![](https://i0.wp.com/basrayatha.com/wp-content/uploads/2023/04/nedal.jpg?fit=451%2C328&ssl=1)
من اليسر ان تمسك بالقلم وتخط ما يحلو لك، ومن العسر أن تنال إعجاب من يطالع لك، ومن أصعب الصعاب أن تذهل القاريء بما كتبت، أما شبه المحال فهو ان تحدث انقلابا في عالم الادب وتأتي بنمط ابداعي غير مسبوق ، ذلك العالم الصعب المراس، الوعر المسالك ، الذي لا يهب سره بيسر الا لمن أمتلك مقومات الأديب الفذ والنادر .
لا تبوح الروائية العراقية نضال القاضي بهذا الانجاز ، بل هي لا تفتأ تشيد بجهود رائدات الأدب الكبيرات، أمثال لطفية الدليمي وإنعام كجه جي وزهور دكسن، وتذكر الاخرين دوما بانجازاتهن الكبيرة في عالم الابداع النسوي..
غير أن معظم النقاد، وكل من طالع لها يؤكد انه يقرأ نمطا جديدا من فن الرواية غير معهود من قبل، وانهم أزاء كاتبة استثنائية بكل المقابيس، صاحبة قلم إختلف المتخصصون في بيان كنهه، واتفقوا على روعته وتساميه وندرة صياغته وحبك نسيج لغته، ولعل ذلك ما سنتاوله في الأسطر القادمة من هذه المقالة.
نضال القاضي.. سيرة حياة.
مابين الحلة الفيحاء مسقط رأسها، وبغداد موطن شبابها وذكرياتها وصويحباتها، وشمال العراق حيث أتمت نضال نجم القاضي دراستها الجامعية بكلية الهندسة في محافظة السليمانية ذات الطبيعة الجبلية، كانت روح الأديبة تتنقل وتتآلف بين بيئة واخرى، وتتمرد على جفاف المعادلات الرياضية والمسائل الصعبة بالاختباء بين أسطر الفلاسفة وكبار الادباء متلفعة بطيات عيون كتب الأدب.
ولعل اكثر ما لفت نظرها وهي ماكثة في اقصى شمال العراق، هو ذلك التناقض المهول بين الجبل الشاهق بقمته، والوادي السحيق بعمقه، وكيف تختفي معالم الوجود عند القمة كما تختفي وهي بين طيات القعر ، وكيف يبدو الجبل قريبا وهو على بعد شاسع، مما ولّد لديها فلسفة أدبية خاصة، جعلت افكارها تتجلى بوضوح وهي تصطف الى جانب الشمس تارة، وتتلفع تارة أخرى بغموض مدهش، وتغوص بشكل يصيب القاريء بالحيرة والتفكر، واللذة في آن واحد!!
عاشرت زميلاتها الطالبات وهن يبتن بقسم داخلي واحد، فكانت تنظر الى كل صاحبة منهن على انها قصة انسانية كاملة صاغها الزمن، تختزن منها الجانب الذي ينمي عشقها لخوض تجربة الادب، دون ان تتخلى عن انسانيتها في التعاطف معهن وكتم أسرارهن بحال من الأحوال.
كانت القاضي ومنذ سنوات صباها ثورية الطبع، ترفض القوالب الجاهزة والصيغ المعتقة، وتنظر نحو الخالق والوجود بشكل مجرد من الخرافة وما يلصق بالدين من تفاهات، كما ورفضت الخضوع الى اي نوع من أنواع الطغيان، فبقيت مرصودة من قبل أعين النظام البائد الذي نجت من براثنه بأعجوبة ، مثلما عارضت الظلم والفساد والتطرف والتحجر..
فهي ووفق فلسفتها الخاصة تجد أن الخير لا يتجزأ، والشر لا يتجمل، وليس هنالك من فرق بين طاغ يعدم وهو ماقت للدين، ودجال يقتل باسم الله والدين ، وان الرب هو اسمى وأرفع من أن ترتكب الجرائم باسمه، وهو الخير المحض الذي خلق الانسان كي يحيا .
نضال القاضي.. سيرة ظل.
نجاح نضال القاضي كشاعرة جعل منها علامة من علامات الرواية، وتفوقها كروائية جعل منها كوكبا من كواكب الشعر ، وروايتها سيرة ظل جعلتها تخرج تأريخ العراق من الظل الى شمس لن تغيب.
وكاتب هذه السطور كعاشق للادب ولا يطلق على نفسه صفة الاديب، اقول اني كعاشق للادب أجد ان هذه الرواية ستظل محط دراسة الأدباء لعقود طوال،
لا لشيء الا لانها وبحق تعدّ تجديدا وانقلابا في عالم الرواية، حتى ان ناقدا كبيرا مثل الراحل الكريم احمد فاضل، أخبرني وبكل ثقة أن سيرة ظل، هي الرواية التي لن تتكرر مستقبلا.
ذاك انها تتناول تأريخ العراق منذ نهاية العهد العثماني حتى ما بعد زوال الطاغية صدام، والصراع بين النمطية والتجديد، والثورة والاستكانة، وموقف الجماهير الحقيقي مما يحيط به من قضايا لاسيما القضية الفلسطينية، وموقف الملكية منها، فتجعل التاريخ وببراعة نادرة، هو من يمر بك وانت ساكن مأخوذ بهذا السرد، وتقف عندك المحطات وليس العكس، لتظهر لك ما خفي وما علم من أحداث، كما وتتجلى الاحداث بصدق تام والكاتبة تتغلغل بعمق في حياة شخصوها، فتحسبها تبيت مع نسوتها بدار واحد، وتحلل هواجس وكوامن نفوس ابطالها لتخرج بلوحة اجتماعية تأريخية متكاملة تماما، علما أن تحويل التأريخ الى رواية هو أمر يتهرب منه كبار الأدباء، ذاك ان معظم من يتصدون لسرد التأريخ ادبيا يخفقون في التأريخ والادب معا، أما القاضي فلم تتفوق في هذا المضمار فحسب، بل وخلقت شخصيات خالدة ستظل حية تتنفس وتسير بيننا لا يلفها الفناء البتة، مثل نهاية وقيسة وسطيفان والمختار وسواهم ممن وظفتهم ليكونوا جزءا من رحلة سردها الادبي المتخم بالجمال وهو يرسم تاريخ العراق دون تحيز لجهة او تزييف.
الميتاسرد واشياء أخر.
الميتا سرد : هو نمطٌ فني في الكتابة القصصية والروائية. يعطي الحق للقصة أن تتحدث عن ذاتها وتنشغل بتركيب بنيتها الفنية. وهو الفن القصصي الذي يتحول فيه السارد الى المتكلم الذاتي ..
لذا فهو السرد الذي يتداخل الراوي بمجرياته مخاطبا المتلقي او محاورا شخصياته الروائية، وتندرج هذه التقنية الاسلوبية تحت عنوان ما بعد الحداثوي، وبتوظيف آليات قرائية تكشف عن عناصرالنص ومكوناته ووظائفه ..
هذا الفن القصصي هو واحد من اصعب ضروب الادب، اذا ما علمنا ان مجرد الكتابة بصورة حداثوية يخفق فيه الكثيرون، فكيف بما بعد الحداثة وبشكل متعدد الاصوات تجعل الرواية تارة على لسان الراوي، وتارة اخرى على لسان السارد الغائب.
لقد اعتمدت مبدعتنا في هذه الرواية، وفي باقي مجاميعها القصصية مثل ( مكان مألوف لدي) و (عصفور أدوم) على هذا الاسلوب
، وكذلك تعدد الاصوات (البوليفينية) والواقعية السحرية، والواقعية ذاتها، فلا تشعر بأنها تتنقل من أسلوب لآخر، او تقع ضمن المناطق الهشة في النص الادبي مثل الافتعال والمباشرة والتكرار وتصنع التعقيد واقحام الفلسفة وادني ركاكة في الاسلوب ، بل ستظل متشوقا لأحداثها الواضحة، وسابرا لأغوار الغامض منها، محاولا استكشاف ما ترمي اليه،
، وليست ترمي لغير ان ترتقي بفكرك نحو العلا، لا لشيء الا لأنها أحبت الانسان، وقدست كرامته وقضاياه العادلة وفكره الذي ينبغي ان يسمو دوما ولا يتشبث بالتخلف والافكار البالية :
(( بانتظارالحافلة التي كانت ستقلني من برازيليا الى سانباولو، خطر لي ان اخرج الكتاب من حافظته الجلدية حيث أخبّئه وكل حطام رقاقاته خوف أن يتعرّض الى هدر اكبر، ثم جعلت أنفخ اوراقه بنَفَس رفيق لتنقلب مثل جذع شجرة طاعنة امتصت النمال روحها كلها حتى ابعد تجويف فيها..))
وتقول في احدى صفحات روايتها سيرة ظل :
(ثم جلس، بدت السماء من خلفه شاحبة شديدة التعرق، وبشر بسحنة داكنة يسيلون بامتداد عال، تظهر حافاتها بموازاة الصخَور الرصاصية، لوحة تخفق تتجاوز البياض الفاغر المعلق علي مسنده، وتبصر كتلك السمرة الني تقطر ملحا كما كان يصفها منذ اكثر من ثلاثين عاما، وفي الكوخ عثز تلي قميص الفتاة محشورا في خزانة ملابسه.. )
في هذين النصين المجتزأين من لوحتين لها ، نلحظ ما يمكن ان نطلق عليه لفظة التكثيف الجمالي والايجاز في رسم صورة لوجود شاسع عبر أسطر قليلة دون إطالة،وبأسلوب أدبي خالص يذكرنا باساليب العظماء كافكا وماركيز واورويل دون ان تقلد أيا منهم بفكرة او صياغة او إشارة، فتنآى عن تلك النصوص المحشوة عنوة بالانشاء الفائض والتزويقات اللفظية، وكل سطر يمثل حدثا، او حركة، او خلجة من خلجات النفس، او ارهاصة روح تفضي الى حدث ما وليس مجرد استعراض قدرات ادبية بلا طائل أو نفع.
حتى الطيور والأشجار والجماد، نجحت القاضي في (أنسنتها) وجعلتها تنطق بالحكمة وتزخر بالمشاعر، فللصخر مكابداته وللشجر مخاوفه وللطير همه، مثلما تكابد العانس والارملة ومن ابتليت بكثرة العيال وشحة المال، كلها ادركت روائيتنا نضال القاضي لغتها وترجمتها لنا روايات وقصصا لايمكن الا ان نصفها بالنصوص الكبيرة، ليس لموهبة صاحبتها الكبيرة، بل لسعة اطلاعها وادراكها، وسعة قلبها الذي عشق العراق كل العراق، بلا استثناء