عن طريق تحريك الكلمات المختارة الراسية في قاع أنهار الوعي، ومن أجل تطهير المشاعر المكبوتة، غسل عبد النّور حزن نوّارة في أوعية الحديث عن أهله، أخبرها بكل أسرار منزلهم الكبير، وتحدّث عن صورة أمّه المنسوجة بحِزَمٍ من العواطف الرقيقة في قسم من روحه، المحفورة في زاوية غامضة من عينه، وبعد فترة توقّف كانت نوّارة لا تزال في غاية السّرور والسّعادة بسبب بعض الكلمات الحلوة التي همس بها بهدوء في أذنها، دحرجتها وميضا على حافتي جفنيها، ورفعتها إلى منصّة التبسّم: ”غدا هو دائما يوم آخر، ولكن اليوم الذي سيأتي في الغد ليس كمثله شيء، ستكون والدتي سعيدة جدًا بضمّ زهرة جديدة إلى زهورها. بمجرّد تسريحنا من الخدمة سوف ترافقينني نحو أرضنا الصلبة البعيدة عن رغوة أمواج البحر وملحه، سوف نغادر معا لمقاومة طنين الوحدة، سنجد وسيلة لإتمام مسيرتنا دون عوائق.“
وتقدم خطوة إلى الأمام تلبية لنداء الذراع المرفوع والقلب المعلّق بمسمار الرقّة والحنان. وإثر ذلك، بطريقة ما، اختفت كل ابتساماتها مع صوته المحترق بمخاوف الفراق، وفي تلك اللحظة خفتت الأصوات فجأة، وتلاشت همسات الجموع، فاستدارا لاستجلاء الأمر، كانت الأنظار كلّها قد توجّهت إلى الدكتور الباروني رئيس مجلس إدارة المحطّة، ورئيس المشروع، الذي تنحنح ليثير فضول الجموع ويشدّ إليه انتباههم، ومن ثمّة تساقط مطر من الكلمات على الصمت الذي عمّ المكان: ”أيّها السّادة والسّيّدات، شكرا على تعاونكم، لقد أنجزتم ما به تفتخرون. وقبل أن تغادرونا إلى حيث كتب الله لكم، لدي إعتراف مهم أود أن أدلي به إليكم، آمل أن تعيروه اهتمامكم، عندما وصلتم لأول مرة إلى هذه الناحية، أخبرتكم بشيء حول الأسباب التي دعتنا لإنشاء هذه المحطّة، دراسة التّوازنات المناخيّة في قسمها الرّئيسي ومشفى للمصابين في ملاحقها العازلة. لا شك أنكم تذكرون ما أخبرتكم به، وقد أوردناه في فقرات المقدّمة المتعلقة بتبرير إحداث المشروع ومشاركتكم فيه. قلت لكم وقتها إنّ الشمس قد بدأت تنزلق ببطء نحونا وتطلق تنهيدات ملتهبة تحرق الجبال. وأنّ التغيّرات الّتي تحصل لم تكن سوى علامات لما سيحدث لاحقا“، وهنا أسقط الباروني صوته، صمت قليلا وهو ينظر بإصرار في الوجوه أمامه، ثمّ نظر حوله، استنشق رائحة البحر وتابع يقول: “لقد كان ذلك أمرًا غريبًا إلى حد ما بالنسبة لجمعكم، من المؤكد أنها كذلك ظاهريا، ولكن كان لدينا هدف آخر من وراء إنجاز هذا المشروع، غاية أكثر أهمية بكثير ممّا صرّحت به لكم، ولم أكشف عنها حتى هذه اللحظة، ليس الغرض من هذا الانجاز دراسة التّوازنات المناخيّة، هذه الأبراج التي ساهمتم في بنائها ليست مخبرا بالمعنى الدقيق للكلمة، إنّه البيت الجديد للجنس البشري”، وضحك وهو يرسم بتلك الكلمات المنزلقة بين شفتيه المفاجأة التي ألجمت الحضور للحظة، ثمّ ضجّ المكان بهمساتهم، “وما الفائدة الآن في معرفة أسراركم؟ لا حاجة لنا اليوم باعترافاتكم بعد أن أوفينا بالتزاماتنا وتعهداتنا وانفكّ ارتباطنا بالشركة”، صاح أحدهم، فحوّل بسرعة عينيه اللامعتين إلى اتجاه الصوت، كانت هناك تجاعيد صغيرة في زوايا عينيه وانتظر ليسمع شيئا آخر من تعليقاتهم، تردد بعض الوقت، ثم استأنف الحديث مجدّدا، مجبرًا نفسه على التحدث ببطء وثبات، وبصوت مرتفع قليلاً إلى أن ران الصمت، قال: “سيتم شرح كل هذه الأشياء لكم بشكل مفصّل. أردت فقط قبل ذلك أن أعرب لكم أنتم النخبة عن مدى امتناننا جميعًا على هذا الإنجاز، قبل ثلاث سنوات وأنا أُجري الأبحاث حول سبب تعطل منظم حرارة الكوكب، وأتقصّى الدّراسات في المجلّات المختصّة بالمناخ، لاحظت شيئا مفزعا عن مصدر الحرارة، مسألة بالغة الخطورة. أخذت أوراق بحثي وذهبت بها مسرعا إلى رئيس لجنة الكوارث بمجلس النّواب، عرضت عليه البيانات التي تمّت ملاحظتها مفترضا إرتفاع درجة حرارة المحيطات أكثر خلال الأعوام المقبلة، وهروب الملايين من الناس لانقاذ أرواحهم من حرائق الغابات والمجاعة، كارثة كونيّة قد تحدث قريبا. لقد أردت تحذيره، لكنّه أحمق كسول، أجل كان هو والجماعة التي تتراقص تحت مظلّة البرلمان حفنة من الحمقى برعوا في فنّ الكلام وإظهار قدراتهم اللسانيّة الغليظة، فآفة الرأس اللسان. تثاءب النائب أمامي ثم نهض قائلا بابتسامة فاترة: “يا لها من حماقة! دكتور، ليس لديّ نصف عقل لتصديق هذا الهراء”، هذا ما قاله لي بالضبط. تصوّروا هذا الأحمق تجرّه سيول الفيضانات إلى حتفه وهو يقول العام صابة“، وتوقّف الباروني لحظة وهو لا يزال يبقي عينيها على وجوههم، فرك ذقنه وارتجفت شفتيه وارتعشت أصابعه بعصبية على صدره، كما لو كان يسترجع صور ذاك اللقاء المهين. قفز وميض تلك الساعات على وجه ليركل الجمرات الحارقة في صدره، عندما سأله النائب عن السبب الذي دعاه لطلب المقابلة، أخبره أنّ الأبحاث التي أجراها بنفسه تؤكّد فقدان كميّة مهولة من الأكسجين في طبقات الغلاف الجوّي في ظرف زمني وجيز، وأنّ البشر يتربّص بهم مصير بائس، فمن الممكن أن تختنق الأرض في بضع سنين، عن قريب ستكون الحياة مختلفة، لا شيء سيشبه ما هو عليه الآن، يمكنه أن يتخيل ذلك، والخشية كلّ الخشية من مرور الوقت دون أن يتدخّل المجلس لحلّ المشكل، فإذا لم يعجّل بعمل شيء ما سيكون الوقت قد فات.
لم يكن الدّكتور الباروني مغاليا فيما افترضه. حاول جاهدا وضع فكرته في رأس النائب، لكنّه أنصت له بروح متشكّكة.
قال له: ”أنت تبالغ، دكتور“، وسأله: ”بالمناسبة، دكتور فاش؟“ فلمّا أجابه بأنّه دكتور في فيزياء الجسيمات الفلكيّة صمت. ربّما ذهب في ظنّه أنّه دكتور في القلب، أو المصران، أو التوليد، أو الأنف والأذن والحنجرة، أو أيّ شيء آخر حتّى يصدّقه، لو كان طبيبا لاقتنع بكل كلمة تحدّث بها حتى لو أخبره أنّ الحمير من آكلات اللّحوم!
أسقط نظراته على لوحة هاتفه المضاءة، وعلى الفور نقر على بعض الأزرار، ثمّ سأله: ”هل تعرف كم عمر البشريّة، يا دكتور؟“.
أزعجه نقل الحديث لمجرى آخر بعيدا عن الموضوع الرئيسي، غير أنّه ردّ بلباقة وبابتسامة مشرعة: ”في أصولها القريبة، أم البعيدة؟“.
علّق وهو يخفي توتّره في زبد الكلمات: ”وهل هناك أصول قريبة وأصول بعيدة للبشرية؟“
فردّ الباروني: ”قصدي .. قبل وجودنا على الأرض أم بعده؟“
تحولت عينا النائب لا إراديًا نحو السقف الشاحب، يحدّق فيه بحثا عن المساعدة التي رفضت أن تأتي. كان ردّ فعله مجرّد رعشة خفيفة في الدماغ، لو كان الشخص المعني هو أي شخص غير رئيس لجنة الكوارث لما اهتمّ، أسقط نظراته غير المكترثة على وجه الدكتور، وسأله: ”أليس، هناك، تلازم بين وجود الأرض ووجود الإنسان؟“
”لا ليس هناك تلازم، حضرة النّائب، أغلب القصص المتعلّقة بأصولنا تتحدّث عن آدم، وآدم لم يخلق في الأرض“
”إذن أصولنا القريبة هي التي تزامنت مع خلق الأرض حين أحلّ الله المضاجعة والتناسل! فالتقى الحيوان المنوي السّارح بالبويضة المغامرة، أليس كذلك؟“، وتبسّم حضرته بصفاقة.
فكّر الباروني وكل وريد في جسده يخفق، من أيّ قاع يستمدّ وصفه. يبدو أنّه مفتون بموضوع البدايات، يعيش فقط في الماضي البعيد لشحن تخيّلاته بعوامل الفُرقة والاختلاف، فبدل من توجيه أسئلته لمعرفة إلى أين تسير البشرية، ها هو يطرح الأسئلة لفهم من أين جاءت، الأسئلة المحيطة بالبدايات قديمة قدم البشريّة، واهتمام العلماء بأسرارها لا يعني ذلك أنّهم توصّلوا إلى الأجوبة النهائية لها، فكل إجابة تمّ تقديمها تفتقد إلى الإثباتات، ثمّ هل سيفيده شيء إذا عرف فحتى تلك اللحظة لم يستطع فهمه تمامًا، فكيف يمكنه أن يشرح له.
قال موضّحا: ”لا أعتقد ذلك، فعلماء الجيولوجيا، من خلال دراستهم للصّخور والكائنات المنقرضة، أكّدوا أن عمر الأرض ملايين السنين، وربما مئات الملايين من السنين، فيما تذكر بعض الكتب السّماوية أنّ الأرض خلقت منذ ستّة آلاف عام فقط، حتّى إنّ بعض رجال الدّين شكّكوا في صحّة استنتاجات هؤلاء العلماء، وخبث نواياهم، واعتبروا ذلك تزييفا للحقيقة، وهم مخطئون بالطّبع“
”من؟ رجال الدّين أم العلماء؟“
”رجال الدّين، بالتّأكيد“
”إذن، في ظنّك أن عمر الإنسان على الأرض لا يقلّ عن مائة ألف عام“
”لا، أنا أرجّح الرقم الّذي قدّمه رجال الدّين“
”ستّة آلاف سنة؟“
”نعم، ستّة آلاف سنة أو أكثر قليلا“
وفي ثانيتين ظهر الاستغراب في منحنيات جلدة وجهه.
”أمرك عجيب، دكتور، حسبتك، أمام هذا التناقض، ستنتصر للعلم والمعرفة، فبماذا، إذن، تفسّر هذا الرقم الّذي قدّمه العلماء، المدعّم بتحاليل الصّخور، ووجود آثار الكائنات المنقرضة على الأرض، على حدّ قولك؟“
فردّ الباروني بكل ثقة: ”لأنّهم لم يفترضوا فكرة الأصول“
”فكرة الأصول!“، ردّد النائب متعجبا وإحدى يديه على مسند الكرسي.
هل شك في ما قاله؟ حدّث نفسه وهو يشرح له بما مفاده كما أنّ للإنسان أصلا بعيدا وأصلا قريبا، فللأرض أيضا أصولها البعيدة وأصولها القريبة، مفترضا أنّ الله قد خلقها اشتقاقا من جسم آخر عمره يفوق عمر الأرض بعشرات الآلاف من السّنين. وإذا اتفق معه في هذا الافتراض لن يجد هناك تعارضا أو تضاربا بين معلومة العلم ومعلومة الكتب السّماويّة، وإنّما الالتباس يكمن في تفكيره، فالصّخور وعظام الدينصورات موجودة في تكوين الأرض لأنّها كانت من مكوّنات الجسم الّذي اشتقّ منه.
قال النائب والسؤال يقفز بعد السؤال دون إجابة: ”أعتقد أنّك تقصد الانفجار العظيم“
فسارع الباروني إلى النفي: ”الانفجار الكبير يحكي قصّة بداية الكون، وهو فرضية قائمة على نقيض الفكرة التي تفترض الضخّ المتواصل للمادة في الكون المتمدد منذ نشأته، للبقاء محافظا على حالته الثابتة في الكثافة والحرارة، أمّا فرضيّة الأصول فهي تفسّر نشأة الحياة، لا أقول الحياة في الأرض، بل قبل ذلك، قبل خلق الأرض بكثير“
فانتفض النائب بحدة وهمهم: “ماذا؟ هل وُجِدت حياة قبل خلق الأرض؟ من أين حصلت على هذه المعارف، يا دكتور؟”.
كان له رأيه الخاص ولكنه لم يعبّر عنه، قرأ في وجهه السخرية وخيبة الأمل فحاول أن يبتسم رفعا للحرج.
في تقديره من المرجّح وجود حياة قبل خلق الأرض وأخرى بعد نهايتها، فهي سلسلة من الحيوات تعاد مرارا وتكرارا تتبدّل فيها الأرض والكائنات، وهو ما يفسّر استغراب الملائكة وتساؤلاتها كيف يخلق الله كائنا يفسد في الأرض ويسفك الدّماء. لقد كان ينكر على بعض العلماء مزاعمهم وما يفترضونه من أنّ الدينصورات كانت تعيش على سطح الأرض جنبا لجنب مع الإنسان، إلى أن ضربها كويكب قبل ملايين السنين فأفنى الزواحف العملاقة ونجا الإنسان الضئيل الحجم!
على مر التاريخ، نبعت عن الخلق خرافات خرقاء لا عقل يسندها، كان قد خزّن بعضها في ذاكرته. لكنه استطاع أن يرى بعقله شيئًا لم يخطر ببالهم بعد، كانت درجة حرارة الكون في ازدياد. لم يستطع النائب أن يفهم الأسباب، لا في ذلك الوقت ولا في الأيام التالية. وبالنسبة إليه لم يكن التفسير مستحيلا. هذا هو رأيه حتى لو بقي صامتا، يعيد إلى ذهنه الأيّام الماضية أمام بناة الأبراج العملاقة من نخبة العلماء وأصحاب الصنعة.
يتذكر مدى غضبه وقتئذ، وما لم يستطع فهمه أبدًا هو سبب جلوسه هناك، يجيب بصبر عن استفسارات النائب المنحدرة إلى الهامش. كان قد قال له ليضعه في مدار الحاضر كمن يريد أن يوجّهه نحو الموضوع الرئيس الذي جاء من أجله: “وما يفيدنا إن عرفنا أنّنا كنّا نعيش في سديم واحد المهمّ أنّنا نعرف أنّنا نعيش على سطح ذرة غبار كونية، تدور حول نجم عادي، في طرف ناءٍ من مجرة من نوع شائع، ضمن مائة مليار مجرة في الكون توشك هذه الذّرّة أن تنسحب من تحت أرجلنا. وتهلك البشريّة”
“لا نستطيع فهم جوهر أي شيء ما لم نفهم من أين جاء”
“ولكنّ الوقت الممنوح لنا لا يكفي للتفكير بالماضي، والتعجيل بالنّجاة أفضل، سبّق الأهم على المهمّ، حضرة النّائب.”
وبابتسامة متكلّفة قال بطريقة غير مهذّبة: “أخشى أنك تضخم الأمور وتجعلها ذات أهمية لا داعي لها. وعلى كلّ حال لقد وصلت رسالتك، دكتور، يمكنك أن تذهب مطمئنا، وسوف نقوم بما يلزم. وإذا ما احتجنا إليك سوف نرسل في طلبك”
تنهّد بشدّة، ظلال أفكاره تجمّعت حول شفتيه وجبهته، كان من الواضح أن مصيرهم لم يكن يعنيه، ولن يعود إلى الحديث في الموضوع مجددا، لن يتصل به أبدا، وفي وسط ذلك الصمت المرتبك حدّق في وجهه بعين مليئة بالتحديات ونهض من فوره، مدّ يدا وصافح المخلوق الذي كرهه لغبائه بلا مبالاة، لم يتمكن لسانه من العثور على الكلمات المناسبة لتفجيرها في وجهه، كان لسانه سميكا كلوح من الصخر فانسحب بعيدا عن مجلس النوّاب مدفوعا بالتعاسة، كان يشعر بإحساس متزايد بالسخط وبدوار في رأسه وبفقدان التّوازن، وتملّكته خيبة لضياع وقته الثمين في العبث مع السفسطائيين، كثيري الكلام قليلي الفعل! ما الّذي دفعه إلى مقابلته سوى خوفه من وقوع كارثة لا قدرة للبشر إذا ما حصلت من تداركها؟ بالتأكيد، هو يعلم أنه لا يستطيع إصلاح الأمخاخ المعطّلة، ولم يكن أمامه سوى أن يتّخذ القرار الصائب في القيام بما يجب القيام به، لقد كانت الكارثة وشيكة، ولم يكن أمامه على ما يبدو سوى الاختيار بين أن يهلك ويسلخ كالشاة بسبب سوء تقدير راع أخرق، أو أن يدفع عن نفسه القضاء بالقضاء.
قضّى وقتا طويلا وهو يمشي على جانب الطريق يفكّر في تأثير تغيّر المناخ على حياة البشر، هو يدرك أن الطبيعة يمكنها تصحيح أخطاء الجنس البشري، لكن ليس أخطاء المتعصبين المهووسين بالسلطة، هؤلاء ليسوا بشرا بعد هذا الكم الهائل من القنابل وعمليات الجنون ونهب المدينة المقصوفة. هناك درجة حرارة لا يستطيع النظام البيئي الطبيعي أن يحافظ على نفسه تحتها. لا يمكن لأي قانون طبيعي أن ينقذهم من عواقب أفعالهم الفاسدة. حرارة الأرض كانت إعلانا تحذيريا لهم ومؤشرا على تغيّرات خطيرة قادمة بسرعة متزايدة باستمرار، عندما تتبدل الأرض تتبدّل معها طبائعهم، إخلاقهم، سلوكهم، الخير فيهم والشر. لقد كانت هناك دائمًا مشكلات جمّة للتحدّي، وسوف تكون المياه أسوأ مشاكلهم التي سبواجهونها، وأمراض الجهاز التنفسي أيضا وانقراض بعض الكائنات الحية. لكن الأمر الأسوأ هو الهجرة القسرية والترحال الدائم بحثا عن الطعام، إنّهم أضعف من أن يتحمّلوا الصيف الطويل الساخن، العنف البيئي المتسارع سوف يجعل حياتهم جحيما لا يطاق، وقد لا يصمدون أمامه لأكثر من بضع سنين بعد أن اضطهدتهم الحضارة وأضعفتهم. والسؤال الذي لا إجابة عنه هو كم يتطلب من الوقت ليتكيفوا مع المخاطر التي ستأتي وتحلّ الخشونة مكان الرقّة؟ ربّما يلزمهم عشرات السنين لتعلم أسلوب البقاء على قيد الحياة جرّاء فقدان الغذاء، فهل لديهم الوقت الكافي للتعامل مع تهديد نقص الأكسجين، أكسير الحياة في الغلاف الجوي لكوكبهم الذي يزداد ندرة عاما بعد عام. وما فائدة أن تستعيد الأرض زينتها إذا ما أصبحت خالية من البشر؟
كان كل أحاسيس الباروني وأفكاره مجتمعة في وجع واحد، مثل وجع الأسنان، يسأل نفسه مرارا وتكرارا لماذا لم يطلب منه النائب أدلّة علميّة تثبت صحّة تأويله، فكّر في الأمر بتركيز، لو كان راغبا في الفهم لفعل، ولبحث معه عن طريقة مثلى لمواجهة نقص الغذاء والأكسجين دون سفر وتنقل. ضغط الشعور أبان له مصيره، أو بالأحرى المصير المشترك للنخبة المهملة في بلده التي تقاد من طرف الأغبياء الأعلى صوتا وضجيجا من صوت العلم. لن يترك مصيره بيد ذاك الجاهل. سوف يتعين عليه أن يعمل على إنقاذ نفسه بنفسه، من غير المجدي أن يتبع خطى الساسة، يجب أن يتحرك بمفرده ويفكر ويفعل من خلال تجاربه الخاصة ومعارفه. يومها، لمعت فكرة في ذهنه رعشت لها أعصابه، خطر بباله ذلك الفيضان!
أحسّ الدكتور الباروني باختناق في حلقه وهو يعيد ترتيب أفكاره. في غضون بضع دقائق، ظلت الكلمات التي كانت على شفتيه غير معلنة، لقد أخفى عن الحضور شيئا مهما، لكنّه قال: “لقد قرأنا جميعا عن قصّة الطوفان العظيم الذي تسبب في تدمير الحضارة البشريّة عقابا من الله لفساد البشر، فيضان شامل طهّر وجه الأرض، وخلّصها من أوحال الأغبياء المفسدين، حضارتنا اليوم تمرّ بنفس ظروف الحضارة الغابرة. عرضت المشكل والحل على بعض الأصدقاء فرحبوا بالفكرة وأعطوني نفوذهم وأموالهم للمساعدة. هذه المحطّة التي اخترنا لها ضواحي قرطاج لرمزيتها، هي، أيّها السّادة، سفينة نجاتنا، وأنتم النخبة الناجية نواة حياة الجنس البشري بعد طوفان هذا العصر، واستمرار وجوده على الأرض.”
ساد سكون كأنّه الموت، صدمهم الخبر، ثمّ علا الضجيج. ” لكن كل شيء يبدو على ما يرام، دكتور، فهل هذه كذبة أخرى؟” صرخ شخص من بعيد، صرخة تلاشت في ضجيج الأحاديث الجانبية والهمهمات التي سرت بين الجميع.
—————–
(*) فصل من رواية “يوم تبدلت الأرض”