تهدفُ القراءةُ إلى الكشفِ عنْ بعضِ القيمِ المتجسدة في الومضةِ المختزلة، التي تُعبِّر عنْ قيمٍ إنسانية انفلتت عنْ المحور الحياتي لأسباب عدّة، يظهر ذلك من خلال تمظهرات شاعرية.
تُحافظ فيه القيم الإنسانية على توازنات حياتية تجعل للإنسان حياة سامية وغاية ينشد لتحقيقها، سواء أكانت هذه القيم اكتسبها بوساطة الدين، أم الأعراف، أم العلم والمعرفة.
إذْ نجدُ مختارات من هذا الكتاب تؤثث لمثل هذه القيم التي تؤطر العلاقات الإنسانية مع بعضها البعض ضمن جماعة ثقافية ما، أو علاقة الإنسان بنفسه بوصفه فردًا مُتشكلا ضمن فئة ثقافية ما، أيضًا كون هذه الومضات أُنتجت ضمن وسط ثقافي ما، ذلك أنَّ “المجتمع والتعبير ملازمتان، غير أنّ بينهما أمرًا لا يبدو قابلًا للمساومة عليه، ونعني تغير القيم، أو تبدلها لارتباطها بخطاب متعالٍ (ديني- ثقافي- اجتماعي)، و هو ما يُشكِّل المنظومة القيمية التي تشكِّل مظهرًا يتصل بالهُوية التي تقاس على مكونات عميقة”
وقد تأتي هذه القيمة بدءًا من العنوان، وتأتي الومضة بشقيها واصفة شارحة، وقد يأتي العنوان نتيجة الومضة نفسها.
ومن هذه القيم في المختارات الآتية:
❖ قيمة الاستمرار والنماء.
تتمثل في الومضة الآتية:
خصوبة
تمسك بها نخلة؛ تساقطت ثماره.
يأتي العنوان مُمثلًا لقيمة حياتية كبرى ألا وهي الحياة وتجددها ونماؤها، فيوحي صدر الومضة إلى اتخاذ الأسباب والتمسك بإرادة البقاء، بل تمسك بالعلو، ذلك أنَّ النخلة بطولها تُشير إلى قمتها، وإلى تجذرها في الأرض، فهو تمسك وتجذر في الأرض، وهنا يأتي هذا التساؤل حول هذا الرمز؟ من هي النخلة؟ هل تكون الأرض؟ أم قد تكون الأنثى وكلاهما يبعثا في الروح قيمة التمسك بالحياة.
وهنا تحدث المُقابلة إذْ يكشف لنا الجزء الثاني منها النسق المضمر ألا وهو مقدار الخيبات والخذلان الذي لاقاه؛ ليتساقط ثمره، التي تعدُّ مصدرًا لبقائه في الحياة، فهذا نسقٌ مُتشكّل من الثقافة ذلك أنَّ “هذا المؤلف المضمر هو الثقافة، بمعنى أن المؤلف المعهود هو ناتج ثقافي مصبوغ بصبغة الثقافة، أولًا، ثم إنَّ خطابه يقول من داخله أشياء ليست في وعي المؤلف، ولا في وعي الرعية الثقافية، وهذه الأشياء المضمرة تعطي دلالات تتناقض مع معطيات الخطاب سواء ما يقصده المؤلف أو ما هو متروك لاستنتاجات القارئ”( ).
فتلك الثمار هي حصاد عمره، وفي لحظة زمنية فارقة تسقط؛ لأنه لم يجد ذلك الحنان والامتلاء؛ ليُحافظ على ما معه، من محبة ومشاعر، ويأتي التساؤل، هنا، هل في هذه الجملة الثقافية المتشعرنة توقفت تلك الخصوبة، أم أن ذلك الشخص / المُتخيل سيبحث عن مصدر مُشعٍ آخر، أو نخلة أخرى، أو أرض أخرى ليحيا من جديد.
❖ قيمة الخُلق:
تأتي قيمة ثقافية أخرى من خلال الِعلم المتجسّدة في الومضتين الآتيتين:
عالمٌ
اغتر بعلمه؛ تواضعت العتمة.
رافقه الكِبر؛ تخلتْ عنه القيم.
يحاولُ الجزء الأول أنْ يوضِّحَ أنَّ الغرور سيطر على هذا الإنسان، فحوّطة من كل مكان، فلا ينظر إلّا نفسه، فلا يقبل أي نصيحة أو نقد يُوجه له، حتى أنّ العتمة تواضعت، استخفافًا بهذا المغتر، فلولا العتمة لما أصبح عالمًا!
فنلحظ أنّ الكاتبة لم تقل تواضعت (المعرفة) أو تواضع النور، فيتجلى التناقض، والإيجاب من جانب آخر، فإنه لو لم يُدرَك الجهل لما سعى الإنسان نحو المعرفة، ولولا الظلام لما بحث الإنسان عن نور يستضيء به، فهذا العَالِمُ الجاهل اغتّر بما لديه من شذرات معرفية، ولا محالة سيهلك!
ثم تأتي الومضة الأخرى على نفس لازمة العنوان فتظهر قيمة أخرى تجسدت في هذا العالَمِ وهي الكِبر، التي هي نتيجة طبيعية لمن تملّكه الغرور، فكان الغرور سببًا ليتخلى عنه التواضع، فجاء الكِبر لتتخلى عنه كل القيم، فالكبر والغرور قيمتان سلبيتان يغرسا سوءتهما في الجاهل.
❖ قيمة الصدق:
مصير
انكشفت حقيقته؛ أخفته الحروف
يأتي العنوان، هنا، نتيجة مصير وإلى أين؟ لا ندري! فهذا العنوان الرمزي يؤدي بنا إلى التساؤل الثقافي؛ فتنفتح تأويلات عدة لدى القارئ!
حتى أنّ الجزء الأول من الومضة الشارحة بانكشاف حقيقة الشخص من خلال مواقفه أو أي شيء آخر، فيكشف لنا النسق المضمر من إخفاء الحقيقة، وعن طريق ماذا؟ عن طريق الحروف التي هي بالأساس سلاح قوي مع الحق، لا مع سلطان المواربة، فالكتابة بدلًا من أن تكون صادقة شارحة للحقيقة، أصبحت كذبًا وتزليفًا، ومواربة، فهذا نسق ثقافي حاصل، تتجلى فيه ضرورة الصدق الكتابي، فقرينة الإخفاء تكشف عن نسق الترصد الكتابي بمحاولة أن لا تنكشف الحقيقة!
قيمة الحرية:
حرية
سلبوها الإرادة؛ عشقت الجبال
جاء العنوان واضحًا بسِمْة الحرية، وما لها من قوة إرادة، فيكشف الجزء الأول منها عن نسق القوة المضاد من الآخر، فيعمل على سلب وأخذ الحرية وسلب إرادتها، ومحاولة ثنيها عن عزمها، باتّخاذ وسائل السلب بطرق شتى، فتستمر الحكاية، ويظهر النسق المضاد الإيجابي بأن تولي شطرها في الجزء الثاني من الومضة نحو الجبال، وما يوحي إليه الجبل من الصمود والشموخ والعلو والقمة، فمهما تغيرت عنها الظروف فلن يستطيع أحد ثنيها وسلب قوتها في تحقيق ما تصبو إليه، وقد فطن (أفلاطون) إلى الحرية في دستور الجمهورية؛ لأنّ الهدف مِنْ وضعه ليس تقييد الحرية أو الالتزام القهري لسلوك الأفراد داخل الجمهورية، وإنّما إتاحة الحرية للجميع وفقًا لنظام ما؛ لأنّ الدستور الذي يعمل على إتاحة الحرية الإنسانية وفقًا لقوانين تسمح لكل حرية أنْ تقوم مع حرية الآخرين لهو- على الأقل- فكرة ضرورية يجب أنْ تكون أساسًا لكلِّ القوانين .
❖ قيمة الانسلاخ عن الذات، تجسدت في:
غرور
ثملت ضمائرهم؛ اقتدت بهم الحانات
ما لفت انتباهنا عنوان (غرور) وومضته التابعة له، ليظهر تساؤل ما علاقة الغرور بأن تثمل الضمائر؟ بل وتكون قدوة في الثمل! هل الغرور نتيجة الفعل؟ أم أنَّ الفعلَ هو الآخر نتيجة الغرور؟ أيُّ ضياع حتمي هو! فإذا سقط الضمير سقط كل شيء! بذلك تنسلخ الذات وتكون منقادة لأي شيء، ليس هذا فحسب، بل تبعتهم الحانات وكأنهم قدوة في هذا الضياع، فهل القيمة في الغرور؛ لأن الغرور يصبح أعمى ينقاد وراء كلِّ خيبةٍ دون أنْ يشعرَ، أم القيمة في سقوط الضمير في وحلِ الثمل، فلا هو يدري ما يقول ولا ما يعمل؟
قيمة الجزاء:
عِقاب
كمموا الحق؛ احترقوا بشظاياه
جاء العنوان نتيجة تكميم الحق، فهنا جسّد الجزء الأول جماعة ثقافية معينة انتهجت أسلوب القمع في تكميم الأصوات الناطقة بالحق، واتخاذ أساليب معينة، قد تكون السلب والتهديد، القوة، الضرب، الاخفاء،… فجاء الشطر الثاني ليبين نتيجة ذلك الفعل المشين، فكانت النتيجة الاحتراق بقوة الحق، ذلك أنَّ قوة الحق لا سبيل لتكميمها، فاحترق بهم عملهم، وكلمة الحق هي الأعلى، فتُبين الكاتبة قيمة سامية هي قول الحق في أي مكان وزمان.
خلاصة القول:
نجد أن هناك قيمًا تخلّى عنها أصحابها دون وعي منهم، أو لا يعرفون أنّها أصبحت ممارسات حياتية، وبسبب سرعة التطورات فهي مواكبة لهذه الحداثة الزائفة، التي تجعل الكلّ في سباق للسيطرة والأخذ دون الالتفات للعقبات، فنجد يسقط الضمير ببخس، ويفقد الإنسان حريته لقول الحق؛ ذلك لأنَّه ظهرت قوى أخرى تريد السيطرة وتكميم الأفواه وسلب الإرادة. كما أنّ المجموعة مليئةٌ بمثل هذه القيم التي تنازل عنها أصحابها، فهي معالجة جاءت بصورة شعرية بلاغية؛ لتُجسِّدَ ما لا يمكن قوله صراحة.