لعلّ الشّعر بوصفه استثناء إبداعيا قائما على لحظة مسحورة-بتعبير زكي نجيب محمود-من أكثر فنون القول التي ترتبط بالسّحر، والعرب قديما تصف الشاعر بالساحر، بل إنها اعتبرت قول الشعر نوعا من المسّ، ووصفت الشاعر بالعبقري نسبة إلى وادي عبقر المعروف بساكنيه من الجنّ، ومن ثمّة فإنّ العلاقة قائمة لامحالة بين طرفي هذه المعادلة القائمة على التعابر ، وأيا كانت العلاقة فالثابت أنّ السحر في هذا السياق ليس مرادفا للشعوذة ، وإنما هو “ضرب من الفنّ تمارسه طبقة من الكهنة كانت تعالج الفلك وعلوما أخرى غامضة، وقد اكتسبت كلمة سحر دلالة أوسع فأضحت تعني المعتقدات وتطبيقاتها التي لاتنسجم مع طقوس العبادات المنظّمة التي يؤمن أصحابها بقوى خارقة أعظم من الطبيعة…” وهناك من اعتبره ظاهرة دينية على غرار “مارسيل موس” ، وهناك من يراه مرحلة ممهدة للعلم على غرار “جورج فريزر”، ومايعنينا هو البيان في حد ذاته، فقد جاء في حادثة وفادة “الزبرقان/قمر نجد” على الرسول الكريم- قوله-صلى الله عليه وسلّم- : “إنّ من البيان لسحرا، إنّ من البيان لسحرا”..وعليه فإنّ السحر مرتبط بكلّ جميل كما الشعر، سحر القول، وسحر الجمال، وسحر اللغة، وسحر الأنثى، وسحر الحياة ..
إنّ الرابط بين الشّعر وسحر البيان هو الكلمة، الكلمة المبتدأ، والكلمة المنتهى، فحين سمعت العرب ماتلقاه الرسول الكريم عن ربه من وحي اتّهمته بالسحر تارة، وبالجنون تارة أخرى لاعتيادها على مستوى قولي تردّده في رحلاتها وسكناتها وأشعارها، وبتجاوز هذا المستوى لم يكن التفسير إلاّ ضربا من السحر، والسّحر في طلاسمه ضرب من ضروب الكتابة بعد أن كان ضربا من ضروب القول والبيان، ولعلّ اللحظة التي تجمع بينها لحظة الأداء/الكتابة –إنْ صح التعبير-فقد كانت للشاعر دوما طقوس يستحضرها كلما أراد الكتابة، والأمر نفسه بالنسبة للساحر، حتى أنّ “زكي نجيب محمود” عبّر عن ذلك باللحظة المسحورة في كتابه “قشور ولباب”.
إنّنا في هذا المقام لسنا بصدد البحث عن علاقة مفصول فيها بين الشعر والسحر، وإنّما للحديث عن إفريقيا ساحرة الكون بموروثها الثقافي والحضاري البكر، حيث لم يكن السّحر ليغيب إلاّ ليحضر في كتابات أبنائها وعشاقها ومحبيها حيث تغنوا بسحرها ومخبوءاتها في نصوصهم المتنوعة وبلغات مختلفة أمثال “تاتي لوتارد” و”تشيكايا أوتامسي” من الكونغو، و”فرانسوا ساجات كيو” و”بول داكيو” و”باتريك كايو” و”فرانسيس بيبي” من الكاميرون، و”وول سوينكا” “غابرييل أوكارا” و”جون بيرك كلارك” و”إيفي أماديومي”من نيجيريا، و”بيراجو دويوب” و”داوود دويوب” و”ليوبولد سيدار سنجور” من السينغال، و”غريس أوغوت” و”جاريد أنجيرا” و”جوليان أوكوت بيتيك”من كينيا، و”مزيس كونيني” و”زيندزي مانديلا” و”دينيس بروتوس”من جنوب إفريقيا، و”محمد الفيتوري” من السودان، و “سليمان جوادي” و”نذير طيار”من الجزائر..
لقد سكنت إفريقيا وجدان ساكنيها ووافديها، وحين يتعلّق الأمرُ بشعرائها فالموقف أقوى من الشعر والسحر والحياة حتى لتكاد تكون عصيّة على شعرائها إلاّ من خبر سحرها وفكّ طلاسمه وأغواها، فكتبها كلّ شاعر على طريقته، ونفخ في نصوصه بعضا من روحانياته في معبد الروحانيات “إفريقيا”.
يقول “محمد الفيتوري” في نص من نصوصه:
صوتك يا إفريقيا ..هذا الذي يهزّني هزّ الأعصير صداهْ
أحبّهُ..وهو انفعال ..دمٌ يغلي..وثورةٌ مطبقة الشفاهْ
أحبّه، وهو بريقُ أعين تشنّجتْ فيه إرادة الحياة
أحبّهُ وهو خطى عاريةٌ..تحفر في الأرض مقابر الغزاةْ
أحبّهُ لأنّهُ صوتي أنا..أنا صوتك يا إفريقيا..”
ثمّة علاقة “سُرّية” قائمة بين هذا الكيان الساحر المتخم بالمحمولات الثقافية الكثّة وبين الكتابة كهاجس يسعى إلى التغيير، يسعى إلى الثورة على “إملاءات” الآخر المتطرّف الذي يحاول سلخ القيّم والموروثات بالقوّة، غير أنّ بين الثورة والحلم بعض رؤيا لن يلمّ بتأويلاتها إلاّ الشعراء، وما أكثرهم.
إنّ الوقع الأكثر قساوة الذي عاشته إفريقيا أكثر من الاستعمار نفسه كان “التمييز اللوني”، أو ماتُعورف عليه من قبل الساسة بالميز العنصري الذي أتى على كثير من خصوصياتها وأعادها إلى الوراء ملايين السنين، جعل كثيرا من الأصوات الشعرية تخبو، ممّا فسح المجال للغة القتل والتصفيات الجسدية، ومع ذلك فلم يتنصّل الشعر من دوره كباعث إلى الحياة ورافض للراهن، يقول الشاعر السينغالي “داوود دويوب”:
“اصغوا يارفاق القرون المناضلة
إلى لغط الزنوج العنيف من إفريقيا إلى الأمريكيتين
إنّه علامة الفجر”
***
إنّ هذا التشكيل البديع لمقومات القارة الإفريقية رغم ماتعيشه من فقر وحروب يبقى المكان الأكثر خصبا لممارسة غواية الكتابة البكر كما الجمال البكر، ولئن كان السّحر أبرز تجلياته فلن يمنع بروز الشعر بوصفه الإبداع الأكثر متاخمة للنبض الإنساني، الإنسان الخائف، المحبّ، العاشق، المجنون، المفكّر، الحالم، المنبهر، الشرود، المتمرّد، الثائر، الباحث عن الحرية..لذلك كلّه فقد تشكّل كوكتال إفريقي شعري جاوز الآفاق وحقّق حضورا عالميا بلغات مختلفة كالعربية والفرنسية والإنجليزية، والإسبانية..وعليه فإنّ النّبش في هذا الموروث الشعري الإفريقي العظيم كفيل بالكشف عن ظواهر شعرية تتجاوز حدود السّائد إلى المختلف، وتوثق لوجه آخر من القارة غير ذلك الوجه البائي الذي يراد له أنْ يخلد.
يقول الجزائري “سليمان جوادي” في قصيدته “إفريقيا”:
سَتُشرِقُ شمسُكِ إفريقِيَا
لتمسَحَ عنكِ عذابَ السِّنينْ
سَتَكشفُ عن بسمَةِ الأشقِيَا
وتُعلِنُ عن رغبَةِ الكادِحِينْ
أيا قلعَةَ السُّمْرِ يا أُمَّنَا
إليكِ الوفَا والإخَا ضَمَّنَا
غدًا تشرِقُ الشَّمسُ لا بعدَ غَدْ
غدًا يَنتهي الظَّالمُ المستَبِدْ
فنحن هنا جَسَدٌ مُتَّحِدْ
نَسيرُ بقافِلَةِ الثَّائِرِينْ
أيا قلبَ عالَمِنَا المتَّقِدْ
غدًا تُشرِقُ الشَّمسُ لا بعدَ غَدْ
….
للحديث بقية