شهد العصر العباسي تحولات كبيرة مست جوانب الحياة في مختلف تشعباتها ، وكان الأدب شعره ونثره مرآة عكست هذا التحول الجلي الذي بانت معالمه واضحة الأثر في كل تفاصيل الحياة ، سياسة واقتصادا ومجتمعا وسلوكا وقيما ، فانقسم المجتمع العباسي إلى فئات تمايزت طبقاتها منها ما استطاع الوصول إلى مناصب كبيرة في الدولة ومنها طبقات الحرفيين ومنها طبقات أهل الفاقة والكفاف ، واستطاع الأدب عبر كل فترات الحكم الإسلامي في بغداد أن يصور بجلاء أنماط العيش التي وسمت البيئة العربية المختلطة بغيرها من الأعراق ، فكان التناقض من أبرز سمات المجتمع العباسي ففي الوقت الذي كانت فيه الترجمات والعلوم منتعشة والأعطيات من خزائن الدولة الممتلئة خاصة زمن المنصور وهارون الرشيد طوع أهل العلم من اجل تنشيط الحياة الثقافية والعلمية ، كانت فئات دخيلة لا تزال حاقدة على الإسلام تحارب العقيدة بشتى الطرق عبر وضع الحديث النبوي وتزوير وانتحال الموروث الشعري العربي وتمجيد تاريخ بلدانها المفتوحة في عقر الدار العربية ، كان لنشر المجون ومستلزماته أهميته القصوى في الإخلال بمنظومة القيم في المجتمع الإسلامي إذ لم يكتف أولئك المعادون للإسلام بمحاربة العقيدة وحدها وإنما وجدوا في أخلاق الإسلام ثوابت كان لابجد من هدمها فهي كالباب عبره يدلفون إلى فناء العقيدة ، فنشروا أصناف الغناء وتفنننوا في إدخال آلاتهم الموسيقية وألحانهم ورسخوا ثقافاة الجواري والغلمان والخصيان وشرب الخمر والتزندق والعربدة ففسدت قيم كثير من الناس وجهر بالمعاصي وارتكبت الفواحش وارتفع الصوت بالآذان في حالة سكر وقرأ القارئ شعرا في صلاة عوض قراءة القرآن ورفع امر كثيرين إلى السلطان فجلد جلدا أو أدخل السجن لارتكابه فعلا يدخل في خانة الزندقة ، فكان الشعر العربي أوضح المرايا التي عكست صورة المجتمع العباسي الماجن في شخص أعداد من الأفراد عرفوا بالمجان كالحسين بن الضحاك وأبي نواس ووالبة بن الحباب ومطيع بن إياس وأبان اللاحقي وغيرهم ممن تبجحوا بمجونهم ووجدوا أن الدنيا فتحت لهم ذراعيها فأقبلوا على اللذات والشهوات يأتونها بغير انقطاع حتى غدت المجاهرة عندهم بالسوء والمعصية أمرا مألوفا ، بل غدا الاجتراء على الدين والتشكيك في الغيبيات من مسلماتهم الفلسفية كما نجد عند زعيم المجان وقادتهم الحسن بن هانئ حين يقول معاتبا من يلومه على شرب الخمر غير مكترث للمصير:
يا عاتبا على صهباء صافية صر في الجنان ودعني أسكن النارا
وتشكيكه في أمر الغيب أخطر حين يقول :
ما جاءنا احد يخبر انه في جنة من مات او في نار
وفي موضع ىخر نجده ينكر القدر والجبر معترفالا بالموت لاغير فيقول
يا عاذلي في الدين ذا هـــــجر لا قدر صح ولا جــبر
ما صح عندي من جميع الذي يذكر إلا الموت والقب
فاشرب على الدهر وأيـــامه فإنما يـــــــهلكنا الدهر
وظهر الفحش في الكلام في المتن الشعري بدعوى التحررونبذ القيود التي أرستها العناصر الدخيلة على الثقافة العربية كما أشار إلى ذلك ” فون كريمر ” الذي اعتبر أن حرية الإرادة التي نشأت بتأثير عناصر أجنبية عن الإسلام تطورت إلى نزعة عدم مبالاة بالدين ، مما يدل على أن ةتيارالمجون لم يكن وليد بيئة الترف فحسب وإنما كان نتاج لتأثيرات الثقافات الوافدة فتشكل في تلاوين مختلفة كان منها بذاءة القول التي أعلن عنها الشعراء جهارا وقد ذكر صاحب الأغاني منها نماذج نتركها لفحشها حسبي الإشارة إلى ما ورد في قصيدة لعمارذي كبا ر: أشتهي منك منك منك مكانا ……
وكان من الشعراء من هاجم الأركان واستهزأ بفرائض الدين فتهكموا من الصلاة والصوم وجعلوها موضوعا لأشعارهم ، ومنهم من جاهر باللذات وارتكاب الفواحش وأشكال الحرام يقول الوليد بن يزيد :
أشهد الله والملائكة الأبرار والعابدين أهل الصـــــــــلاح
أنني أشتهي السماع وشرب الكأس والعض للخدود الملاح
وأعلن المجان عن شذوذهم بدون خجل يؤكد تحللهم من كل القيود الاجتماعية والأعراف الأخلاقية كما في قول والبة بن الحباب :
حتى إذا ما نتشـينا وهزنا إبلـــــيس
رأيت أعجب شيء منا ونحن جلوس
هذا يقبل هـــــــذا وذاك هذا يبوس
لقد بلغ المجون ذروته في التاريخ الإسلامي خلال القرن الثاني الهجري وصار وجها من وجوه الحياة الاجتماعية لم يكن قاصرا في حقيقة الأمر على عصابات المجان وإنما انداحت دائرته لتشمل أطياف المجتمع الإسلامي برمته مما يدل على قوة جرفه التي أتت على الأخضر واليابس خاصة وأن من دعاة المجون من تخطى حدود الرقابة وأعلن عن الإتيان بالمحرم علانية دون تورع ولا حشمة ولا اعتبار للوم لائم وعذل عاذل قال بشار بن برد :
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطـــــيبات الفاتك اللهج
قالوا : حرام تلاقينا فقد كـــــذبوا ما في التزام ولا في قبلة حرج
ولابد ان تيارا من هذا النوع لا يمكن أن يظل في جولات وصولات دون مقاومة ومناوءة سواء من قبل السلطة الحاكمة ومن قبل رجال الدين سواء من أهل العلم أو أولئك الوعاظ القصاصون فقد كان لهم دور كبير في ردع هذا الزحف القيمي المتعفن ، فأسهموا في ظهور تيار مضاد من قبل طبقة اجتماعية وجدت في مبادئ الدين وقيمه الملاذ الآمن خاصة أن كثيرا منهم لم يحققوا حلم الحصول على مكاسب مالية فكانوا عن حياة الترف أبعد ما جعلهم يلجأون إلى الله منصرفين عن الدنيا التي أدرات لهم دهر المجن، خاصة في بيئة البصرة التي شهدت وجود المتصوفة والزهاد أكثر من غيرها ولعل ذلك راجع إلى كثرة أهل الفاقة والعوز فيها لسوء توزيع الثروة ما جعل هذه الفئات تعتصم بحبل الله لنيل ثوابه الأخروي بعدما ترسخت عندها قناعة بزوال الدنيا وفناء ملذاتها ، فكان الحسن البصري الأب الروحي لهذا التيار إالذي حاول التصدي للمجون والزندقة مثلما حاولت حركات عديدة من قبل مثل حركة سهل بن سلامة وحركة الدريوش القضاء على أشكال العربدة والتهتك والخلاعة .
لقد بزغ تيار الزهد والتصوف في البيئة البصرية نتاجا للتفاوت الطبقي وعدم التوزيع العادل للثروة وفي الكوفة نتيجة الحسم السياسي من قبل السلطة الحاكمة التي واجهت المجون بكل حزم ، فتجلى زهد الزهاد وتصوفهم في مقطوعاتهم كرابعة العدوية التي أشاعت روحا جديدة على التصوف الإسلامي من خلال التجريد والتسامي الروحي لدرجات العشق الإلهي فهي القائلة :
أحبك حبين حب الهــــــوى وحبا لأنك أهــــــــــل لذاكا
فأما الذي هو حب الـــهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهــــــــل له فكشفك للحجب حتـى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ويظل أبو العتاهية الشاعر العربي الذي يمثل تيار الزهد خير تمثيل حتى إن اسمه في تاريخنا الشسعري مرتبط بالزهد ، فبعد مجونه وانغماسه في اللذات تقززت نفسه وجعلته ينأى عما كان فيه من خلاعة ليزيل تلك الغشاوة عن قلبه ويكون من أكبر زهاد عصره ، لكأنه أعلن عن ثورة كانت في داخله مختبئة فأخرجها من مكمنها ليعلن عن زهده وفلسفته في الحياة التي أدرك حقيقتها بعد طول خبرة فقال :
لا يفخر الناس بأحسابهم فإنما الناس تراب وما
فقد كان لتأثير الحسن البصري ومواعظه وقصص الوعاظ في عصره وخطابات الديانات والثقافات الدخيلة تأثير كبير على توجه أبي العتاهية ، إذ ظهر ذلك التأثير قوي الأثر في متنه الشعري فنجده يستلهم مواعظ الحسن البصري المنثورة أحيانا فيعيد صياغتها شعرا ونجد تأثير المسيحية في شخص وعاظها كما ذهب إلى ذلك كارل بروكلمان وأثبت ذلك المستشرق الألماني ” أوسكار رشر ” (Oskar Rescher) في ترجمة كتاب تاريخ الأدب العربي حيث أكد على وجود معان وأفكار نصرانية في زهديات أبي العتاهية ، وهذا أمر لا نجد فيه حرجا بحكم القواسم المشتركة في الجانب القيمي بين المسيحية والإسلام إذ لا تعارض في مثل هذه الجوانب ، لذا كان أبو العتاهية على دراية تامة بجوهر الفكر الديني الذي استدمجه في متنه الشعري ، مثلما أن الوحي كان مصدرا لزهدياته وهو أمر لا يخفى في شعره حيث تظهر مسلمات الفناء والحساب والمجازاة بالأعمال وما شابه هذه الأمور التي أقرها الإسلام في منظومته يقول أبو العتاهية :
المـــــــوت حــق والدار فانية وكل نفس تجزى بما كسبت
وأحضرت الشح النفوس فكلها إذا هي همت بالسماح تجنبت
وغير أبي العتاهية شعراء آخرون ظهروا في الساحة الأدبية حملوا لواء التصوف والزهد منهم محمد بن كناسة ابن أخت إبراهيم بن أدهم المتصوف المعروف والزاهد بشر بن الحارث والشاعر محمود بن الحسن الوراق ومحمد بن يسير وغيرهم ، مما يدل على أن هذا التيار انتعش بشكل لافت للنظر في الثقافة العربية ليكون الجدار المنيع المقاوم لتيار المجون مما جعل العصر العباسي بدءا من القرن الثاني الهجري قرنا موسوما بصراع الأضداد التي عاشت في بيئة واحدة ظل فيها التجاذب قائما بين دعااة المجون ودعاة الزهد ما أسهم في إغناء الشعرية العربية وشحنها بروافد ثقافية وفلسفية ودينية وذاتية متعددة لم تكن لتتشكل في الأبنية الشعرية لولا صراع الأضداد في البيئة العربية.