بدءا يشير المؤلف إلى نواة مسرحيته ، ويتعلق بحكاية صغيرة أوردها المجاهد فخري البارودي في الجزء الأول من مذكراته محورها الخلاف الحاصل -أيام الوالي راشد ناشد باشا – بين مفتي الشام ونقيب الأشراف ، وكيف تجاوز المفتي الخلاف الشخصي ومد يد العون للنقيب حين أوقع به قائد الدرك آنذاك وقبض عليه متلبسا في وضع مجوني مع خليلته.
وقسم المؤلف مسرحيته إلى قسمين هما ” المكائد ” و ” المصائر”. وكل جزء يتكون من مشاهد تعتبر تكملة لما سبقها من مشاهد.
والمسرحية تتألف من عدة فصول برع الكاتب في جعلها مثيرة تجعلك تذوب أحداثها ، والذي يجعلها أكثر تشويقية كونها مترابط ترابط بارزا ، بحيث تطور فيها الحدث وفق البناء الكلاسيكي الذي يقتضي احترام سيرورة الأحداث كما لو كانت واقعا حقيقيا.
القارئ لمسرحية سعد الله ونوس ” طقوس الإشارات ” يظل مأسور بمشاهد فرجوية تحملك لتعيش واقع الشخصية متعاطفا منتقدا ، يجول بك الكاتب ويتحكم في مشاعرك فلا تستطيع التهرب من أجواء المسرحية حتى تأتي على نهايتها ، إنها المسرحية التي تمكنك من التفرج عليها فلا تحتاج إلى رؤيتها وهي على الخشبة ، ذلك أن الكاتب حاول من خلال المسرحية كشف المستور في العلاقات الاجتماعية عبر الطبقية وتصارع المصالح وتضارب الأهواء بين عامة الشعب وبين السلطة الحاكمة في المرحلة التاريخية التي تحكي عنها المسرحية. المسرحية ممتعة جداً بما لأنها تعرية للسياسة وفضح لحبائلها الخفية ، وهي إنسانية يمكن تعميم أحداثها على كل المجمعات . ففي المسرحية تعرية للواقع المستور والذي تمارس فيه السلطة ما يرضي أهواءها بعيدا عن مصالح الشعوب.
إن تحديد الموضوع بدقة و بتأطير زمني محدد جعل المسرحية متكاملة التيمات والأهداف والحوارات على الرغم من كونها تتناول ما يمكن أن يكون عاما ينطبق على النا في كل مكان وفي أي زمان.
المسرحية تجعلك تعيش زمنا غير زمانك لكنه في ذات الوقت ترى فيها بعضا مما يزال سائر المفعول في مجتمعات كثيرة رغم حداثتها – زمنيا على الأقل- . فالمسرحية تغوص في النفسيات والسلوكات االمبنية على الأنانية وإرضاء الأهواء و تحقيق المصالح بشتى الوسائل على حساب الآخرين. فالمسرحية يحاول النفاذ إلى العوالم العميقة و مكنونات النفس البشرية بما تحمله من أسرار تحتاج إلى التأمل والفحص قصد الوقوف على بعض حقائقها ، فالأقنعة والنفاق والادعاء والرياء تخفي الحقائق وتجعلنا نعيش بنفسيات يطبعها الانفصام وعدم الإحساس بالثقة المريحة النابعة من الصدق مع الذات.
المكائد
البناء الدرامي والشخصيات المتصارعة المتقاطعة المصالح :
في المسرحية تجسد الشخصيات صراعا متجددا متناميا ومحتدما جريا وراء البحث عن ظروف تجعلها تحتفظ بوجودها ومركزها، أو تتصالح مع ذاتها وأهوائه بحثا عن التوازن المفقود فيها.
تنطلق شرارة المكائد بالقبض المفاجئ و المباغت الذي تم من قبل عزت بيك قائد الدرك على عبد الله نقيب الأشراف وهو في مجلس هزل و سكر ومجون مع الغانية المدعوة وردة . في طرفة عين صار النقيب مهانا ذليلا مقيد على ظهر بغلة وراءه وردة ترتدي ملابسه الرسمية . هذه الحادثة تنشب صراعا سيسري عبر بناء المسرحية حتى النهاية. ولعل هذا الصراع هو الذي جعل المسرحية مشوقة تتمتع بطابع فرجوي آسر مليء بالانتظارات والاحتمالات.
في هذا الجزء يبرز السياسي في علاقته بالمكائد من أجل الاحتفاظ بالكرسي والمركز ولو بالتضحية بالأبرياء ، وذلك بإلصاق التهم بهم ، هنا تتشابك العلاقات وعبر هذا التشابك تتم المكائد وفق الأولويات ، هنا لا مجال للعدل ولا للعواطف الإنسانية . المكائد في سبيل الحفاظ على الوجاهة والمنزلة هي الطريق الوحيد لتحقيق ذلك.
المكائد في المسرحية ستفضح كثيرا من السلوكات في نهاية المسرحية.
المكائد ستكون البؤرة التي ستؤجج الصراع بين الشخصيات المختلفة و المتوزعة على بنية المسرحية. هذا الصراع هو السر في جودة الفرجة في المسرحية . فالصراع الذي هو الوقود الأساسي للفعل الدرامي عبر الحوار والأفعال وتطور الحدث . والقارئ لمسرحية سعد الله ونوس يصادف هذا الصراع المتشابك المتشعب الذي حفلت به أحداث المسرحية من بدايتها حتى نهايتها. والصراع لب البناء الدرامي ، وينشأ بين شخصيتين متعاكستين سواء كان داخلياً ، أو خارجياً ، وقد تطورت طبيعة الصراع بتطور الزمن ، فبعد أن كان في المسرح اليوناني بين البشر والقدر الإلهي صار بين الفرد والمجتمع ، وبعد ذلك اتخذ أبعادا أخرى حين صار بين الإنسان وذاته … وفي مسرحية سعد الله ونوس يبرز الحوار في أبعاد ثلاثة بين القاهرين والمقهورين بين الأهواء وما توجبه المسؤولية ، وبين النفس المتهتكة الأمارة بالسوء والنفس التواقة إلى الصفاء الروحي المتجاوز لأَسْر الشهوة والماديات.
ويبرز الصراع بين عبد الله والمفتي محمد قاسم المرادي ( مصالح تجارية)…
وبين عبد الله وعزت يك قائد الدرك الذي اقتحم عليه بيته ووجده في مجلس مجون…
وبين عزت والمفتي حيث إن هذا الأخير سيكيد له ليصير هو المدنب بدل نقيب الأشراف… وبين وردة وعبد اله وهما في السجن بعد القبض عليهما وبين عباس والعفصة والمفتي …وبين الفصة وعباس وسمسم ، وبين مؤمنة وزوجها و ووردة …
وتشابك الصراعات بهذا الشكل وبتطور الحدث تطورا يخيب توقعات القارئ جعل المسرحية تخلق عالما من الانتظارات و التعاطفات المتعددة المتجددة مع شخصيات ضد شخصيات عبر تنامي الحدث و عبر البحث عن التخلص من المواقف المنغصة…
ويمكن إيجاز الصراع في المسرحية فيما يلي:
– الصراع بين التهتك والهزل مع احترام المنصب.
– الصراع بين الجرأة في تنفيذ القانون مع المكيدة المفسدة للحق الناصرة للباطل.
– الصراع بين الطهارة المدّعاة والعهارة المعلنة المكشوفة.
– ا لصراع بين والروح وأهواء النفس.
– ا لصراع بين السيادة والعبودية .
– الصراع بين العقل والنفس.
– ….
هذه الصراعات هي المشكلة والبانية لجسم المسرحية و هي التي جعلتها مفعمة بالحوارات المبرزة للاضطرابات و الانفصامات التي تعتري شخصياتها.
ولقد تمكن الكاتب من رسم الشخصيات والمؤثثات التي تسم المكان بما يعود بالقارئ أو المتفرج إلى فترة زمنية قديمة رسما دقيقا وموحيا يعبر عن الطبقية والتمايزات الاجتماعية بين النخب والرعاع. فالشخصيات بأبعادها النفسية والسلوكية تمثل شرائح متنوعة من شرائع المجتمع العربي.
حضور الصراع بالشكل المشار إليه علاوة على الحبكة المتينة المبنية على الصراعات الداخلية النفسية والصراعات الخارجية التي تحركها المصالح الشخصية في علاقاتها بالآخر أدخلت المسرحية في صميم عمق النفس البشرية فأعطتها أبعادا فلسفية ووجودية تستحق التأمل والنقاش.
بدءا نشير إلى أن الإيقاع الصراعي والحواري المعتمد في المسرحية كان متأججا رغم التغير الخفيف الذي اعترى تيماته المتعالقة عبر الصراع بين الحقيقة والصدق والنفاق.
و نعتقد أن سعد الله ونوس تمكن من جعل المسرحية تحظى بهذا التميز المتمثل في كل عناصر بنائها الفكرة والحكاية والشخصيات والصراع والحوار والأسلوب. بل إن الجزء الثاني المتعلق بالمصائر لا يقل تشويقا وإثارة من الجزء الأول .
المصائر
الشخصيات بين تأنيب الضمير بي الحق والباطل .
في هذا الجزء يسود نوع الحوارات والمشاعر المضطربة إزاء الذات والأفعال الصادرة عنها ، فعبد الله يتراجع عن ظلمه لعزت ليعلن أمامه الاعتراف بكونه المذنب الملتمس للسماحة والغفران ” غفرانك يا عزت بيك . دعني أقبل يديك .دعني أقبل رجليك ” ص 124. ، وأنه المحتال والمفتي هو السبب فيما جرى فصار الظالم مظلوما وصار المظلوم متهما سجينا. صار عبد الله متصوفا انتهج بيل التربية الروحية وعقاب الجسد وقمع الغرائز ، صار ذليلا يجوب الطرقات كالمعتوه…كل ذلك نزولا عند نصائح الولي الذي كان يأتيه بين الحين والحين
ومؤمنة ” التي صار اسمها ألماسة” تتجرد من طهرها ومن عصمتها بزوجها فتصير مطلقة طليقة غانية وعاهرة مجتهدة في فضح نفاق أبيها وأخويها المغتصبين للفتيات في عمر الزهور ، لينتهي بها الأمر قتيلة من قبل أخيها صفوان..لكنها كما جاء على لسانها حكاية والحكاية لا تموت.
والمفتي صار صار وحيدا وقد تخطى وساوسه وعشقه الخفي لمؤمنة ليعلن الحرب على الأوضاع السائدة في المدينة ” يناول سجادة الصلاة ، يفرشها على الأرض ، يتوقف حائا ، يبدو عليه الحصر ، يتهاوى على كرسيه ، ويجلس مبحلقا في الفضاء بعينين فاترتين وخاويتين” ص 119..
وعزت قائد الدرك المظلوم ينتهي به الحال فيصير مجنونا أو شبه مجنون لما حدث له وكيف سجن مكان المتهم الحقيقي عبد الله.
الخادمة والخادمان يتزوجان ويعيشان سعيدان حسب الحوار الذي جرى بين الخادمة وألماسة قبل طعنها.
أما إبراهيم دقاق الدودة وحميد العجلوني التاجران فهما متأسفان يحوقلان لما آلت إليه الأحوال بعد أن ساد البغاء والفوضى الأخلاقية في المدينة.
أما العفصة النادم على شذوذه ، فقد وضع حدا لحياته حين أقدم على الانتحار.
بهكذا تصير المسرحية واجهة نلاحظ فيها العلاقات الإنسانية في ظاهرها وفي حقيقتها ، وقد تمكن الكاتب من ذلك عبر حوارات الشخصية المحكم والدقيق في التمييز بين الخطابات ودقة إسنادها إلى الشخصيات وفق تناسبها وتوافقها مع أبعادها النفسية وطموحاتها الاجتماعية.
المسرحية في اعتقادنا ناجحة في التعبير عن العلاقات الاجتماعية وذلك عبر التماسك و حسن تطوير التعبير عن محورها عبر تنامي الحدث المؤسس على تنامي الحوار وسلوكات ومواقف الشخصيات إزاء بعضها.
المسرحية تحتاج إلى أكثر من قراءة ، وقد ركزنا في قراءتنا المقتضبة لها على عنصر الصراع الدرامي الذي اعتبرناه من بين عناصرها الأساسية والبارزة .