تقديم عام
تعتبر القصة القصيرة من الأنواع الأدبية الشائقة والمستميلة للكتاب والقراء، وذلك لما للسرد من قدرة على إثارة المشاعر وتصوير المواقف، وتخييل الأحداث مصاحبة بنظرة الكاتب الفلسفية إزاء العالم وما يكتنفه من تصادمات وتقاطعات وصراعات من أجل البقاء والكرامة وصفاء الحياة، فكل ما يخدشها أو يحاول مراوغة من فيها إلا ويستثير القاص كما يستثر الروائي والشاعر وغيرهما من المبدهعين.
فالقصة تحاول أن تطرح أمامنا مواقف تمس جوانب الحياة المختلفة عبر شخوص على عاتقهم تمثيل ما يريد الكاتب إيصاله إلى القارئ من مبادئ ورؤى لها علاقة بشكل مباشر أو غير مباشر بما يجري في الحياة، فقد تكون الوقائع المسرودة من محض الخيال وقد تمس الواقع حين تقترب إليه في جميع مكوناتها، وتسعى في كلا الحالتين إلى بث مبادئ وتجارب تعالجها بغبداعية ترقى بها إلى الفنون السردية الحاملة للفائدة والإمتاع في ذات الوقت.
ولا يفوتنا أن نشير إلى كون القصة أقرب إلى الشعر من حيث التكثيف والنفاذ إلى أعماق النفسي البشرية، فهي تنطلق من النفس لتصل إلى النفس، والقارئ قلما لا يجد بعضا من همومه ومشاغله وأحلامه في النص القصصي وغيره من الأنواع السردية.
فالقاص منشأه مجتمع مليء بالتناقضات المفقدة للتوازن النفسي لهذا أوذاك، أحداث قصصه التي يصطادها حين يرى فيها ما يسعفه عن التعبير العميق الحامل للتوصيف والمستحضر لوجوب التغيير. و”عادة ما يكون القاص مولعا بالحدث وهذا الاخير له تأثير على روحه إذ يشعر غلى الحاجة إلى الإشارة إليه ونقله ولما كان الحدث ذاته هو الخروج عن المألوف فإن القاص لا يريد الابتعاد عنه، فتباعد الشقة قد يعرض تفرد القصة القصيرة للخطر ولا يمكن القول بأن وعيه قد ضاق مثل أصحاب الفكرة التابثة عندما ينحصر الحدث في وحدة موجزة الامر عكس ذلك تماما فهو ـ القاص ـ يريد أن يحكي ازدياد درجة الوعي ـ لذا ينقل موقفا غير عاد. فقد رأى إنسانا انخرط في شوؤن الحياة تحاصره قوى مضادة وأصبح يعيش في صراع مع الآخرين ومع نفسه، وربما كان ذلك مثيرا للسخرية ورغم هذا فهو يعيش في ظروف مأساوية صورتها الفلسفة الوجودية بشكل فيه إشفاق على الإنسان إنها الظروف التي تحتم عليه أن ينطلق من خلال ظروفه بأفكارشخصية تهيء الرغبة في بعض الإمكانيات المتاحة أو رفضها”.1
هذا الانصباب في عمق الطابع الدرامي الذي لا يخلو منه وسط اجتماعي في العالم هو الذي يهب للقصة هذه القدرة الفائقة في التعبير عن أحوالنا ومآلاتنا.
و”يرى القاص والروائي أنيس الرافعي أنّ كتابة القصة القصيرة اختيار نابع من قناعات وجودية وفلسفية وجمالية معينة، ذات ارتباط وطيد برؤية المبدع إلى العالم، وموقفه من المؤسسة، وتصوره للتاريخ، ورغبته في التعبير عن الجماعة البشرية التي ينتمي إليها.
كما يرى أنّ هذا الفن النبيل خسر خلال العقود الأخيرة مساحات شاسعة في أراضي التلقي والاهتمام الإعلامي وإقبال دور النشر، لكنه لم يعدم مخلصين وأوفياء لعقيدته، سواء من الروّاد أم من الأجيال الجديدة، أجادوا فيه وتركوا بصمات شاخصة لا يمكن إنكارها على معماره وتقنياته ومتخيله. لكن المتتبع الحصيف للمشهد القصصي العالمي، سيلمس بأن هذا الجنس الأدبي صاحب يقين مراوغ، وما فتئ يطوّر من أدواته وانفتاحاته التخومية على سجلات تعبيرية مختلفة، فالاطلاع على الأنطولوجيات القصصية التي صدرت خلال السنوات القليلة الماضية في أميركا واليابان وفرنسا وأميركا اللاتينية، يؤكد بأن مفهوم الأزمة، الذي نعيشه في الراهن العربي، لا وجود له في مرجعيات أخرى قصية عنّا”.2
توصيف عام للمجموعة
ـ غلاف المجموعة
غلاف جميل تتوسطه لوحة تشكيلية من إنجاز الفنان سعيد موزون، لوحة حاول فيها الفنان ترجمة العنوان الذي يحمل تساؤلا إلى أنثى عن مدى قدرتها للإشراق غدا.
فاللوحة تحمل أنثى بجناحين تلبس الأحمر وهي تطير في السماء مخترقة الأجواء، وتوحي اللوحة بتحررها بعيدا عن المتاريس والسدود التي تكبلها وتجعلها سجينة أفكار تضيق من حريتها، بجانبها أنثى أخرى تحاول بدورها أن تطير وهي على أهبة ذلك، لتغادرا أرضية يغلب عليها السواد المحيل على الظلام، ظلام مطبق على الأفكار النيرة والعادات النبيلة التي تحترم إنسانية الإنسان.
لوحة بهذه الصيغة لوحة ممتازة ومناسبة لما وضعت له.
واجهة الغلاف الأولى تحمل اسم المؤلفة، بعده العنوان، وجنس النص، أما واجهة الدفة الثانية للغلاف فيحمل خطابا قصيرا مقتطفا من إحدى قصص المجموعة، وهي القصة التي تحمل عنوان “الرقصة الاخيرة” ص19. والنص المقتبس منها تقول فيه ” الأمواج وحدها تبعث فيك الروح ، تحسسك بالولادة الجديدة، اللون الأحمر المتسرب من فستانك الصيفي يلون الماء، يلون قلبك وذاكرتك الثائرة بألوان الحب والتمرد.
ـ لن أكون إلا أنا..
صرخت وأنت تنفضين بقايا الرمال عن جسدك المبلل.” ص25.
ـ عنوان المجموعة “أتراك تشرقين غدا..؟”
جاء العنوان جملة استفهامية ، تحمل سؤالا إلى أنثى عن مدى قدرتها على الإشراق في الغد..وهو بذلك يحمل زمنين، الراهن والآتي، وكأنها تحاول التأشير على ما تعيشه من أوضاع متردية ينبغي أن تتخلص منها مشرقة تنير وتستنير.
العنوان يتقاطع مع الخطاب الذي يحمله ظهر غلاف المؤلف، فهو يحمل استنهاضا، وحلما بالولادة الجديدة للأنثى بذاكرتها الثائرة بألوان الحب والتمرد.
ـ عناوين قصص المجموعة :
تتضمن المجموعة خمس عشرة قصة بعناوين كالآتي : ـ المعطف الأسود ـ كاس واحدة ـ الرقصة الاخيرة ـ هلوسات ـ منتصف النهار ـ لوحة المفاتيح ـ معايدة ـ ماسح الاحذية شجرة العرعار ـ تماثيل ـ اغتراب ـ مخاض ـ الطاولة الأخرى ـ أصوات ـ موناليزا ـ من نافذة القطار .
عناوين يمكن تصنيفها وفق هموم شخصية، وهموم غيرية، علاوة على عوالم الإبداع التي تحيل عليها.
قراءة عابرة لقصص من المجموعة
ـ الفنتازية في قصة ” المعطف الأسود” ص6
في القصة تؤسس الكاتبة عالمها وتبنيه بسعة خيالها المفسح لجولتها التي عاشتها وهي تزاوج بين الواقع الفعلي والواقع الخيالي الذي تنسجه بخيالها وفي كلا الواقعين بطلة تدير أحداث قصتها التي تحمل جزءا من طقوس وعوالم الكتابة، عوالم لا يعرفها سوى المبدعين مع اختلاف بين هذا وذاك.
فالسماء وهي تمطر حروفا شكلت هاجسا للبطلة لتقوم بجولة مليئة بالمفاجئات عبر شوارع المدينة تنتظر وتبحث عن حروف تجودها بها السماء لتتحول عبر الخيال لتقضي وقتا ليس بيالقصير في صراع مع الحروف.وعبر هذا الصراع صنعت الكاتب عالما ديناميا مفعما بالحيوية والحركية لم يخرجها من اعتقادها الجازم بكون الحروف التي طاردتها خلال اليوم حروفا من مطر”اتذكر ما قيل هذا الصباح وابتسم، تنتابني نوبة من الضحك، أتكور على نفسي في وضعيات مختلفة على السرير، الأوراق البيضاء الملونة بالسواد تشكل حولي دوائر ملتوية، تتراقص على البساط الأزرق المبلل بقطرات المطر، لا أصدق عيني، أوراقي البيضاء تتحول إلى زوارق صغيرة…
المطر يتسرب إلى غرفتي، الحروف الهاربة تلتف حولي، تتراقص، تلتصق ببعضها مشكلة مقاطع نورانية،أتراهالوحي؟ أتساءل في أعماقي.
أعود لشرودي وأسئلتي، كيف تسرب المطر إلى غرفتي؟
ويهمس شيء ما بداخلي:”إنها حروف من مطر…” ص9.
ـ السفر عبر الخيال في قصة “كأس واحدة” ص11
“كأس واحدة ستحملك إلى عالم آخر…” عبارة جعلتها الكاتبة شرارة لبناء عالم يضج بالأحداث والتهيؤات لتجعل القارئ يلج معها عالما مليئا بالمفاجآت ويوقد في النفس التشوق لمعرفة مآلات الأحداث في عالم منسجوج يجمع بين ما يجريب في حاضر الشخصية وبين المختزن في ذاكرتها فإذا كانت الحروف المطرية شرارة القصة السابقة ، فالعبارة المشار إليها هي التي ستدخل الشخصية لتنخرط في أحداث تطبعها العجائبية والمفاجآت غير المتصورة قبل مواجهتها، العبارة تلوح في شكل امرأة، العبارة تقود إلى الكأس السحرية، تقود إلى الكأس الكبيرة الذهبية، كأس ستجعل الخيال واسعا يحلق أمام البطلة عالما مليئا بالغرائب غير المتوقعة.” ها أنا في حضرة الكأس الكبيرة والصغيرة…
شربت الكأس الأولى فبدت لي الغرفة رمادية اللون، وبدوت مثل بطل من أبطال العصور الغابرة عائدة من معركة عظيمة، تستقبله حبيبته الجميلة بقبلة شبقية.
شربت الثانية، لم أر العالم الوردي المنتظر، شربت الثالثة فوجدت نفسي أدندن بأغنية قديمة من طفولتي المنسية.
ـ تبا…
كنت أهمس في أعماقي، وأنا اتناول الرابعة والخامسة…
القمر كان مضيئا، يبتسم لي، يلوح بأنامه البيضاء، يدعوني إليه، وأنا هنا أشرب الكأس السابعة والثامنة، صوتي يزداد صخبا وغناء…”ص16.
بهذه الصيغة تجعل الكاتبة عالمها متنوع الأحداث تتوارد عليه خواطرها وكأنها الحقيقة المجزوم بها، وبذلك تصير الكؤوس والمشروب الذي تحتويه مادة سحرية تنقل الشارب من عالم إلى آخر أكثر جذبا وسحرا ومتهة وبهاء.
ـ التمرد على الكائن بحثا عن الممكن في قصة”الرقصة الأخيرة”.
بدأت الكاتبة قصتها مستعملة ضمير المخاطب، تخاطب امرأة مطلقة انسدت أمامها أبواب الحلول فاستبد بها الحنق لا تعرف ما تؤول ولا ما تؤخر، فالكاتبة تجسد أزمتها في عبارات نافذة تستقصي أعماق تلك الأنثى التي انتهى حلمها الوردي سريعا، وهنا تبحث عن نافذة للإغاثة وكأنها شمس أطبقت السحب على وجهها مما يجعلها تتساءل مخاطبة نفسها :أتراك تشرقين غدا؟.
قصة يكتنفها الاضطرار الذي يدفع رجالا ونساء للسقوط في وحل الشعوذة والمساومات المقيتة.
“مرارة الألم تمزق أحشاءك، تتمنين لو أن الأرض تنشق الآن وتبتلعك، تخفين خيبتك من نفسك، من أحلامك المتشطية(…) لا حل أمامك سوى تمزيق الأوراق التائهة بين يديك، والاستمتاع برقصتها الأخيرة على إيقاع الهواء”…ص24، دعوة صريحة إلى التحرر من ربق ووصمة الشعوذة والعادات السلبية التي تفقد الإنسان إنسانيته وتطيح بكرامكته.
نظرة عامة
المجموعة القصصية مجموعة تحمل كثيرا من المفارقات التي يعج بها المجتمع المغربي وغيره من المجتمعات البشرية، وقد حملت الكاتبة شخصيات قصصها مسؤولية البوح والتبليغ لما تعانيه وما يستهويها ويعتلج في أعماقها، وهي بصيغة أو بأخرى ترسم لها الطريق نحو ما تراه لائقا بحياتها عبر التجاوز والوثب نحو مدارج السمو الإنساني المحقق للعيش والتعايش الإنساني المبني على الصدق والصفاء. ويشعر القارئ للمجموعة بذلك التماهي والاسترسال للأحدث بشكل جاذب يجعلك تشارك الكاتبة وتقاسمها المشاكل والمعضلات التي تواجه شخصياتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
1ـ القصة القصيرة النظرية والتقنية، أنريكي أندرسون أنبرت،ترجمة علي إبراهيم علي منوفي،المجلس الأعلى للثقافة2000. ص 32، 33.
2 ــــ “هل ولّى زمن القصة القصيرة في المغرب”، عبد الرحيم الحصار، الأخبار، بتاريخ الخميس23 شباط2017م.