وأنا أقف على الشرفة ذاتها التي كان يقف عليها بابلو نيرودا في سانتياغو والمطلة من بيته مباشرة على محيط الباسفيك عرفت الشعور الواقعي لحب بابلو نيرودا للبحر بعد ان كان لديّ مجرد معرفة وقراءة عن حياته . وهذه الشرفة اليوم هي محط لملايين الزوار ومنهم انا بلحمي ودمي حيث يرتكن بيته والذي اصبح اليوم متحفا عظيما. اول مادخلت المتحف اعطوني مايكروفوناً للترجمة التي تشرح عن كل مكان في بيته فاول ماعرفته من انّ البيت هو على شكل سفينة تشبه تلك التي كان يبحر بها مع زوجته ماتيلدي. وماعرفته من الترجمة من ان بابلو كان دبلوماسيا مرموقا يُعرف باسم ريكاردو نفثالي قبل ان يصبح شاعرا باسم بابلو . والده كان لايرغب ان يكون ابنه شاعرا لانه كان عاملا في السكك الحديدية ولذلك وضع بابلو قاطرة بخارية في اول مدخل بيته تخليدا لأبيه وكانها مغادرة او حطت توا في المحطة . كان بابلو عاشقا للسفن وكل مقتنياته كانت من مقابر السفن التي هدّها التعب وارتكنت في السواحل وكلها تتصف بما لايصدقه العقل . ايضا جمع في منزله كل ماهو لدى الاطفال من لعب ومقتنيات زهيدة او باثمان مختلفة فكان يقول ( الطفل الذي لايلعب ليس طفلا بل هو الخاسر الاول وكان يقول ايضا الرجل الذي لايلعب قد فقد الطفولة التي بداخله ولذلك بنيتُ بيتي بشكل كي العب به صباحا ومساءا ، طولا وعرضا .وكان يلعب في بيته لعبة القبطان وقد جمع من كنوز البحار والمحارات والاصداف على الرفوف بحيث انها كانت تفيض وتجد مكانها على الكراسي وارضية البيت . لديه ايضا منحوتة صغيرة لفتاة من الجنان تدعى (ماريا سيليستا ) وكانت دامعة العينين في الشتاء القارص وقد سرقت من سفينة فرنسية وحاول الرئيس سيلفادور الليندي بحكم الصداقة العميقة بينهما ان ياخذها منه ولم يفلح ولذلك ظلت في متحفه حتى الان وكانه يعلم مدى قيمة هذه المنحوتة الفريدة في قيمتها لدى الاجيال القادمة .
كتب نيرودا عبارته الشهيرة (أشهدُ أني عشت )حين سكن في باريس في دار( ايسلا نيغرا ) وتعني البقعة السوداء ولم تكن كذلك وانما هي تقع في الساحل الباسيفيكي وتبعد عن سانتياغو ليس بالكثير وقال نيرودا كنت احلم بمكان اكرَس به نفسي للعمل الادبي فوجدته في هذه الدار على محيط الساحل ولكن كيف اشتريه فعرضت كل كتبي للبيع ولَم احصل على ما اريد وبمساعدة دار نشر اخرى حصلت على ما اريد .في حديقة البيت يستقر قارب صغير يجلس به مع الاصدقاء ويسقيهم ارقى انواع النبيذ التشيلي الفاخر والمشهور اليوم على نطاق عالمي ..وحين يرى سفينة قادمة في البحر يقوم بلعب دور القبطان فيقرع الاجراس ولذلك كتب ( قصائد القبطان ) لانه كان مولعا بالطبيعة وبالبحر واشياءه ولعا لانجده عند الاخرين من مجايليه ومن مبدعي تشيلي بمجملها . كتب هذه القصائد مهداة الى حبيبته ماتيلدي اوروثيا:
نمتُ معكِ طوال الليل
بجوار البحر في الجزيرة
كنتِ وحشية وعذبة
بين الرغبة والحلم
بين النار والماء
وفِي نهاية ايامه اهدى الجامعات التشيلية العديد من مقتنياته وهي اليوم تصلح ان تكون في اي متحف وبافتخار عظيم . من المفارقات الكبرى انه حاز على جائزة نوبل الغنية قبل سنتين من وفاته ، فهكذا هم الشعراء العظما لايتمتعون بالمال فهم اصلا يحبون الزهد وعالم التصوف المالي لكنه في الحب شيئا مختلفا تماما فذات يوم قال لحبيبته اشتهي مضاجعتك فوق برج ايفل في فرنسا . ورغم هذا الترف والحياة التي عاشها فحين سمع بالانقلاب الدموي الامريكي بزعامة المجرم بينوشيه ومقتل صديقه الاول الرئيس المنتخب ديمقراطيا سيلفادور الليندي فلم يحتمل البقاء ولم يحتمل قتل شعبه واهله وناسه بشكل بشع فأدى ذلك الى موته بعد ١٢ يوم من وفاة الليندي وادعت عائلته انه مات مسموما وصودرت امواله وبيته لكن عائلته ومحبيه استطاعوا ان يستعيدوا ممتلكاته وبيته على البحر بعدسنين طوال لتجعله متحفا مذهلا وتنقل رفاته ليدفن بجانب زوجته قبالة البحر لانه احب قرع الاجراس للسفن القادمة حتى كتب قصيدته الشهيره عن البحر وعن زوجته وكيف نام معها طوال الليل في المحيط الباسيفيكي في سفينته الخاصة . استشهد هذا الشاعر العظيم وبقي محبوبا حتى اليوم من قبل الاجيال ومن قبل رؤساء العالم ومنهم الرئيس الفنزويلي السابق تشافيز . مات بابلو لكنه باق كما فنارات البحار التي كان يعشقها .
* شاعر وناقد عراقي