عندما يكون المغربي أو المغربية في حالة غضب، وتسأله عن سبب قلقه، ولا يجد مبررا لذلك، أولا يريد أن يفصح عن هذا السبب، يجيبك ب : (الساعة لله !). فتضطر للتوقف عن سؤاله احتراما لمشاعره .
علاقتي بالساعة يشوبها شيء من هذا القلق الذي يكتنفه نوع من الغموض. وقد أشار الصديق الطايع ميلود في تعليقه على إحدى تدويناتي بأني عبرت في إحدى الجلسات الحميمية عن خوفي من شيء واحد في الحياة وسكت. فذهبت تخمينات البعض في اتجاهات مختلفة، ثم تفاجأت عندما أضفت بأني أخاف من الزمن إذا توقف .
وقصتي مع الزمن وقياسه تعود إلى سنوات خلت، وهي بعيدة عن التفلسف ومصطلحاته ومواقفه من هذا الموضوع .
منذ الصغر اقتنيت العديد من الساعات اليدوية. وكلما وضعتها في معصم يدي اليسرى أو اليمنى تتعطل بعد أقل من أسبوع. آخذها إلى مصلح الساعات سي عبد السلام صديق والدي وأعمامي، وعندما أرجع للسؤال عنها يخبرني بأنها لم تعد صالحة للعمل. كنت أفسر ذلك بإدماني على لعبة (البيار) التي أجيدها، وأخذت حيزا مهما من أوقات فراغي في مرحلة المراهقة والشباب. وهي لعبة تعتمد في الأساس على حركة اليدين، وتحتاج في بعض الأحيان إلى استعمال حركات قوية لقذف الكرة. تمر شهور وأنسى، ثم أشتري ساعة أخرى، ويحصل معها نفس الشيء .
بعد تخرجي من الجامعة نبهني أحد الأصدقاء الذين اشتكيت إليهم من هذا الموضوع على أن المشكل يرتبط بارتفاع نسبة المنغنيزيوم في الدم، وأشار علي بشراء حزام خاص يباع في السوق يفرشون فيه جلدة يوضع عليها ظهر الساعة، ويفصل بينه وبين جلد اليد، لكني لم أفعل. وعلمت فيما بعد بأن ظهر بعض الساعات في الخارج مصنع من مادة مقاومة للمنغنيزيوم .
حدث مرة أن كنت جالسا في مقهى ال 24 بباب دكالة في النصف الأول من الثمانينيات. وقلت لأحد أصدقاء الطفولة، وكان يشتغل آنذاك بفندق (سوفيتير) بأن الساعات التي أضعها في يدي لا تشتغل إلا لفترة قصيرة ثم تتوقف عن العمل. وكان يلبس لحظتها ساعة من نوع (كازيو) مصنعة باليابان أهداها له أحد السياح. تعجب من ذلك فقدمها لي مراهنا على أن آخذها إذا تعطلت عن العمل. وبالفعل لم نكد ننهض من المقهى حتى بدأت الأرقام داخلها تدور بسرعة، تارة تهبط وتارة تعلو. منذ ذلك الحين وأنا أزيل الحزام للساعة اليدوية وأضعها في جيبي، وأحاول ألا تلمس جلدي. وبقيت معي هذه الساعة حوالي عشر سنوات. وهي أطول مدة استعملت فيها ساعة يدوية في جيبي أو في حقيبتي. مرة أنساها فوق المكتب في القسم، ويأتي لي بها أحد التلاميذ أو التلميذات. وأحيانا تسقط من جيبي إذا اتكأت فوق حصير أو زربية فيعيدها إلي من يجدها. وقد كنت أشكو لأحد الصديقين المسافري أو للطايع بأن لي مشكلة مع أدوات قياس الزمن، إما تتعطل، أو تضيع مني لفترة معينة .
الاستيقاظ للعمل في الصباح خاصة في فصل الشتاء في بومالن يحتاج إلى ساعة بمنبه قوي. لذلك اشتريت ساعة ميكانيكية كبيرة كان يطلق عليها المغاربة ساعة الديك (الفروج). وسميت كذلك لأن أحد عقاربها الصغرى عبارة عن صورة ديك يحرك رأسه بشكل آلي وكأنه يتناول الفتات من الأرض. ولها منبه قوي، يوقظك من النوم، وقد يصل رنينه إلى بيت الجيران. أضعها دائما بعيدا عن رأسي حتى لا أضغط على زر المنبه وأوقفه. وأحيانا ألعنها وأرميها بحذائي. لا يكاد يخلو منها بيت خاصة في شهر رمضان. وهذا النوع من الساعات يحتاج إلى ملئه بين الفينة والأخرى عبر مفتاح في الخلف، وإلا توقفت عن العمل بشكل مؤقت، وتوقف الديك عن الحركة .
أتاحت لي الوحدة، وقلة ما يُعمل في بومالن فرصة تعلم لعبة الشطرنج، والتدرب على تأمل الذات، والحديث مع نفسي. عندما أنظر إلى الديك وأراه قد توقف عن تحريك رأسه، كنت أشعر بنوع من الخوف، وأسأل نفسي ماذا لو توقف الزمن بالفعل مع توقف الديك عن الحركة. وزاد هذا الخوف عندما اطلعت في أحد كتب تاريخ الأدب على أن هارون الرشيد الخليفة العباسي الذي حكم امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وهو الذي بلغ من سطوته أن خاطب سحابة، وطلب منها أن تمطر حيث ما شاءت، فخراجها حتما سيأتي إليه، عندما أهديت له ساعة رملية، وكان في لحظة صحو، تأملها باستغراب وحسرة، وقال بأنه استطاع الحصول على كل شيء يرغب فيه، لكنه يعجز عن رد عقارب الزمن إلى الوراء .
أحمد الله اليوم. لا أستعمل أي ساعة يدوية. وقد عوض الهاتف النقال الحاجة إليها. فقط أشعر بنوع من الضجر والقلق عندما تنقص الحكومة ساعة أو تزيدها، وكأنها تملك من القوة والجبروت ما عجز عنه هارون الرشيد، فتعيد عقارب الزمن ببساطة ساعة إلى الوراء، أو تزيده ساعة إلى الأمام.
مراكش في 30 أكتوبر 2019