز.
غالبا ما يواظب على الحضور إلى جامع الفنا في شهر رمضان بعد الإفطار. ربما لأنه تخلص من شرب الكحول، ويأمل تحقيق أمنيته في زيارة قبر النبي (ص)
مات الطبيب، بعد أن قضى الفترة الأطول من حياته بين السجن والساحة. رغم حجم الضحك الذي قدمه لجمهوره، فقد مات فقيرا وحزينا ومنسيا.
الهوامش:
ـ سيدي أحمد بالكامل : (ضريح) ومقبرة كانت تقع بين رياض الزيتون القديم والملاح
ـ الباش : نوع من الجلد يغطي سقيفة تحمي أبواب الدكاكين والمقاهي من المطر والشمس
ـ قشابة واسعة : القشابة نوع من اللباس يشبه الجلباب الا انه واسع وبلا قب ، والعبارة كناية عن سعة الصدر أو اتساع الخاطر
ـ التقباض : صوت مذموم في مراكش يحدث عندما يضع شخص يده على شفتيه ويصدر صوتا مستفزا كتعليق ساخر على كلام خصمه.
ـ حلقة أولاد سيدي احماد وموسى : حلقة خاصة بالحركات البهلوانية
ـ حلقة سات كلور. : حلقة الطيمومي
ـ عبيدات الرما : فن راقص من التراث الشعبي المغربي.
ـ الماط : الرياضيات / ياك عندك مع الماط : تعبير عامي يستفهم عن مدى إلمام المخاطب بمادة الرياضيات.
مراكش 21 فبراير 2021
ياما تمتعنا بنكته وهزله في قالب نقدي لأوضاع المجتمع ولمعاناة الفقراء. كنا نعرج على حلقته في ساحة جامع الفناء قبل أن نذهب إلى المدرسة. كل يوم قصة وكل يوم إبداع فكاهي عفوي نحفظه أكثر مانحفظ دروسنا.
سرد غاية في الروعة لهذا الأيقونة الشعبية
” رحمه الله” الذي أمتع الناس ومات فقيرا منسيا.