مزدحما بوحدته في سطيحة تلك العمارة القصية، مثل راهب في دير مهجور، غير عابئ بمشاغل الآخرين؛ ذلك الجحيم المنمق، الذي يحاول دوما تفاديه قدر الإمكان، وهو يكنز دموعه اللا مرئية في صرة منسية في صدره.. رنا الكهل الخمسيي – ساكن السطيحة- إلى الأفق البعيد، كأنما يوبخ جحود القبيلة، وهو يفرك ذقنه، التي بدأت تغازله شعيرات بيض مهملة، ذات ملمس شوكي.
أحس كأنه تحرر من كل ثقل يشده إلى هذه الأرض، وأنه يمتطي صهوة السحاب، وينظر إلى هذا العالم الوثني من عل، ساخرا من ترهات هذه الحياة، التي تقضم – في نهم- تفاحة العمر القصير كتنهيدة، وقد بدت له أنها غير جديرة بكل هذا التكالب الخسيس على خرائبها.
بنبرة بوح، كمن يهزج في لوعة هتف: “لقد أغرانا “ولد الجيلالي”، سارق المواشي بالحياة الهانئة، بعيدا عن الروث، والنوم حتى الضحى بدل مطاردة الماشية فجرا.. وعدنا بأن نعيش حياة الوزراء في المدينة، دون أن نلعب دور ثور الساقية في حياتنا اليومية.. لن نفني أعمارنا في حقول جاحدة، وفي آخر المطاف، نشتري الدقيق.. نشتري كل شيء من المدينة؛ اللحوم، الخضروات والفواكه”.
كانوا يصغون إليه فيما يشبه الخشوع، يكتفون بتحريك رؤوسهم، ثم اهتزت طواقيهم الصوفية، باهتة اللون، حين تضاحكوا في فجور، وهو يحدثهم عن نساء يجددن شباب الرجل؛ عطورهن – وحدها- تعيد الروح إلى الميت…
باع الجميع إلا “ولد العياشية”، الذي التهم السجن أجمل سنوات عمره، بسبب النفوذ السياسي لشركاء الجزار، وعاد ليسكن في كوخ حقير فوق سطح هذه العمارة القصية، التي نبتت فوق حقله.
*****
لم يكتف الجزار بالبهائم المسروقة، تعرف على رجل غامض في سهرة خليعة، أبدى فيها الرجل إعجابه بطموح “ولد الجيلالي”، وأبلغه أن المستقبل للعقار، ولم يرفض عرضه المغري والحازم: “هناك أشخاص يريدون أن يستثمروا ثرواتهم، دون أن يظهروا في إطار الصورة، وقانون اللعب معهم ألا تحاول معرفتهم، وإلا سيذبحونك مثل البهائم”.
ابتسم الجزار، ثم انقلبت الابتسامة ضحكة مجلجلة، وتوقف عن الضحك، حين نظر إليه محدثه شزرا قائلا بنبرة جادة: “ولد الجيلالي! هؤلاء الناس لاوقت لديهم للمزاح!”.
*****
اغتيلت الحقول، وبنيت فوقها عمارات آهلة بموتى لا يجيدون إلا تفريخ المزيد من طنين أطفال، يدحرجون سعادة مزيفة، تربض أسفل البنايات مقاه مدججة بكراس، تشي بترف عطالة مزمنة، بعد أن وجهت إلي تهم ثقيلة، كصاحب آخر حقل، حاصرته أوراش البناء. رفضت البيع، لأن والدي المرحوم علمني أن الرجل لا يفرط في أرضه ولا في عرضه.. طالبت بتأجيل أشغال حفر الأساس، حتى نهاية الموسم، فردوا علي، بحزم غير معهود، بأنهم ملزمون بتسليم الشقق إلى الملاك في الصيف، وإنني أعرقل أشغالهم .
تألمت في صمت، لأن الجميع تنكروا لوجع التراب، نشيد الريح، ذهب الشمس وهو يعانق ندى الصباح، وحليب العصافير، وهي توزعه على المخلوقات بالتساوي.. أيقنت أنني أنتمي إلى سلالة الريح.
لا ألوم أبناء القبيلة، العاطلين عن الحياة لأنهم قبلوا أن يسكنوا في صناديق إسمنتية، متشابهة، متشحة ببرودها العاطفي المسلح. لم أوبخ من ابتلعت أعمارهم غيبوبة كراس، وهم يحدقون في ذلك الفراغ الهائل..
*****
اعترضت سبيل جرافة، في غبش صباح ربيعي، وهي تغتال خضرة حقلي مدججا بمذراة…
أدمنت الحنين المطرز بالدموع، انتظرت على أحر من الشوق أن أغادر السجن، الذي اكتشفت أنه استوطنني، ومازالت أحمله في داخلي. دربت مخيلتي على انتظار ذلك الفرح، الذي لا يشبهه أي عيد. ظلم ذوي القربى جعلني أتفادى تفاهات وثرثرات مجرمين محترفين، آثروا العيش خلف القضبان. كانوا يرتكبون أية جريمة، ليعودوا إلى السجن، ويرتاحوا من سطوة غابة القوت اليومي وذلها.. كنت أنتظر اللحظة، التي سأسجد فيها فوق تراب حقول، لم تتوقف عن زيارتي في الزنزانة..
كانت زائري الوحيد!
كنت أهش الغنم والعصافير في مخيلتي، لأحمي محاصيلها من لصوصيتهم البريئة، وأتابع، بابتهاج، تغير ألوانها حسب الفصول.
حفرت نفقا عميقا في داخلي، من أجل الاستغناء عن تلك المساحة الضئيلة كجسدي. زهدت في جحيم الآخرين، وآثرت العيش في نفق الأنا .. صادقت وحشتي، التي لا يمكنها أن تؤذيني.
*****
في الهزيع الأخير، أخذ كاتب هذه السطور يرنو إلى الشرفة، القابعة في العمارة المقابلة. خمن أنها تشعر بالوحشة. نظراتها تفضح ما يختلج في أعماقها. تبدو وحيدة ومنسية، مثل فزاعة في حقل مهجور. تخيل الفزاعة بقبعة قش قديمة، وثياب رثة كقلبه، توهم أن المرأة الشابة تبادله النظرات.
وفيما يشبه التعاطف مع بطل قصته القصيرة، همس لنفسه: “الندم… أقسى الأحاسيس. من المريع أن تكتشف أن العمر ضاع هباء، مثل حفنة تراب، تذروها رياح خريفية هوجاء”.
*****
يعبر الشارع، يلفت انتباهه كالآخرين، أن جارته تقف على قارعة الطريق، تنتظر عبور سيارة أجرة. تلتقي نظراتهما برهة.. يبتسم، وهو يستحضر ألعابهم، كمراهقين بدو، للظفر بقلب ساكنة المدينة الشقراء، التي تقضي عطلتها الصيفية في بيت جدتها، ونكاية في قيظ الظهيرة، تجرد ابن الجيلالي الأصغر “بايغو” من ثيابه، ركب دراجته الهوائية، وأخذ يتجول بها في الممرات الترابية، وهو ينهق مثل حمار، فاختفت الشقراء من أمام عتبة البيت، بينما شيعه أقرانه بقهقهاتهم ولعناتهم.
مضى سادرا في شجنه، غير عابىء بهذه الفتنة الطاغية، الفائضة، كأنما وهبته الأقدار بعض عفة ذلك النبي، الذي رماه إخوته في الجب، ليقاوم عواء ذئاب هذه الغواية.
*****
في دواخله، يتلو تراتيل نجواه في ابتهال، يشرع في الكتابة في ورقة أخرى بأنامل مرتعشة، كقلبه.. يدون على هامش الورقة : مونولوغ لحظة العبور، وفي حدة متوترة، يضع أكثر من سطر على العنوان:
كيف أنسى أنني قايضت تاريخا حافلا بالدموع ببرهة؛ خمسون خريفا من الفقد مقابل ثوان من فرح مسروق، يشبه مذاقه كل الأشياء المسروقة، فأكتفي بذلك الصهيل الخفي في نظراتك، وقطرة شهد تتدحرج على شفتيك، وأنت تقطفين أزهار اشتهائي الفادح لك، فيخونك كبرياؤك، كامرأة ، تعضين على شفتك السفلى.. يتوجع قلبي، وتسكر روحي..؟!
*****
يعبر الكهل الخمسيني الشارع مثل قديس، دون أن تتعثر خطواته بشهد ذلك الفرح المسروق، ولا بعطر تلك الأنوثة الفواحة.
*****
في القصة، التي نسجها خيال كاتب مهووس بالنساء، لا سيما تلك الجارة، والتي يتخيلها، كأي رجل شرقي، محرومة، وهذه مسألة أخرى لا تهمنا الآن، ولا تعني القراء، ربما، تستهوي أشخاصا آخرين، لا يعبرون عن هوسهم بالنصوص المبتذلة..!
يعبر البطل الشارع، يلتفت إليها، وهو يهمس لنفسه: “هل تدركين أحاسيس من يساق إلى مقصلة؟! تلك عاطفة من تعانق عيناه شموخ صدرك، وعلى عجل، يحصد بمنجل الأسى تنهداته المتتالية، حسراته المقبلة، لوعاته المتراكمة في بيدر أيامه العجاف، لأن الشيطان – ببساطة- لا يسجد، يأبى التضرع إليك، ويرفض كل صيغ التوسل”.
في نفس اللحظة، مرقت من الاتجاه المعاكس دراجة نارية طائشة، التفت سائقها الشاب إلى الفتاة المضرجة في وقفتها الشامخة، وهي تحدق في شاشة هاتفها الذكي في تأفف.
كانت التفاتة غادرة كالموت، الذي يتربص بالجميع، مثل قاطع طريق… بينما الفاتنة بدت غير عابئة بخسائر مجاورة، تكفي لأن تشكل مذبحة صغيرة على قارعة الطريق.
*****
-…………..؟
– لأن بطل القصة ترك طلب الصداقة متدليا، مثل حبل مشنقة في فيسبوك.. اخترت له نهاية قاسية، مثل عجوز أعمى، دهسته شاحنة فجرا، ولاذ سائقها الثمل بالفرار.
لم يستسغ “ولد العياشية” هذا الرد الساخر من صديقه الكاتب، وتراشقا ضحكا كالبكاء، وهمس في أسى لا يتقادم:
– الموت رحمة.. لا أحب أن يواصل مثل هذه الحياة الرثة البالية! ( في بكاء صامت) تقدم أيها الطوفان الإسمنتي المسلح.. تعال من الجهات الأربع للريح، واكتسح ما تبقى من خضرة أرواحنا أيضا.
*****
قبل أن يعبر الشارع إلى الضفة الأخرى، سنفترض أن كل هذه الترهات السردية، حدثت أمام أنظار جيران قدامى، التصقوا بكراسيهم، لا يغادرونها إلا للذهاب إلى البيت أو إلى دورة المياه. يتململون – فقط- حين تخترق هدوء المشهد الرتيب امرأة، فيداعبون شواربهم الكثة.
آثر أن يقاوم – وحده- وعثاء حياة مستعملة، كتلك الثياب القديمة التي يبيعها على أرصفة بالية في قاع المدينة، ويؤجل شتائم بذيئة إلى الليل، بعد أن يدفن أحزانه، في تلك الزاوية شحيحة الإضاءة، غير عابئ بنباح أغان ماجنة، نكاية في شوق يهزج به الدم في المسافة الفاصلة بين طفولة القلب وشيخوخة الروح.
*****
من ركنه الشاحب في تلك الزنزانة، احتضن ساقيه بيديه مكلوما، كأنما تعوي ذئاب كل أحزان العالم في بيداء روحه، مزقت صلصلة المفاتيح الثقيلة سكون المساء ورتابته الباردة. سمع صرير كالأنين، ونادى على اسمه شرطي متجهم. دفعه في غلظة ليتحرك بسرعة.
علت الدهشة محيا الكهل، وصاح في تذمر: “لم أقتل أي أحد حتى في خيالي. لماذا لا تحاكمون هذه المدينة الفاجرة؟!”.
للتو، تذكر صديقه الكاتب الشاب، وهو يحدثه عن مشروع قصته الجديدة، عن تلك المرأة، التي قتلت عاشقها عن طريق الخطأ!
هتف الكهل مزمجرا: “لا يعنيني لعابك، الذي تخفيه خلف لغة شاعرية. يا سيدي، أنا لا علاقة لي بالأدب ولا بقلة الأدب، ولست مريضا بالحنين مثلك، ونسيت شهادتي الجامعية، بعد أن فشلت في إثبات براءتي من كل تلك التهم، حين خذلني رجال القبيلة؛ رفضوا الإدلاء بشهادة حق، واختاروا أن يلصقوا مؤخراتهم بكراسي الفراغ. ربما، أحيانا، أنظر إلى أشجار، حقول، ماشية.. في شجن ونوستالجيا.. قد أبكي عند سماع أغنية شعبية، ركيكة الكلمات.. قد أسكر وأسب هذا العالم المخنث.. لكن، لا أقتل أبدا !”.
كان الكاتب الشاب، الجالس في مكتب المحقق، ينظر إليه في برود، ويبتسم في بلاهة:
– “ولد العياشية”، أنت متهم بالقتل..
-………………
هم الكهل بأن ينقض عليه، وشده من تلابيبه، بيد أن أقدام وأيدي رجال الشرطة الأشداء انقضت عليه مثل طير كاسر، وراح المحقق يتابع حفلة التأديب بابتهاج.
*****
غادر الكاتب مكانه، بعدما انتهى من الكتابة، مد يده ليوقظ صديقه الخمسيني، فانتفض الرجل كالملذوغ، وهو يئن بصوت خافت: “كل شبر في جسدي يتوجع بسببك!”.
استمع الكاتب إلى تفاصيل ذلك الكابوس المضحك، وبيقين، هتف باسما : “توقف عن شرب دم الكلاب.. أنا، الآن، في حاجة إلى أن أنام حتى الظهر مثل جارتك”، تبادلا نظرات ذات معنى، وضحكا في صفاء غير معهود، والشمس تصافح العالم على استحياء، وفوق السطح المجاور، شحرور يبارك شروقها بتغريده العذب. ألقى الشاب نظرة أخيرة على شرفة الجارة نؤوم الضحى من فوق السطح، وهمس لنفسه ملتاعا، كأنما يواسي قلبه:
كنت أعرف أن رشقة واحدة
كانت تكفي..
لأن أقضي هذا اليوم
ضائعا في مروج نظرة عابرة
متخما بالضجر، الخواء والحداد
مصلوبا على المسافة الفاصلة
بين
عينين مستبدتين
وبين
قلب خذله الجميع
نظرة تكفي لأن تجعل نهارا ربيعيا رائقا
مخضبا بالمآثم.