يشير مؤلف كتاب ” الشرق ملحمة العشق الاستشراقي ” عبد الرحمن مظهر الهلوش الى أن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قد شهدا تدفقا غربيا تجاه الشرق العربي بلغ حد الهوس بكل ما هو شرقي ، من خلال هجرة المغامرين والرحالة والرسامين الى ولايات الإمبراطورية العثمانية ، خصوصا بلدان المغرب العربي وبلاد الشام والعراق .
أطلق على هذه الهجرة فيما بعد ( الاستشراق ) الذي اقترن في الكثير من مظاهره بالسيطرة والمعرفة والمغامرة والرومانسية ، وإذا كانت ظاهرة تزايد الرحالة الغربيين من اهم معطيات عصر الثورة الصناعية فإنها افرزت كذلك نوعين من العاملين في الاستشراق هما :
المرتحلون انفسهم وهم الذين يكتبون التقارير ، الأكاديميون الذين يجمعون تقارير الرحالة على سبيل التحليل والدراسة للخروج بتنظيرات وخلاصات فكرية ، بيد ان ظاهرة الارتحال الى الشرق والانغمار بأعماقه كانت تبدو للجمهور الأوروبي عملية مثيرة ، بسبب الصعوبات والمخاطر التي يواجهها الرحالة المغامر الذي يأخذ على عاتقه مهمة تعريف القارئ على عالم مختلف ، عالم منفلت من شريط الزمن ، ومن رتابة ذبذبة الماكنة في المدنية الصناعية .
ولا يعني مصطلح ( المؤسسة الاستشراقية ) بالضرورة ان يكون مؤسسة استعمارية عبر تفريغها من مضمونها العلمي والمعرفي والحضاري ، صحيح ان هذه الحركة لم تخل مطلقا من التحيزات الأيديولوجية والتدخلات السياسية ، وخدمة الاجندات الاستعمارية ، لكن في المقابل من ذلك ثمة جهود استشراقية جبارة أسهمت في بعث واحياء التراث العربي الإسلامي ، مثلما أسهمت في مسار النهضة العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة ، وإن لم يحل ذلك دون تعرضهما للمدح والثناء حينا ، والنقد والهجوم أحيانا أخرى .
مراحل الاستشراق :
ويقسم المؤلف مراحل الاستشراق الى :
• مرحلة التكوين : وهي مرحلة الانبهار بالحضارة العربية الإسلامية ، وذلك منذ بداية الفتح الإسلامي في أوربا فانشؤوا مكتب المترجمين سنة 1130 م وترجموا أمهات الكتب العربية الى اللاتينية ، كما أن الراهب الإنجليزي ” هرمان ” قد قام بترجمة القرآن الكريم لأول مرة سنة 1143م ولخوف الكنيسة من تأثر اتباعها بتعاليم القرآن اخفت هذه الترجمة فلم تظهر الا في عام 1534 م
• مرحلة التقدم : وذلك بعد الحروب الصليبية ، حيث لم تؤت ثمارها الاستعمارية المرجوة منها ، فبدأوا يفكرون في غزو المسلمين فكريا ، لزحزحتهم عن عقيدتهم الراسخة .
• مرحلة الانطلاق : شهد القرن السادس عشر والسابع عشر ازدهارا كبيرا للاستشراق في النواحي العلمية والدراسية المتخصصة ، ومع بداية القرن العشرين ، حيث بدأ العالم العربي في الاستقلال ، بدأت حركة الاستشراق تغوص في أعماق الفكر والأدب الإسلامي ، وانتقل المستشرقون من الهجوم المباشر على الإسلام الى الهجوم المستتر الخفي .
السمات المشتركة للاستشراق :
ويحدد المؤلف السمات المشتركة للاستشراق ويحددها ب :
أولاً : ولد الاستشراق في أحضان الاندلس والتقاء الغرب بالشرق في الحروب الصليبية
ثانياً : عاش قرونا في كنف الأيديولوجية الغربية ، ولعب دورا في بناء نظرية الأيديولوجية الاستعمارية ، ومهد لها سبيل استعمار الشرق عسكريا وسياسيا وفكريا
ثالثاً: كان هناك اهتمام من قبل الدوائر المعنية بالاستشراق والمستشرقين بإنشاء معاهد وجمعيات وأكاديميات متخصصة ، وعقد مؤتمرات ، ونشر مجلات ودوريات متخصصة في مجال الاستشراق ،وقد انصب الاهتمام بالعالم الإسلامي بشكل واضح في منطقة الشرق الأوسط
رابعاً : يقوم الاستشراق على أسلوب خاص في التفكير ،ينبني على تفرقة أساسية بين الشرق والغرب ، وقد تميزت الظاهرة الاستشراقية بأنها ظاهرة مستغلة باسم العلم بواسطة قوى دينية وسياسية واقتصادية وفكرية
خامساً : ويوصف الاستشراق بانه ظاهرة فريدة من نوعها ، وليس لها مقابل في الحضارات الأخرى .
يرى كثير من الباحثين بأن الفرنسي ( جيراردي اورلياك ) هو اول من استشرق
يرى أردواد سعيد صاحب كتاب ” الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق ” أن الاستشراق ” نمط من الاسقاط الغربي على الشرق ، إرادة السيطرة عليه ”
أشهر الشخصيات الاستشراقية :
يذكر المؤلف عددا من المستشرقين وفي مقدمتهم المجري اليهودي ” جولد زيهر ” وهو صاحب كتاب ” تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي ” أما عن جولد زيهر نفسه فإنه يعد من ابرز الخصوم الألداء للاسلام ، ثم يأتي المستشرق الأمريكي المتطرف والعنصري ” جون ما ينارد ” وكذلك المستشرق ” آجي فينسينك” ومن ثم المستشرق الإنجليزي المتعصب ” مرجليوث ” وكان له تأثير على عدد من أدباء الشرق ليأتي المستشرق الفرنسي ” بارون كارادي فو ” وهو من كبار محرري دائرة المعارف الإسلامية في ذلك الوقت ، وهناك أيضا المستشرق صمويل زويمر وهو من ابرز المستشرقين الأمريكيين الذين خاضوا عملا ميدانياً في منطقة الشرق الأوسط خاصة جنوب العراق ، ودول الخليج العربية ، وهو المحرر للمجلة الإنجليزية الاستشراقية الشهيرة ( عالم الإسلام ) وقد اشتهر بدوره الاستعماري وعدائه الشديد للاسلام ، وله مؤلفات عديدة عن الإسلام في العالم ، وعن العلاقات بين المسيحية والإسلام منها كتاب ” يسوع في احياء الغزالي ” وكتابه ” الإسلام تحد لعقيدة ” ، وكان العديد من المستشرقين ومنهم وليم مونتغمري واط وكينيث كراغ وبرنارد لويس وبي . ام هولت ، وجون وانسبوروخ – ما يزالون يتحدثون عن الأصول اليهودية والمسيحية للإسلام ، وقليل منهم يتجشمون العناء في تبيان وجهة النظر الإسلامية .
وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت ثلاثة أجيال من المستشرقين : جيل 1945-1960-، وجيل 1960-1990، والجيل الحالي 1990- 2017
وهذه الأجيال الثلاثة المذكورة بشكل تقريبي القت اضاءات كبيرة على التراث العربي الإسلامي وتحديدا على الدراسات القرآنية والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بشكل عام بدءا من الفتوحات وحتى يومنا هذا ، نذكر من بين اقطاب الاستشراق في هذه المرحلة مونتغمري واط ، وريجيس بلاشير ، وهنري كوريان ، وهنري لاوست ، ووجاك بيرك ، وكلود كاهين ، وروجيه أرنالديز ، وجورج مقدسي ، ومكسيم رودنسون ، وبرنارد لويس ، ومن تلاهم كجون وانزبروف ، وجوزف فان ايس وميكائيل كوك ، وباتريسا كراون ، وانجيليكا نويفرت ، وجاكلين شابي ، وكلود جيليليو ، وجيروردي بوين ، وتيلمان ناجيل ، وعشرات اخرون .
ومن أهم الأعمال الاستشراقية الجماعية الصادرة عن هذه الأجيال نذكر : ” الموسوعة الإسلامية ” في طبعتها الثانية ، وهي تمثل العلم الاستشراقي بالمعنى الرصين والدقيق للكلمة .
الفن الاستشراقي : مضى الفنانون الغربيون في تصوير الشرق ونسائه بالأخص ، وتمثلت بجموح خيالاتهم عبر صور ايروتيكية وبنبرة استفزازية
كما ان طقوس الطريقة المولوية ودراويشها قد اثارت الفنانين التشكيلين العرب والأجانب ، برصدها في العديد من الاعمال الفنية المسطحة ( الرسوم واللوحات ) ومن هنا ظهر مصطلح الفن الاستشراقي .
الكتاب غني بالمعلومات التاريخية المفيدة، وهو جدير بالقراءة والاهتمام والمتابعة .