
الساعة الواحدة صباحا…رن جرس الهاتف, كان صوت ابي متعبا يتعثر في أنفاسه مثل صدى جريح تحت الانقاض وتمتم ..
-أمك مضطربة لم يبارحها الالم في كتفها الايسر منذ بضع ساعات وهي الان تتنفس بصعوبة بالغة, كانت كلماته تنفذ في لحمي مثل نثار من الأحجار الساخنة . بصمت ,أغلقتُ سماعة الهاتف وارتديت بسرعة ملابسي ,القميص والبنطال والتمست مفتاح السيارة على عجل , أخذت أعيد ماسمعته من حديث أبي فشعرت كأنني أًصلب بين كلماته المرتعشة، كان بيني وبين بيت ابي بضع كيلومترات من طريق ترابي اسرعت بسيارتي لأصل بعد عشر دقائق.
وجدت أبي يقف مطرقا وصوته لايزال يردد نفس العبارات في التلفون بينما كانت امي مسجاة على فراش أرجواني ووجهها شاحب مثل وجوه الموتى وتسعل سعالا واهنا بين الفينة والأخرى وبدا لون جبينها مثل الثلج مرعبا. لم أتكلم سوى أني حملتها بخفة وأجلستها في المقعد الخلفي وجلس ابني بقربها وانطلقت بسرعة وانا انصت الى انفاسها المضطربة.اعتدلت في جلستي خلف مقود السيارة مفكرا بأقرب طريق يوصلني الى المستشفى كنت اسمع صفير أنفاسها…. صمتُّ للحظة أنصت الى هذا اللحن الحزين استرجعت بعضا من كلام ابي في الساعة الماضية قال:
إنها كانت تبكي منذ الساعة السابعة حتى الساعة التاسعة مساءا.
كنت أدرك أن هذا كان ديدنها منذ ثلاثين عاما لاتفتأ تذكر أخي الذي سحقته الحرب مع ايران,ثلاثين عاما لم تنسه لحظة واحدة ، لم تومن بموته، ولم تصدق بالجثمان الذي واريناه الثرى منذ ثلاثين عاما لم تقتنع حتى بالخال الذي ارتسم في صفحة خده الايسر او اسمه المنقوش في القرص المعدني الذي يحمله. كنا نقول لها انه مات ولن يرجع إلى الابد لكنها لم تتزحزح عن رأيها اذ كانت تنتظره وتردد دائما, انه يوما ما سيعود ببزته العسكرية و ستنثر صرة من المسكوكات المعدنية التي كانت تستعمل آنذاك من الدراهم والدنانير.
كنت اقود السيارة بسرعة جنونية و بين حين وآخر كنت اختلس النظر الى وجهها, شعرت كأنهااستعادت بعضا من انفاسها, قلت مداعبا اياها بأسلوب فظ اعتادت عليه منذ سنين كنت استفزها وكانت تبتسم بصعوبة بالغة, تحدثتُ معها لكنها تفوهت بعبارة أخذت تكررها وهي انها مشرفة على الموت. ومع كل كلمة منها كنت أستنفر مسرِّع البنزين وبينما كانت أنفاسها تتقطع بصورة مرعبة رجعت لاتزاني لأتحدث معها جادا قلت:
-اننا سنصل الى المستشفى بعد لحظات تحملي قليلا وبعدهااسخري مني.
أخذت أنفاسهاتتسارع فشعرت أنها ستصحو من هذه الأزمة وفعلا لاحظت أن الشحوب تضاءل بعض الشيء اعتدلت في سرعتي الجنونية وبدأتْ هي تتحدث بصوت واهن كانت تقول ان هذا اخر العهد معنا قلت ولأول مرة احدثها عن اخي حديثا لم تسمعه من قبل.
-أماه… لقد اخبرني صديقي منذ يومين ان الفا من الجنود سيأتون،اتضح انهم احياء في ايران، وقد التبس الامر معهم في أثناء الحرب اذ أُرسلت جثامين غيرهم وان كريما اخي ربما سياتي معهم واردفت متسائلا اتصنع صدق الحديث :
-الم تخبرك سكينة اختي ؟
كان تأوهها بدا يخف وانا مسترسل في حبك قصتي .. كانت قصتي قصة الجزيرة الغارقة وانا انشد لها اناشيد طيرها وتصخاب اطفالها ..واغنية الموت الذي صبغ اوراق اشجارها بلون الدم …. لكن تتبعي لأنفاسها جعلني استرسل بخيال خصب فقلت :
-ان الحرب مليئة بالأسرار وكان علينا ان لانصدق أن كريما جِيءَ به (شهيدا).كان يجب ان ننصت إليك كنت انت الوحيدة التي تدرك الاحداث افضل من ابي وزوج عمتي حينما صدقا خبر موته وأقاما مجلس عزاء على روحه وهو حي.
كانت كلماتي تتابعُ انفاسها الهاربة الى فضاءات بعيدة , فطالما كانت تنتظر مني ان أخبرهابمثل هذه القصة منذ ثلاثين عاما.
كانت قد رسمت في يوم ما صورة لأخي بوجه حزيٍنٍ قد بلغ الخمسة والخمسين عاما وقد انحسر شعر رأسه الى صلعة واسعة كصلعة خالي مقداد،وانتابها شعور بانه شاخ وامسى ابيض اللحية وربما تزوج في ليلة مقمرة من فتاة إيرانية رضيت به زوجا وان كان مقطوع الأصل،فهي طيبة القلب لا تبحث عن الانساب والقبائل مثلنا نحن العرب،بل تكتفي بأن تراه شابا وسيما.
كنت احسبها تصغي لكلامي عندما هدأت انفاسها فرحت أتأمل وجهها الشاحب وقد استحال مثل لون العصابة الصفراء التي تُعصب رأسها.كنت اشعر بان تلك اللحظات تجلدني .صرت انظر بدائرة ضيقة ابحث عن أنفاسها التي بدت تتعثر وتصمت لحطات ثم ترجع لتنتشلها بصعوبة بالغة ووجهها يزداد شحوبا وقد تفصد العرق من جبينها. اوقفت السيارة كيما احملها لغرفة الطوارىء…… تأملتها … مسست وجهها البارد، فاذا هي جثة هامدة.