المجتمع معرفة والمعرفة قوة
انطون سعادة
مع بناء هذه الرواية نحن أمام ثلاث مخطوطات متداخلة كما هو الحال في الماتريوشكا – الدمية الروسية ، فالمتن الأساس أو قلب الرواية هي “الدمية” الأقدم او الأعمق وعنوانها ( قادم من زمن المجاعة ) وهذه مكونة من ستة فصول جميعها تحمل العنوان ذاته ! وسيكتشف القارئ لاحقاً أن مؤلفها أو كاتبها هو يوحنا بن إيليا. أما المتن الثاني فهو مكون من ستة فصول أيضا وعنوانه فصوله الستة هو ( ديترويت 1972) وسنعرف مع مسار القراءة أن صاحب هذه الفصول هو جون بن أنيس وأنه كتبها وهو يقرأ المتن الأول لابن عمه يوحنا. بل أن كل فصل من مخطوطة ديترويت 1972 يضم بداخله فصلاً من كتاب ( قادم من زمن المجاعة) وهنا نجد تركيباً فنياً أكثر تعقيداً أو تفنناً وجمالية من تركيب الدمية الروسية.
لنتخيل أن تلك الدمية الروسية كانت على شكل رأس داخل رأس وقدم داخل قدم وهكذا كل عضو داخل آخر وفي الحال ذاته كل دمية بكاملها داخل دمية. لا شك أن هكذا شكل يتعذر تركيبه في الماتريوشكا، لكنه هو التركيب والبناء الفني والشكل المختلف والمتميز في رواية غبار 1918.
وهناك اختلاف آخر فدميات الماتريوشكا تكون الأصغر في الداخل تحيط بها الوسطى الأكبر منها ثم الدمية الأكبر وهكذا، لكن أجزاء روايتنا من حيث التركيب والبناء الفني تشكلت بالعكس: الجزء الأكبر وهو كتاب ( قادم من زمن المجاعة) هو الذي في الداخل يحيط به الجزء الثاني الأصغر منه وهي مخطوطة ( ديترويت 1972) ويضمهما معاً الجزء الرئيس وهو أصغر من كليهما وهو الرواية ذاتها ( غبار 1918) !
إن كل فصل من كتاب ( قادم من زمن المجاعة) موجود داخل كل فصل من مخطوطة (ديترويت 1972) وكأن الإشارات هنا تقول أن بداخل كل سوري متغرب يمثله جون، ثمة سوري آخر أصيل عانى وارتبط بأرضه وهويته وأمته يمثله يوحنا( والسوري هنا ليس وفقا لتقسيمات سايكس بيكو وانما وفقاً وارتباطاً بسوريا الكبرى التاريخية والتي تضم سوريا الحالية والاردن وفلسطين ولبنان وسيناء وقبرص والعراق وما استولت عليه دول أخرى أو انفصل ) وما التغيير الخارجي الذي طرأ على حياة جون المتغرب في مهجره الأمريكي سوى تغيير شكلي لم يتجاوز السطح فقد كان تغييراً على صعيد الاسرة ونمط حياة عاشها سطحيا وتبديل الاسم من يوحنا الاسم السوري السرياني الآرامي العربي إلى جون وهو اسم يوحنا بالإنكليزية، إذ من المتوقع أن أنيس المناضل ضد الاحتلال العثماني والمتشبث المحب لسوريته أراد تسمية ولده في أمريكا باسم ابن أخيه يوحنا وما جون كإسم إلا ترجمة لإسم يوحنا.
وهذان معاً ( يوحنا وجون ) وكلاهما واحد – مكون من لب وقشور، من جوهر حي أصيل وجلد غريب منه – كما تقول القراءة العميقة للإشارات ومخطوطتاهما: ( كتاب “قادم من زمن المجاعة”+ مخطوطة “ديترويت 1972 ” ) وكلاهما الكتاب والمخطوطة يقعان داخل المتن الخارجي الرئيس وهو الرواية غبار 1918 وصاحبتها أو ساعية البريد التي أوصلتها إلينا هي الدكتوره فاتن المر.
وهنا لا أريد التوقف طويلاً عما أقصده ب ساعي البريد فقد ذكرت هذا مراراً ولكن لابد من إيجازٍ تقتضيه هذه القراءة، ويتلخص بأن المتعارف عليه أن العملية الإبداعية تقوم على أركان ثلاث( المبدع أو المؤلف + النص أو العمل الإبداعي+ المتلقي أو القارئ) وما أراه وهو سبب تسميتي لأي كاتب أو مبدع عموماُ بساعي بريد هو أنني أرى أن أركان العملية الإبداعية أربعاً وليست ثلاثاً وهي: ( القوة الغامضة المبدعة+ النص + ساعي بريد هو المؤلف كالروائي والشاعر والقاص الخ+ المتلقي أو القارئ أو المشاهد) وخير مثال تقريبي للتوضيح هو أن الإنسان يحلم وهو صاحب الحلم وليس غيره قطعاُ، لكن هل هو من ألف الحلم ؟ الجواب لا ثمة قوة غامضة مبدعة للأحلام على صعيد الفرد انتجته.
وهكذا على صعيد الجماعة البشرية كالأمة الواحدة لها أحلامها، وأحلامها هي الأعمال المبدعة ومنها النصوص المكتوبة كالرواية مثلاً، ومنتج هذه النصوص هي قوة جماعية غامضة مكونة من مجموع المخيلات المبدعة لأبناء الجماعة، ومن نسميه مبدعاً إنما هو ساعي بريد ينقل لنا نحن القراء رسائل من تلك القوة، وبالطبع ليس كل شخص يصلح أن يكون ساعي بريد مؤهل لحمل أحلام الأمة وآمالها إلى القارئ. أكتفي آمل أن أكون قد وضحت مقصودي بهذا الإيجاز السريع وأعود إلى غبار 1918.
غبار الحرب وما علق به من ذكريات وآلام ومعاناة سببها أسوا احتلال تعرضت له بلادنا وأكثرها تخلفاً وهو الاحتلال العثماني وكل هذا تدونه بدقة أو يدونه كتاب ( قادم من زمن المجاعة) لكاتبه يوحنا السوري وهو كما قلت المتن الأكبر والأهم والأساس للرواية ويشغل أكثر من 145 صفحة من الرواية (176 صفحة) نعرف من خلاله مآسي الحرب الأولى ومذابح الأرمن وسياسة المحو التي مورست بحقهم، ومن دون أن نشعر تقترن لدينا بالأصالة بالانتماء للأرض والبقاء فيها ويتلازم التزوير والتغرب مع من يغادرها وهكذا فعل آرام الأرمني الذي فرضوا عليه أن يحمل اسم أمير ثم انتحل هو اسم نظام الصبي المتوفى في الميتم التركي فعاش في أمريكا بعيداُ عن الهموم الكبرى وغرق في المتع السطحية على العكس من صديقه السوري يوحنا الذي بقي وفيا لأهله وأرضه وسار على نهج عمه أنيس.
كما نلاحظ مثل هذه الفروق بين جون الذي عشق الرياضة والحياة الحسية ولم يعترض على التخلص من كتب أبيه أنيس، وبين يوحنا عاشق الفكر وصاحب الكتب ولاشك إن اختيار الاسم يوحنا له دلالاته وقدسيته كثابت مقابل المتغير جون أو نظام- أمير- آرام.
إن الاختلاف بين يوحنا وبين جون هو ذاته الاختلاف بين كتاب ( قادم من زمن المجاعة) و مخطوطة أو يوميات ( ديترويت 1972) ولاشك ان المحصلة او الانتصار في النهاية هو ل يوحنا الذي قرر العودة إلى بيته بيت الأهل واستعادته وهنا هنا حسب قالت له زينة : لقد نجحت في أن تجعلني أحبك. وهذه ختام الكتاب ص175 ( قادم من زمن المجاعة ) .
(( ملاحظة: لا يفوت القارئ الحاذق أن يلاحظ الفرق بين الكتاب وبين المخطوطة أو اليوميات فالكتاب أكثر قوة وأشد رسوخاً وأصالة من المخطوطة التي لم ترتق بعد لمنزلة أن تكون كتاباً ىوهذه إشارة سيميائية بارعة للفرق بين يوحنا الأصيل بسوريته وبين جون المغلق بالأمركة والتغرّب!))
لكن مع هذا فثمة جزء ناتئ كأنه دملة بفريها انكشفت الحقيقة ل جون وعرف تحديداً من هو ؟ وأعني هنا ما سماه جون ب رواية يوسف وما حكاه لجون عن حقيقة أن والده هو أنيس وأن عمه إيليا والد يوحنا عاش حياة تهتك وتشرد في أمريكا وأنيس هو من أودعه عند مركز رعاية، وكل هذا كشفه يوسف بعد أن اختلطت المعلومات على جون حتى ظن أن والد يوحنا هو ذاته والده وليس أنيس / ص59. مستدلاً على ذلك بقصيدة حب كتبها أبوه لحبيبة له اسمها (عليا) وهي أم يوحنا وزوجة إيليا ومن حركة وضع يده فوق عينيه وهي الحركة ذاتها لإيليا كما وصفها ابنه يوحنا / ص98.
أما الصفحة الأخيرة ص 176 وصفحة ” ص4 ” الإهداء ( إلى زياد ) وعنوان الرواية ( غبار 1918) فهذه فقط تخص الروائية ( فاتن المر).
وكل المتن بمساحة 170 صفحة فمنسوب إلى جون ويوحنا الساردين أو الراويين الأساسيين وأحدهما وهو يوحنا بن إيليا كما تقدم يمثل ابن سوريا ابن الأرض وابن الأمة التي عانى ما عانته وعاش ما عاشته وانتمى إليها بكل ذرة من دمه وكيانه ووجدانه ولم يغادرها بل ضحى لأجل التشبث بها وإعلاء شأنها وختم حكايته أو كتابه بالعودة إليها إلى دارهم الأولى التي غادروها تحت ضغط الاحتلال ووحشيته، عاد اليها وهنا حظي بمحبة وطنه ممثلاً ب زينة التي تكبره بالعمر واسميها سوريا ودائما الأمة أكبر من جميع أفرادها وسوريا أو زينة هي فتاة أحلامه وحبيبته الأولى والأخيرة.
والثاني هو جون بن أنيس وهو السوري الذي ولد بعيداً عن أرضه ووطنه سوريا فعاش حتى لحظة ختام يومياته مؤمركاً ولكن ثمة ما يشير إلى احتمال أن يكون كتاب يوحنا ورواية يوسف قد أثرتا فيه وغيرت من نظرته تجاه أبيه أنيس/سوريا.
ويعزز هذا أن يوحنا في كتابه ص11 قال أن ( كل ما أتمناه هو أن يقرأ قصتي الشخص المقصود وأن يعرف ) لا شك أن المقصود هو جون بن أنيس حتى وإن كان يوحنا لا يعرف عنه شيئاً إذ لم يرد في الرواية ما يشير إلى معرفته بودود ابن عمه أنيس، وقد يكون ذاك القارئ المقصود هو عمه أنيس وإن كان يعتقد أنه أعدم، ولكن هذا ما حصل وتحقق فالقارئ المرتجى كان أنيس وكان جون وهدف الكتاب أن يستعيده ويخلع عن جلده الأمريكي الغريب المشوه لحقيقته ويعيد لسوريا … الاحتمالات مفتوحة هنا، وبالفكر وقراءة الماضي بوعي يمكننا أن نعي الحاضر ونصنع المستقبل الذي نريد. ثمة جملة مهمة في الرواية تقول : فيما بعد ستحاول الآنسة ماري انتزاع الذكريات من هذا الضباب لقناعتها بضرورة إلقاء نظرة شجاعة على الماضي للتمكن من بناء مستقبل ما على أنقاضه ! ص 19.
لقد سارت الرواية بخط طولي – بدءا من طفولة يوحنا وأسرته ومروراً بكل تلك الأحداث المأساوية التي عصفت بسوريا وأهلها وانتهاء بنهاية عمه أنيس وما كتبه عنه ولده جون – لكن أحداثها ( الرواية ) كانت متشعبة بدأت من الخاتمة في مخطوطة جون / ديترويت واختتمت ببداية في مخطوطة يوحنا / المجاعة، وكأنها تقول لنا البداية دائما للوطن والنهاية للاغتراب، البقاء للأمة ولا بقاء للغرباء، فمن ديترويت حيث توفي أنيس المناضل والمثقف السوري المغترب اضطراراً وقرار ولده الإذعان لطلب زوجته بالتخلص من كتبه ومنها الكتب الخمسة عشر التي ترجمها وغير ذاك مما تركه من أرث، لكن اكتشافه للكتاب السادس عشر الذي بدأ بترجمته وتوفي وهو بيده ( إشارة إلى التشبث به وبما يحتويه من غبار الوطن، غبار تلك الأحداث وهو ما يعني أنه يحتوي سوريا ويتشبث بها حتى لحظة وفاته !) مع اكتشافه لهذا الكتاب الذي أبى هو الآخر أن يقدم بلغة أخرى، لغة الاغتراب فبقي عربياً وقرأه جون بالعربية التي تعلمها من أمه ومن الأستاذ يوسف، ولا ندري بعد هذا، بعد أن أكمل قرأته، هل نفذ فعلا طلب زوجته بروك وتخلص من إرث أبيه، أو أنه عاد كما عاد يوحنا إلى سوريا ولعله مع عودته تلك تخلى عن جون وحمل اسمه الأصل، اسمه السوري يوحنا؟
ولاشك أن الرواية حفلت بالعديد من الشخصيات التي رُسمت ببراعة في السرد والوصف لكنها جميعا كانت تعزز الفكرة الأساسية وهي الوطن بمواجهة الاحتلال والوطن بمواجهة الاغتراب وتشويه الهوية وفي النهاية سوريا بمواجهة الاحتلالات كلها العسكري منها تركيا كان أم فرنسيا والاقتصادي منها الحصار والتجويع وكما يحصل الآن على سوريا لبنان الحاليتين وغزة والاحتلال الأخطر وهو الاحتلال الثقافي كم حدث في الميتم التركي الذي تم فيه تغيير أسماء الأولاد وفي بلاد التغرب والتأورب والتأمرك.
نحن هنا وبقراءة فكرية أمام الشعب أو الأمة ممثلة بعليا الجميلة وزينة وبشبابها الناهضين لحريتها وعزتها ممثلين ب يوحنا وأمامنا أيضاً (قياداتها) الذين خضعوا أمام الضغط أو الإغراء فرهنوا الوطن/ سوريا كما رهن إيليا بيته وكما أرادت عليا أن تفعل وكما فعل أنيس أيضا، إن رهن البيت دلالة على التنازل عن الاستقلال تحت ظروف مختلفة لا مبرر لها مهما قست، وكان الحل الوحيد هو باستعادة الوطن/ البيت من قبل يوحنا ابن سوريا المتشبع بها وبعطر أرضها والنابع من طينها ومائها وجبلها وهذا ما تحقق فعلاً ص175. وبنجاحه في أن يجعل سوريا الأمة/ زينة تحبه ص175.
عادة أتوقف عند ما سماه النقاد العرب الاستهلاكيون ب”عتبات النص” تأثرا بجيرار جينيت وأسميه “ثريات النص” انطلاقا من كتاب ثريا النص لأستاذنا محمود عبد الوهاب، فأتناول دلالات العنوان الرئيس ولوحة الغلاف والإهداء وغيرها من مقدمات لكنني سأكتفي هنا بالعنوان الرئيس ( غبار 1918) فكل ما حدث على بلادنا إنما كان بتأثير نتائج تلك الحرب 1914-1918. ولا أريد هنا أن أحدد مدى ضعف البصر سواء عند من ثاروا لدعم الأوربيين مقابل الأتراك وكلاهما محتل ( الشريف حسين وما سمي بالثورة العربية الكبرى التي انتهت بخدعة) أو عندما وقف العراقيون مع الاتراك ضد الانكليز وخاضوا معارك دامية انتهت بهزيمتهم، لكن النتيجة واحدة ! وكان الأجدى أن يقف أبناء سوريا موقف المتحفز لانتزاع حريته من دون تبديد طاقاتهم ودمائهم لخدمة أحد الاحتلالين ضد الآخر.
وللغبار دلالات أخرى فهناك مثل نتداوله في العراق وهو مأخوذ عن اليهود ( ما كو عجاج يهب إلا من أرض بابل) أي ليس هناك غبار يهب إلا من أرض بابل ويقصد به اليهود تلك الحملات الكبرى البابلية والآشورية التي دمرت دويلاتهم وقد قرأت في رواية “إسرائيلية” نشرتها مجلة الكرمل في عددها 15 وعنوانها (الطريق إلى عين الحارود) جملة بهذا المعنى نصها ” الضائقة دائماً تأتي من الشمال” وربما هي ترجمة محرفة لذاك المثل اليهودي، وعسى أن يكون غباراً جديداً تثيره أمتنا بجيوشها لتستعيد ما اغتصب منها بسبب غبار 1918 وهذا متحقق لامحالة.
يقول ممدوح عدوان عن الثائر الجزائري الشهيد ” علي لابوانت “
كان علي لابوانت ممنوعاً من رؤية أحياء بلاده
فغزاها بالغضب الفائر
حتى انفتحت
باباً
باباً
من ضربات عناده.
المجد للمعاندين الذين وصفهم أمل دنقل ” من قال لا في وجه من قالوا نعم”
والمجد ل يوحنا السوري المقاوم في مواجهة أسبر المتدني المتكرش الرخيص وأسياده كما رسمته فاتن المر.
وأسجل عجزي عن مجاراة واستقصاء كل هذه السيمياء العالية والإشارات التي تزخر بها هذه الرواية والتي تجعلنا ونحن نسعى لنقرأ بمنظار القراءة تحت الحمراء الكاشفة عن المتخفي والمستور، تجعلنا نشعر بمتعة القراءة ونردد ما قاله رولان بارت : إذا كانت دوال الكتابة تمشي فإن دوال القراءة ترقص.
تحية لكاتبة هذه الرواية المتميزة شكلاً ومضامين الدكتوره فاتن المر وأسجل إعجابي ب ( غبار 1918) كإحدى الروايات القلائل التي نالت إعجابي من بين العشرات من الروايات الفائزة بالجوائز العربية الكبرى.