فيلم اوبنهايمر يغزو صالات السينما العالمية ، فقد انطلق كالسهم،وحصد الملايين من المشاهدات في أيامه الأولى، ومازال شباك تذاكر الحجز مزدحما،إنه من إبداع المخرج كريستوفر نولان، الذي كتب بنفسه سيناريو الفيلم، واختار أشهر الوجوه الفنية لنجوم هوليود، للعمل معه في هذه الإيقونة السينمائية، حيث ارتضوا تمثيل الأدوار الثانوية في ظاهرة نادرة الحدوث، لأن كلّا منهم له جمهوره العريض الذي ينتظر منه أن يتقمص دور البطولة في أي فيلم،ومن هؤلاء النجوم ومنهم؛ روبرت داوني، ومات ديمون، وإيميلي بلانت، ورامي مالك، وفلورنس بيو، وجاري اولدمان، وغيرهم، استطاعوا أن يمنحوا هذا العمل هيبَتَه ومكانته.
يقتبس الفيلم مادته من كتاب( برموثيوس الأمريكي،انتصار ومأساة) للكاتبين كاي بيرد و شيروين، اللذين بحثا لمدة عشرين عاما عن حياة أوبنهايمر، مخترع القنبلة الذرية، من طفولته حتى موته، معتمدَين على وثائقَ رسميةٍ وسرية،ولذلك فقد كانت مهمة المخرج كريستوفر عسيرة ليقتبس من جمرة برومثيوس ما يمكن أن يستلهم منها زبدة تلك الأحداث التاريخية،ويقدمها على طبق ساخن بعد سبعة عقود من حدوثها، معتمدا على محاكمة التاريخ والاحتكام إليه.
ومن هنا تبدو أهمية هذا الفيلم السينمائي، في قراءته لحدث غيّر مجرى التاريخ، وفي لحظة زمنية حادة ومشحونة بالصراع. انتهج المخرج تقنية التغيير اللوني، ما بين التصوير بالأسود والأبيض،أو بالألوان الطبيعية. وتقنية التغيير اللوني ليست جديدة، فقد استخدمت للإشارة إلى الماضي، ولكن كريستوفر نولان استخدمها لتقديم رؤيتين مختلفتين، حيث أن الملوّن يعني قراءة الحدث من وجهة نظر الشخصية الرئيسية، وهو أوبنهايمر، أما الأسود والأبيض فتمثل رؤية مناوئيه، ولاسيما ستراوس. وسنجد ذلك جليا في كثير من المَشاهد، ومنها لقاء اينشتاين مع أوبنهايمر على شاطئ البحيرة، وقد ظهر لنا بالأسود والأبيض في لقطة سريعة، تمثل ظنون ستراوس في أن الاثنين، وأعني( اوبنهايمر وإينشتاين) اللذين يعتقد بأنهما جعلاه من سِقط المتاع. ونفس اللقطة تظهر بالألوان في نهاية الفيلم حينما تكون من خلال رؤية أوبنهايمر الذي يتحدث مع إينشتاين عن مواضيع علمية لا علاقة لها بشخصية ستراوس.
ورغم أن الفكرة الرئيسية للفيلم تعتمد على الجهود المبذولة لإنتاج السلاح النووي، ذي القدرة على الدمار الشامل،من خلال انشطار الذرة الذي يسبب انفجارا مهولا، وكيف أن العلماء في أمريكا ظلوا يسابقون الزمن لعلمهم أن الألمان قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى هذا السلاح ، لذلك تأتي أهمية مشروع مانهاتن الذي أصبح تحت إدارة أوبنهايمر، والذي توصل مع فريق العمل في تجربة السلاح النووي في نيو مكسيكو وتحديدا في لوس ألاموس، وبعد ذلك النجاح استخدمته الولايات المتحدة ضد اليابان ،فأحرقت مدينتي هيروشيما وناكازاكي. ورغم هول الحدث ولكنّه لم يأخذ حيّزا من الفيلم، الإ من خلال تخيلات أوبنهايمر، وهو يرى صورا لجثث متفحمة من بقايا ضحايا المدينتين المنكوبتين.
لقد عاش كآبة حادة، لم تخلصه منها أضواء الشهرة في الأعلام والصحافة الأمريكية والدولية، وبينما كان الأمريكيون يعتبرونه بطلا قوميا، كان يعتبر نفسه غير ذلك، فحينما طلب الرئيس الأمريكي هاري ترومان مقابلته ، عبّر أوبنهايمر عن معاناته بقوله
“إنني أشعر بأن يديّ ملطختان بالدماء “
فرد عليه الرئيس بقوله: ” إنّ الناس لا يحمّلون من اخترع القنبلة، بل من أسقطها على العدو” ثم طلب الرئيس من مساعديه أن لا يرى “هذا المتذمر ” في مكتبه مرة أخرى.
يستهلك مشروع مانهاتن وقتا طويلا من الفيلم ، حينما اختيرت منطقة صحراوية شبه جرداء لإجراء التجارب وبناء هذا السلاح،وبعد تلك التحضيرات يصل أوبنهايمر وفريق عمله المتكون من مجموعة كبيرة من العسكريين والمهندسين وجمع من العلماء، ثم تأتي لحظة الانفجار المهول الذي يشبه الأعصار الهائل الذي يثير زوبعة ترتفع على هيأة نبتة الفطر، وكأنها شبح من الغازات المتفجرة، مصحوبة بهدير هائل، ثم يخيّم صمت طويل، وكأن البشرية بأجمعها تتأمل الهاوية التي وصلت إليها. هذا الصمت الذي أحدثه الفيلم قد يكون أقوى من صرير الانفجار، بحيث أنه جعل المشاهدين يستلقون على وهج الدهشة. ومن هنا تأتي عبقرية المخرج كريستوفر نولان، في تجسيد المأساة البشرية عن طريق الموسيقى والصمت.
حينما اُستخدمت القنبلة الذرية (الولد الصغير) ضد مدينة هيروشيما اليابانية،أحرقت المدينة وحولتها إلى حمم من الجحيم، ولم تكتف آلة الحرب بذلك الدمار، فأردفته بالقتبلة المسماة (الرجل السمين) التي أُطلقت على ناكازاكي.
لم يكن اوبنهايمر سعيدا بهذا الدمار، مع أنه جعل اليابان تستسلم وتنتهي الحرب، وكان تذمره قد فتح عليه غضب الآلهة، من مكتب التحقيقات الفيدرالي، فكان بمثابة بروموثيوس أمريكي، أثقلته لجان التحقيق بوضع اتهامات ستدمر حياته في حال ثبوتها، ومنها اعتناق الشيوعية،والتعاطف مع الاتحاد السوفيتي،إضافة إلى أن عشيقته كان لها سجل في النشاط اليساري، وكذلك زميلته في العمل( كاثرين) والتي تزوجها وانجبت طفلين، قد تعرضت إلى مضايقات مماثلة، جعلتها تُدمن على الخمر، وتعيش متأزمة على مصير زوجها الذي تحاول المكارثية أن تطحنه في فكّها المفترس، كما حدث لكثير من الفنانين والأدباء كشارلي شابلن وإرثر ميلر وإينشتاين.
لقد حوّلت لجان التحقيق أوبنهايمر من بطل قومي إلى مشروع خيانة، تغذيها الأحقاد الدفينة لغريمه اللدود ستراوس رئيس هيئة الطاقة الذرية، والذي لم يرق له النجاحات العلمية التي حققها ،والمكانة التي شَغِلها.
لقد استخدم المخرج كريستوفر نولان كل هذه المعطيات كمادة سينمائية،والمعلوم أن قصص السيرة الشخصية تتميز بالواقعية، ولا تسمح للخيال الفني أن يعمل إلا بشكل محدود، لذلك جاء الفيلم مملا في بدايته، مشحونا بالحوار، يتلمس طبيعة أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وما فيها من صراع محتدم، ثم اللهاث حول امتلاك أسلحة الدمار الشامل، والتي أنهت الحرب، ولكنها جعلت العالم على كفّ عفريت، فكانت الحرب الباردة بين كتلتين متناحرتين، تمترستا بالترسانة النووية، ثم حرب الاديولوجيات، بين الفكر الرأسمالي الحر الذي تتزعمه أمريكا وحلفاؤها الأوربيون، وبين الفكر الشيوعي الذي يتزعمه الإتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية. ولا شك أن هذا الفيلم لم يتناول تلك الخميرة التاريخية، بل استفاد منه لخلق رؤية سينمائية تتهجى بالصورة والصوت والمخيلة حروف تلك المرحلة. وقد كان الفيلم مُبهرا في التصوير في اختيار الزوايا الشاملة والجزئية، مستعينا بالتصوير الرقمي وبالحيل التصويرية التي تجعل المشاهد مصلوبا على وهج الدهشة. كما كان ولع المخرج بالتفاصيل قد جعلنا نقرا في بريق عيون الممثل كيلان مورفي المتألقة كل الإحباط وخيبة الأمل التي عاشها- وبالمناسبة فقد لجأ مورفي إلى تنحيف تفسه بالامتناع عن التغذية لمدة ثلاثة أسابيع اكتفى فيها بتمرة وحبة لوز لليوم الواحد- حتى أصبح قادرا على تقمص شخصية أوبنهايمر.
جاء الفيلم متسلحا بحزمة من الأساليب الحديثة التي مكنته من مزج الأزمنة، وجعلها تتداخل في توليفة من التخيلات والأوهام التي تنبجس من رؤية مضببة بمختلف التأثيرات، لذلك قدّم سيلا هائلا من اللوحات السينمائية لكتل اللهب الذي ينبجس كالجحيم، وسحابة الفطر التي تعلو كأنها القيامة،والتي تزحف كفيضان من الغبار الملوث والمشع ، والذي يتراءى كمارد عملاق يريد أن يبتلع الكون.
اتخذ الفيلم منحى مسرحيا باعتماده على الحوار الفكري والفلسفي، بحيث أن الجمل التي يتفوه بها أبطال الفيلم ليست مجرد ثرثرة فارغة، بل عبارات قوية تتساقط على وعي المشاهد كالحجارة، وقد اكتفى بتأثير الحوار مصحوبا بالموسيقى لذلك لم يكترث لأجواء الحركة أو الأكشن الذي يميل إليه جمهور واسع من المشاهدين وعاشقي الفن السابع. لذلك فلم تكن ردود فعل الشباب إيجابية نحو الفيلم، لأن أسلوب تقديم القصة لا يجذب المشاهد العادي الذي يبحث عن قصص الحب أو العنف أو أنواع الأكشن.
لقد كان الحوار بحد ذاته فعلا سينمائيا، يتحرك في كل الاتجاهات،حتى أنه يتغلغل بين أنحاء حياة بطل القصة وطبيعة شخصيته، وقدرته على الوقوف أمام التيارات التي أرادت أن تعصف به، كما أن رؤية الأحداث تبدو بطيئة وغير واضحة، ولكنها سرعان ما تتسارع، وتتضح بشكل أكثر. وفي كل ذلك فالفيلم لم يقدم للمشاهد كل المعلومات بطبق ذهبي، وإنما قدّم له مجموعة من الرؤى التي تحتاج إلى تحليل وتفسير وعلى المتفرج أن يعود إليها كي يكون منسجما مع روح هذا العمل.