لقد كان الإنسان قديما يفسر الظواهر الطبيعية التي تهدد وجوده في هذا العالم، تفسيرا خرافيا وأسطوريا بعيدا كل البعد عن مبدأ السببية الذي يستند إليه العلم الحديث. في الميثولوجيا الإغريقية كان بوسيدون يمتلك القدرة على تحريك الأرض وجعلها تهتز تحت أقدام البشر عندما يريد بهم شرّا فتحدث الزلازل وتنفجر البراكين… الشاعر عندما تهتز الأرض تحت أقدامه، ماذا يفعل؟ الشاعر لا يملك إلا أن يحمل قلمه ويختلي بنفسه ليكتب عن الزلازل التي تهتز معها قلوب الناس في الصدور وعن الأرواح المذعورة.. يحمل قلمه ليرصد هذه اللحظة بلغة شاعرية مؤلمة، هذه اللحظة التي تشبه الحرب، إنها حرب مدمرة بأسلحة باردة تظهر قبلا في شكل مدن تأوي الناس وتمد الجسور بينهم. لكنها في لحظة ما، في لحظة غير منتظرة وبشكل مفاجئ تظهر في صورة أخرى وبقناع آخر مرعب وعنيف، لا تترك المجال لأحد ليلقي النظرة الأخيرة من شرفات بيوتها أو لمحاولة إشباع غريزة الحياة، غريزة حب البقاء عبر أبواب أو نوافذ منازلها.. يقول الشاعر إبراهيم ديب في نص تحت عنوان “قصائد ضد الزلزال” المنشورة ضمن ديوانه “جواد ليس لأحد” (ص 17) الصادر عن دار ما بعد الحداثة، سنة 2007، أي بعد حوالي 3 سنوات من الزلزال المدمّر الذي ضرب إقليم الحسيمة، شمال المغرب :
المدينة تحاربك
أيها الريفي
والضرورات
حتى الحائط
لم يسعفك بشرفة
أو باب
اللحظات التي تهتز فيها الأرض تحت أقدام الشاعر أو في قلبه، يمكن أن توقظ في الذاكرة أسماء كانت تسكن القلوب قبل البيوت والمدن والجهات الحزينة، يتذكر الشاعر إراهيم ديب وبشكل مأساوي صديقه الشاعر المغربي كريم حوماري الذي رحل في عز الشباب والعطاء، يوم الرابع من مارس سنة 1997، بعدما قرر في زحمة الحياة العاهرة التي لا تحتمل، أن يضع حدّا لحياته بشكل تراجيدي وبقسوة تفوق قسوة الزلازل التي تأتي هكذا وبشكل مفاجئ، وبدون سابق إصرار أو ترصد، كما فعل كريم حوماري بحياته وبأشعاره وبأصدقائه… يقول الشاعر إبراهيم ديب في نفس القصيدة :
دعني أرى وجه الوقوع
حين يصطدم بقلب زهرة
تنبض بالحياة
الحياة عاهرة مائلة
ثغرها مفتوح لقضم
ضرع الجهات
كريم حوماري كان يعرف ذلك
لكن بالكاد صدقته المحيطات
هل كان كريم حوماري يقدم نفسه قربانا لينعم الناس بعده بالسلام، في الشمال كما في الجنوب؟ لقد كان الناس في العصور القديمة يقدمون أشخاصا، من بينهم، كقرابين لصدّ غضب الآلهة عنهم والذي يأتي في شكل كوارث طبيعية، في شكل فيضانات أو براكين أو زلازل… لقد كانت هذه الصورة حاضرة بثقلها وعمقها في نص “قصائد ضد الزلزال”.. يقول الشاعر في موقع آخر من القصيدة :
كنت تظن أن موتك
سيكون مفيدا لهذا الشمال
وربما للجنوب أيضا
كنت تظن أن نهارا كبيرا
سيخرج من ظلك
كنت تظن أن البيوت بعدك
لن تقع في المحيطات
كنت تظن أن الأرض
ستصير أقل قسوة
مما هي عليه الآن
كنت تظن أننا سنبدأ
كنت تظن أننا سنلبس
الليل
والحداد
وأننا سنزف على قبرك
النرجس
والزيتون
والمدائح
وأن الكثير سيقتفون أثرك
لأنك وجدت الطريق
إن كل هذه “الظنون” التي كانت في ذهن كريم حوماري، صديق الشاعر، وهو يقدم على فعلته تلك التي تعبر في عمقها عن حبه للحياة، لا شيء منها قد تحقق على ما يبدو؛ فالأرض عادت إلى ممارسة ساديّتها القديمة-الجديدة، وحيطان البيوت “التهمت كل العائلة” و “الصرخات الذبيحة” لا نفع لها أمام هذه الأحزان الطويلة والآهات العميقة التي لا يقوى التراب على طمرها ولا الماء على غسلها. حتى الوطن لم يعد له نفع بعد هذه الهزائم والأحزان المتكررة فوق ترابه وتحت أرضه. يقول في مقطع آخر :
ما نفع هذا الوطن بعد الآن
أيوجد مكان يتسع لكل هذه الأشجان
عادت الذاكرة مرة أخرى لتفعل فعلتها بقلم الشاعر إبراهيم ديب، الذاكرة هنا بما هي تاريخ جماعي وسياسي يمكن أن تختزل حمولته في إسم واحد؛ هذا الإسم الذي لم يكن سوى عبد الكريم الخطابي إبن الريف / الشمال الذي فضل أن يرقد في الذاكرة البعيدة / في المنفى هناك في مصر، بعيدا عن هذه المدن / المقابر الجماعية التي حفرتها أصابع بوسيدون العظيمة، بعيدا عن ورود هذه الرقعة من الجغرافيا وأشعة هذه الشمس الحارقة وصرخات الحيوانات التي تهوى تكسير سكون الليالي. يقول الشاعر :
لا بحر يمكنه أن يخفي
صرخة الوطن منذ الآن
وأخشى أن لا ينادي
عبد الكريم
على أحد بعد الآن…
—
*شاعر وأستاذ فلسفة / المغرب