ألف القراء الحديث عن محمود درويش كواحد من رموز الثورة الفلسطينية في مجال الإبداع الشعري، ذلك أن له باعا طويلا في النضال السياسي والاعتقال في سجون الاحتلال الصهيوني. وقد غطى ذلك على إبداعه في مواضيع أخرى كموضوعة الحب التي أبدع فيها أيما إبداع. ولعل قصيدة “هو الحب” واحدة من الأمثلة الإبداعية الفريدة والعميقة التي تعبر عن هذه العاطفة وهذا الشعور البشري.
ولأنه لا تخلو تجربة شعرية وإبداعية من استعارات وكنايات وصور بلاغية، فإنه كان حريا بدرويش أن يجعل من قصيدته هاته مسرحا تحتدم فيه هذه الصور، مضفية على منجزه جمالية ورونقا، إضافة إلى جعله قريبا من الأذهان والأفهام.
استنادا إلى ميكائيل ريفاتير يمكن أن ننظر إلى هاته القصيدة من خلال بعدين أساسيين، أو يمكن أن نسميهما طورين من أطوار القراءة:
– الطور الأول يدرك من خلاله القارئ المعنى في جانبه السطحي، إن ذلك يتجلى من خلال محاولة فهم مختلف الأدلة والتراكيب والجمل، وهي التي تعطينا ما يسمى الخبر. ومعلوم أن القصائد لا تمثل الواقع ولا تحاكيه، ولذلك فهي دائما تعبر بشكل غير مباشر، إنها لا نحوية. ولهذا، كانت لها بنية حركية وانسيابية تمنحها إمكانية التعبير والتدلال بشكل كبير.
– الطور الثاني، وهو القراءة الاسترجاعية، وفيه يبحث القارئ عن النواة التي ولدت القصيدة، والتي تعد هذه الأخيرة تمطيطا لها. إن القارئ هنا يمارس طقسا لعيبيا من خلال بحثه الدؤوب والمستمر عما يسوغ انتقاءه للنواة، وما يضمن تماسك وانسجام قراءته. إن لا نحوية الشعر تتأتى عبر مجموعة من المقومات لعل أهمها الاستعارات، وهي مصادر للجمال والإلهام، كما أنها موارد للمعرفة المضافة وللفهم غير المباشر.
من خلال القراءة المباشرة لقصيدة درويش نلفي أنفسنا أمام عدة أخبار ومعان تريد القصيدة إبلاغنا إياها، غير أن ذلك جاء بصورة غير مباشرة. ففي المقطع الأول يقول:
هو الحب، كالموج
تكرار غبطتنا بالقديم- الجديد
سريع، بطيء
بريء كظبي يسابق دراجة
وبذيء.. كديك
جريء كذي حاجة
عصبي المزاج رديء
هادئ كخيال يرتب ألفاظه
مظلم، معتم.. ويضيء
فارغ ومليء بأضداده
هو الحيوان/الملاك.
يجعل الحب المصاب به شخصا مليئا بالتناقضات؛ يفعل الشيء وضده، يقول الكلام ويقترف خلافه. إن هذا المقطع يشرّح الذات الإنسانية حال الحب، يصفها ويراكم السمات التي تعرفنا بشخصية المحب. لقد رسم الشاعر، انطلاقا من عدة تشبيهات، صورة تربك المتلقي عن ذات المحب، إذ إنه بذيء، وفي الآن ذاته بريء، عصبي، وفي اللحظة نفسها هادئ… إنه لا يستقر على حال. إن أداة تقريب هذه الشخصية من ذهن المتلقي كانت التشبيهات والاستعارات؛ ذلك أن هذين المقومين يشتغلان هنا كأداة للمعرفة وللفهم، إضافة إلى أبعادهما البلاغية والزخرفية. إن الحب، والذي صيغت من أجله الكثير من التشبيهات، عبارة عن مجاز مرسل، حيث اختزل الكيان الإنساني ككل وصار عاطفة فقط. إن ذلك بالنسبة إلينا يحيل إلى أن الإنسان عندما تتملكه خاصية معينة يمكن أن يعرف بها ويختزل إليها. وهنا نلفي أننا لم نعد نرى من هذا الشخص أية خاصية أخرى؛ إذ لم يعد كائنا بشريا، مفكرا، متكلما، عاملا… لقد تم النظر فقط إلى الشيء المميز فيه، حيث تم التبئير حول الصفة التي غدت تتحكم في ذاته وتجعله يتصرف كل هذه التصرفات المتناقضة، ذلك أنه لو كان مثلا مفكرا، ما تصرف بعصبية، ولكان هادئا فقط، ولو كان عاملا لشغله ما يصنع عن مثل هاته الأمور.. لكن هذا الشخص جعل الحياة كلها مختزلة في الحب، وكذلك الذين ينظرون إليه. إننا تصورنا هنا لهذا الإنسان يتحكم فيه ما تراكم عندنا من أفكار وتصورات عن الحب وما يفعله في المرء في ثقافتنا العربية وغيرها من الثقافات. ذلك أن هذا الشعور جعل من الشعراء حالة فريدة في مجتمعاتهم، تصرفوا فيها تصرفات غير عادية، مارسوا حياتهم بطريقة لا تراعي الأعراف ولا تحتكم إلى المعايير.. إنهم يرون الحياة كلها مختزلة في وجه المحبوب.
إن الحب، أو بالأحرى المحب، تأتي عليه لحظات يكون فيها هادئا، ساكنا، غير هائج، وهو في ذلك شبيه بالخيال: “هادئ.. كخيال يرتب ألفاظه”؛ ذلك أن الإنسان حال التخييل والكتابة يحتاج أكثر ما يحتاج إلى الهدوء والطمأنينة النفسية والمزاج الرائق. إن الشاعر لا يكتفي بصياغة تشبيه للحب، وإنما يعرفنا ويفهمنا أن الخيال ليس شيئا يسيرا، إنه يقتضي عدة أشياء، فأن أتخيل معناه أن أحلق بفكري ووجداني إلى أمور غير موجودة حال التفكير، إنه إنشاء عالم خاص من خلال الصور والأفكار والكلمات.. وهذا ما يجمع الحب بالخيال، إنهما معا يقودان إلى إنشاء عوالم لا وجود لها، عوالم ممكنة قد تتحقق وقد لا تتحقق.
إن هذا السطر قد جمع بين أدلته ما يربك القارئ والمتلقي؛ ففيه تشبيه، ويتجلى في تشبيه عاطفة بملكة، وكلاهما غير مرئي، وإنما ندركهما من خلال آثارهما في الوجود الإنساني. غير أن ما يزيد من حيرة المتلقي الاستعارتان الأخريان اللتان تليان التشبيه. إن ما يحكم تصور الشاعر للخيال هو تصوره للإنسان، كما أن ما يحكم تصوره للألفاظ هو تصوره للأشياء الملموسة المحسوسة.
إن ما يجمع الإنسان والخيال صعب على القبض، ذلك أن الأول ذات محسوسة ملموسة، في حين يتمظهر الثاني بعده ملكة باطنية ونفسية. وهنا تتجلى عبقرية الشاعر؛ ذلك أن صياغة المجاز، كما رأينا عند أرسطو، تدل على موهبة بصرية قادرة على إدراك وجوه الشبه في أشياء غير متشابهة؛ ذلك أن “ما يراهن عليه التعبير الاستعاري(..) هو إظهار قرابة ما، حيث لا ترى النظرة الاعتيادية أية قرابة”. إن ما يجمع بين الخيال والإنسان هو انتماء الأول للثاني، إنه جزء منه، إذ إن من مميزات الذات الإنسانية قدرتها على التخييل وإنشاء عوالم غير حقيقية. لكنهما يشتركان أكثر في قدرتهما على الترتيب. إن الإنسان قادر على ترتيب المعقولات عن طريق العقل، والمحسوسات انطلاقا من الجوارح. بينما الخيال يستطيع فقط ترتيب الأفكار غير الواقعية. إن الترتيب يستلزم وجود يدين قادرتين على حمل الأشياء، ورجلين تصيّرانها إلى المكان الذي يود المرء حملها إليه. كما أنه يستلزم وجود فوضى، إذ لا ضرورة لترتيب الأمور وهي منظمة أصلا. لقد استطاع الشاعر تخدير كل الأمور المميزة للإنسان من نطق وتفكير وتمتعه بجسد يحتوي كل الوجه والأحشاء وغيرها. إن الإنسان هنا قد اختزل إلى الأدوات القادرة على الترتيب وجمع الشتات. إن ترتيب الألفاظ من لدن الخيال قد جعل الشاعر يصورها بعدها أشياء متجسدة ومحسوسة؛ إنها أشياء يمكن نقلها وإمساكها والقبض عليها؛ وإذن فهي مرئية، وهذا ما ليس في جوهر الألفاظ.
لقد صور الشاعر ذات المحب باعتبارها ذاتا تعيش جملة من التناقضات والصراعات، وهو في هذا يستلهم التراث الشعري العربي وغيره. ذلك المحب بمن أحبه قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، وهذا ما يصوره عروة بن حزام حين قال:
وَإِنِّــي لَــتَــعْــرُونِـي لِـذِكْـرَاكِ رِعْـدَةٌ
لَـهَـا بَـيْـنَ جِـسْـمِـي وَالْـعِظَامِ دَبِيبُ
وَمَـــا هُـــوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَـــا فُـــجَــاءَةً
فَــأُبْــهَــتَ حَــتَّــى مَـا أَكَـادُ أُجِـيـبُ
وَأُصْـرِفُ عَنْ رَأْيِي الَّذِي كُنْتُ أَرْتَئِي
وَأَنْـسَـى الَّـذِي حُـدِّثْـتُ ثُـمَّ تَـغِـيـبُ
وَيُـظْـهِـرُ قَـلْـبِـي عُـذْرَهَـا وَيُـعِـيـنُـهَا
عَـلَـيَّ فَـمَـا لِـي فِـي الْـفُـؤَادِ نَـصِيبُ
وَقَـدْ عَـلِـمَـتْ نَـفْـسِـي مَكَانَ شِفَائِهَا
قَــرِيــبًــا وَهَــلْ مَـا لَا يُـنَـالُ قَـرِيـبُ
وهذا ما يمنح استعارات وتشبيهات درويش هنا تماسكا، وهو نفسه ما يجعلها قابلة للتأويل ومستساغة ضمن بنية الثقافة العربية، إذ سبق وأن أشرنا إلى أن أرسطو رأى أن مقبولية وتأويل استعارة ما رهين برؤية المجتمع والثقافة التي يعبر عنها ذلك الخطاب. ولقد عرفنا ما الذي يسببه الحب في الذات المحبة، وكيف تنظر إلى الأشياء والحياة.
إن المعنى أو الخبر الذي ينقله النص يتمظهر من خلال تراكم مجموعة من المواصفات والسمات التي جلت لنا نفسية وباطن الذات المحبة. إنه قد عمد إلى إبطاء، بل وإيقاف السرد، ليفسح المجال أمامه للكشف عن مكنونات الذات الإنسانية، معبرا عن التناقضات التي تكتنفها وتؤطر رؤيتها للأشياء والوجود. وهذا ما سيتبدى من خلال المقطع الثاني والأخير، حيث يقول:
بقوة ألف حصان , وخفة طيف
وملتبس ,شرس , سلس
كلما فر كر
ويحسن صنعاً بنا … ويسيء
يفاجئنا حين ننسى عواطفنا
ويجيء …
هو الفوضوي/ الأناني /
والسيد /الواحد /المتعدد
نؤمن حيناً ونكفر حيناً
ولكنه لا يبالي بنا
حين يصطادنا واحداً واحدة
ثم يصرعنا بيد باردة
إنه قاتل … بريء.”
إن إظهار المعاني المتولدة عن الاستعارات وغيرها من الصور البلاغية يقف بالقارئ أمام البعد الأول من أبعاد القراءة، ومع ذلك فهو السبيل الأمثل لبلوغ القبض على الرحم أو النواة التي ولدت القصيدة، إذ إن المتلقي سيكتشف بيسر وسهولة من خلال حل لغز الاستعارات أن نواتنا هنا هي: التناقض. وذلك نتيجة تراكم مجموعة من السمات التي كشفنا عن بعض منها.
——–
باحث من المغرب