
لم يكن ذلك الارتفاع الشديد في حرارة جسده المصاحب لالتهابات الحلق غريبًا عنه، إلا أن الجديد في مرض ذلك الفتى ابن الـ 14 ربيعًا، كان غياب تلك التي ترعاه في مثل هذا الظرف، أمه، والتي ترقد لليوم التالي مُمدَّدةً في المشفى.
داهمها التيتانوس ، لكن لا بأس، اعتاد أن تمرض، ثم تنهض من جديد لمزيدٍ من الرعاية بأمور الأسرة، لكنه حقًا يفتقدها، وحال المرض بينه وبين الذهاب إليها.
كثير من الشوق أنهضه، تحامل على نفسه، وقطع الطريق يجر سكرة الحمى إلى حيث ترقد، يقابل في الطريق ابن عمه قافلا من المشفى بوجه مكفهر، يخبره على عجلٍ وهو ماضٍ في طريقه، أن والدته سوف يتم نقلها إلى البيت، دون أن يدلي بالمزيد.
توقّع الفتى أن الخطر يحيقُ بأمه، لكنه اعترض في قرارة نفسه على صنيعهم، فكيف يفقدون الأمل في أن يؤتي تلقيها العلاج في المشفى ثمرته، لماذا يفعلون؟
مضى في طريقه إلى المشفى ليدركها قبل أن يتم نقلها، وهنالك على باب المشفى كانت الجدّة تُرى من بعيد وهي تناوب وضع يديها على رأسها، لا ريب أن والدته قد ساءت حالها بالفعل، لكنها ستعود كما كانت تعود في كل مرة، لا تزال شابة في السادسة والثلاثين، والأمهات من حوله يعشن طويلا، يعشن حتى يحملن أحفادهن.
اقترب، الصراخ يعلو، الجدة ترثي فقيدتها، أما هو فقد وقف، بلا حراك، بلا دموع، بوجهٍ خالٍ من التعبير، فقط يحاول أن يستوعب، ما الذي يعنيه أن تموت هي، نعم هو يدرك فجأة الموت، وشهد موت الكثيرين في العائلة، والحيّ، لكن أن تموت هي، كيف؟
وفي صمتٍ ذاهلٍ كان يرقب والدَه الذي فُجع بالخبر بدوره، وللمرة الأولى يرى الدموع في عيني والده المهيب، كسره الموت، أما أخوه الأكبر الذي أتى إلى المشفى فور علمه بوفاة أمه، فقد يظل يصدم باب المشفى برأسه في صراخ هستيري، كل ذلك يحدث أمام ذلك الفتى الذي لم يحرك ساكنا، بل وقف صامتا لا يُرى على وجهه أثرٌ لأي انفعال، كأنه من عالم آخر.
أخيرًا أفاق من ذهوله بعد أن أخذوه إلى البيت انتظارًا لمقدم جثمانها من المشفى إلى حين تشييع جنازتها في اليوم التالي، كان انتظاره بكاءً وصراخًا يفتت الصخر، توقف وهو يراقب السيارة تدخل الحي، هنالك انقطع التيار الكهربائي وهم يخرجونها، أخبرته الجدّة فيما بعد أن الله أراد لها سترًا، صعد معها إلى المنزل، يعلم أنها الليلة الأخيرة.
يُدخلون الجثمان إلى إحدى الغرف وهو معهم، وبينما يضعونها على السرير، رأى وحده ما أصاب قلبه بالشيخوخة وهو في هذه السنّ، وحده من رأى تلك الفتاة التي وصلت عامها الخامس، تطلّ برأسها من الفراغ تحت السرير، علمتْ أنهم أحضروا جسد أمها الذي لم يعد يتحرك، بعد أن صعدت روحها إلى السماء، هكذا أخبروها، لكنها كانت فزعة من مطالعة والدتها على هذا النحو. اختبأت، هو وحده من رأى عيونها السوداء الواسعة تأتلق على ضوء الشموع خوفًا، تنظر إليه هو تحديدا، لوهلة تطلّع في عينيها، يصغي إلى روحها الحائرة، تدفق إلى كيانه حينها، سيلٌ من المشاعر المنقولة في صمت، فقط من خلال هذه النظرة، نظرة الخوف.
أخرجها وقد عصف المشهد بقلبه، تبادل معها النظرات الصامتة، أخذها إلى الخارج، لتعتني بها النسوة.
أغلقوا الباب على جثمان أمه، لكنها في كل الأحوال هنا، في بيتها، لم تغادر حياتهم بعد، ذلك الشعور كان تسلية له، لكنه يخشى الوقت الذي تخرج فيه ولا تعود، لا بأس، لا تزال ساعات تفصله عن الصباح.
قضى ليلته وحيدًا أمام المنزل، لا يفارق بصره نافذة الغرفة التي تقبع فيها مهجة قلبه، تتدفق معها الذكريات، كيف كان يضع رأسه على حجرها وتداعب شعره بأناملها، كيف كانت تثني عليه لطاعته إياها، وكيف كانت تشجعه في دراسته وتبدي رغبتها في أن يصير طبيبًا، كانت أُمّيّة لكنها تحمل عقلًا واعيًا يفوق عقول كثير من المثقفين، ترسم له ولأخوته ملامح المستقبل.
تذكّر كيف كان يستجديها لتبقى بالمنزل لا تغادره إلى بيت الجدّة، على إثر أي شجار يحدث بينها وبين أبيه، عندما تهم بالمغادرة، فيتعلق هو بقدميها راجيًا باكيًا، فتنسيها حرقتُهُ المشكلة، وتدخل به إلى المنزل، فهل ستبقى معه اليوم إن استجداها؟
خرجت للمرة الأخيرة من بيتها، يسير هو في جنازتها بكل قهر الدنيا، لكنها لا تزال على وجه الأرض، لم تُدفن بعد، شعور يُسكنُ شيئا من آلام قلبه، لم تدم تلك اللحظات.
أخيرًا علم معنى أنْ ماتت أمه وهم يودعونها القبر، صرخ ملقيًا بنفسه في الحفرة، لولا أن تخطّفه المشيعون وهو يصرخ ويتعالى صراخه حتى انقطعت أنفاسه.
عاد مع القافلين إلى منزله الذي بدا غريبًا كأن البيت نفسه قد مات، وتثاقلت خطواته وهو يصعد، لأنه يخشى أن يرى المشهد ذاته، مشهد نظرة الخوف في عيني الصغيرة.
لم تكن عيونها مُحمَّلةً بالدموع، فقط كانت تنظر إليه في خوف، وتطل من عينيها تساؤلات كانت أصداؤها تقرع كيانه: لماذا رحلَتْ؟ وهل تعود؟
قتلته تلك النظرة، يمسك بوجهها قائلا: لماذا تخافين؟ أنا هنا معك، صارت عبارته الدائمة كلما أطل الخوف من عينيها.
تمر الأيام والشهور، والتحقت الصبية بالسنة الدراسية الأولى، بيده كان يطعمها صباحًا، فأختها الكبرى تسافر في البكور إلى جامعتها، يضفّر لها شعرها بشكل كان يثير ضحك من يراها، لكنه لم يكن يحسن أكثر من ذلك، يصطحبها إلى مدرستها، ثم يتجه هو إلى مدرسته، مودعًا إياها بنظرة متفحصة في عيونها، كأنه يخشى أن يرى تلك النظرة في عينيها مرة أخرى.
تلك النظرة التي كانت شيئا رابضًا في وجدانه، سيطرت على كل اتجاهاته في التعامل معها، كأنها شرٌّ مستطير يتفادى وقوعه، لا يعلم متى يفاجئه، وكثيرًا ما فجّرت هذه النظرة بركان غضبه في وجه كلّ من يتسبب فيها.
هي الآن شابة، قد أخفى جمالَها أعراضُ مرض الثلاسيميا الذي ضربها منذ الطفولة، كان يخفف عنها خطورة المرض بأي وسيلة، يشغل وقتها وتفكيرها في حالتها المرضية بأمور شتى.
ترقد الآن في المستشفى، لا يفارقها، بينما يتناوب أبوه وبقية إخوته على الحضور، كان الأقرب إلى قلبها، وكانت هي قلبه.
ستموت؟ كيف؟ لابد وأن يكون هناك علاج، الطبيب دائما يهز رأسه يمنة ويسرة، أنه لا أمل، هل ستلحق بأمه؟ هل سيشهد فجيعة أخرى لا طاقة له بها؟
ساعة من الليل لم يكن خلالها في الغرفة غيرهما، يجلس إلى جانبها في فزع، كأنه يريد أن يحميها من الموت، بدت شاحبةً كموتى، يمسك يدها في هلع، يطالع عينيها، وهي تتبادل معه النظرات في صمت، شقّته بصوت مبحوح: “لماذا تخاف؟ أنا…..
صفيرٌ يتردد في الغرفة، المنحنى يأخذ سطرًا مستقيمًا، عاد القديم، بُعث الماضي، وتلاشت إلى الأبد..نظرة الخوف.
رغم حزنها المبكي
الا انها رائعة وأكثر
ابكيتنا يا استاذ عادل
لكنك أمتعتنا بأسلوبك الجذاب
كل التوفيق 🌹