ها هوَ أول يوم يهلُّ علينا بنفحاته وأنا وأخوتي نجلس على الطاولة وأختي تجود بورق العريش والحساء الطيب بجانب رقائق الملفوف وفي الجوار طبقا هائلاً يعجُّ بحلوى الكنافة والقطائف والبقلاوة؛ لم يدقّ الجرْس حتى الآن أو نسمع أهازيج الشوارع الخلفية بالفوانيس النُحاسية التي تتغنى (وحوي يا وحوي إياحه)، ومازال قرُّ المطير يعتق الجدران والدروب يعلوها رواب لم يتح للصغار باللعب؛ مازلت أنظر إلى أبناء أختي غاب عنهم والدهم؛ ثمَّ يشدني ذاك البرواز المعلق وسط الحائط مثخنٌ بصورة تجمعنا بأبي وأمي الراحلين عن عالمنا، ثم أهدابٌ مُخملية العبَق لتلك التي قضيت معها عمرا طويلا وأخاديد وجهها يشق ماضٍ بائد من أفراح وأتراح كانت هي بطلُ الحدث يومَذا..
بدأت عيناي تترقرقان من دمع ينبلج بلا توقف من المآقي وتنهيدات وشهقات كزفير يقضّ روحي فينخلع وجيبي ليرحل عبر الأزمان قُرابة عَقدين إلى الوراء، تذكرتُ ذاك الخال الذي لم يألوَ جَهداً ليحضر (البومب) وتلكم الصواريخ برهَج مفرقعات يسير، وكلنا نقف بالشرفات نُلقي بها على المارة، الكل يرومُ البهجة؛ الكل في هذا العالم يتراقص ليعزف ألحان السلام وتمورُ مَوراً مع دفقة صوت مدفع الإفطار؛ وصوت أذان المنشاوي وقرآن الشيخ عبدالباسط والياميش من لوز وبندق وعين الجمل؛ الجيران من كل حدبٍ وصوب في تلك المحطة الإنسانية تتبادل أشهى الأطعمة وتحلُّ البركات، وإن غاب أحدنا عن ركب ذاك القطار السعيد بترانيمه المتناغمة فنذهب لإحضاره على الفور، يالها من أيامٍ تشعرها لمّا تغمض عيناك وينبو خافقك فترسمَ ضحكاتٍ فيظنكَ الجمع الحاضر الآن أصابك مسّ من الهذيان والجنون؛ الكل يتساءل :ما سرُّ تلك الابتسامة يا خال الممزوجه بدموع مدفونة؟! فأتلعثم في الردّ متمتما، لتلحقني أمُهم قائلة: (خالكم في حتَّة تانية! سيبوه ! يالله ياولاد دعاء الإفطار : اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت.. ابتلت العروق وذهب الجوع والظمأ.. وثبت الأجر إن شاء الله.. بسم الله)، وهكذا – عدتُ لأرض الواقع راضيا مَرضياً بجمعنا أن يدوم دائما وأبداً، وقمنا للصلاة جميعاً مع هطول ندَف ثلوج أسطورية في ذاك الأوان، سُرعان مع خرج الجمع بالديار على غير العادة لتتراقص في دربٍ بليلة البدر تُساقطُ علينا بيدراً من قناديل الأمل ونباريس السعادة؛ حينئذٍ – لا أذكر سوى كلمات (والله بعوده بعوده والله.. يا رمضان!…)