كنت جالسا تحت الزيتونة القابعة أمام منزلنا، أنعم ببعض خطوط أشعة الشمس التي تتسرب من بين أغصانها وأوراقها الخضراء. وكنت أحاول القراءة في كتاب حول “أنماط الرواية العربية”، أحاول جاهدا استيعاب الحروف والكلمات، رغم صعوبة الأمر. فالشمس الخفيفة التي أعشق والطبيعة الخضراء الفيحاء، تغريان بالتأمل والكثير من التأمل، علني أكتشف سر الحياة وجدوى العيش. الربيع يبعث على السعادة وعلى تفتح الفكر، كما تتفتح الورود البيضاء وتشمخ السنابل لتعانق سماء الحرية. فلا أجمل من هذه الأيام الأولى قبل حر الصيف والتي تودع قر الشتاء وكآبته.
في لحظة ما، في غمرة تأملاتي، اقتحمت دجاجة هذه المشاهد السوريالية، التي تمزج بين القراءة والخضرة وسماع ثغاء الحملان والتوهان في ملكوت الأرض البديع.
دعوني أصف لكم أيها القراء الأجلاء المشاهد التي كنت مطلعا عليها حين اقتحمت الدجاجة هذا العالم الذي نسجته لنفسي، وانزويت داخلها بعيدا عن ضجيج أفكاري! أولا هي دجاجة بيضاء، ذكرني بياضها بالبومة هيدويج ، رغم أن هذا البياض يخالطه شيء من حمرة التراب الذي تتمرغ فيه يوميا.
سارت الدجاجة ببطء شديد ترقب حركاتي اللامتوقعة بالنسبة لها، إلى أن ناهزت بقعة دم في المكان الذي ذبحت فيه إحدى أخواتها (أو ربما هي صديقتها، لا أدري!)، هنا فقط فقدت تركيزي مع أنماط الرواية وبدأت بتخيل أنماط النقر لدى الدجاج (الحق يقال يمكن تأليف كتاب كامل عن هذه الأنماط وسيكون سابقة في مجال الفكر والثقافة الدجاجيين). فها هي الدجاجة البيضاء تنقر وسط التربة الخالية من الكلأ والمليئة بالدم المسفوح، وكأنها تبحث عن روح أختها/ صديقتها، أو هي تحاول مواساتها هناك من خلال شيفرة النقر الخاصة بالدجاج (لن تصدقوني لو أخبرتكم أن الدجاج يملك لغة خاصة به، وقد ارتأيت تسميتها ب “اللغة النقرية الدجاجية”). لكنني وفي عدم اكتراث لما تفعله، نهرتها قائلا “هش”، إلا أنها لم تعرني انتباها، وإمعانا في تحدي هشي، اختارت القرفصة واحتضان الأرض، أمام بقعة الدم السالفة الذكر. أقسم لكم أنني رأيت دمعة تتسرب من عينها اليسرى التي تنظر إلى جهتي (أو هكذا خيل إلي).
بعدها، ودون سابق إنذار أو تخطيط، قامت الدجاجة البيضاء واستمرت في بحثها النقري وكأن شيئا لم يكن، إلا أن هذه المرة اتجهت ناحية عشبة خضراء، وقرفصت بقربها وبدأت تحادثها باللغة النقرية الدجاجية التي لا أفهم ولا أجيد (لذا لا تطالبوني بسرد ما قالته الدجاجة للعشبة). وهكذا استمرت الدجاجة تنتقل بين الأعشاب الخضراء، تتذوقها ثم تقرفص أمامها، وفي الأخير تجهز عليها بمنقارها الحاد، بعد أن توجه لها كلمات تنم عن قوتها وجبروتها، للأسف دائما هناك مفترس وهناك فريسة!
هنا عبرت في خاطري فكرة، فيها تلك الدجاجة (سأتحدث عنها هنا بضمير الإشارة الغائب، لأنها غادرت المشهد بينما أنا مستمر في وصف الأحداث الغريبة التي كنت شاهدا عليها) وهي تتخيل نفسها من أعتى المفترسات على هذا الكوكب، تماما مثلما يتخيل الإنسان نفسه وكأنه مَلَكَ مقاليد حكم الكوكب. ولِمَ لا تتصور نفسها هكذا وهي سليلة الديناصورات التي استأثرت بالعيش هنا لملايين السنين، لولا الكويكب اللعين الذي أفناها؟ نعم إن تلك الدجاجة لتتخيل نفسها المتحكمة في حياتها وفي الأعشاب التي تأكل، وفي الإنسان الذي يربيها ويطعمها، ولم يدر ببالها للحظة من اللحظات أننا ذبحنا أختها/ صديقتها سابقا، رغم عدم اكتمال نموها، فقط لكي ننسم بها مرقة التريد التي تعد والدتي، وطبعا لن يدور ببال تلك الدجاجة أن دورها قادم لا محالة حين تكف عن إنتاج البيض؛ السبب الوحيد الذي يجعل الإنسان يربي الدجاج.
في النهاية أتساءل معكم أيها القراء: “من جاء الأول الدجاجة أم البيضة؟”
—
* قاص مغربي- رئيس تحرير مجلة امتداد للثقافة والفن.