
يوسف المساني باحث ومهتم بأكثر من شغف واهتمام يجمع بين الفن والبحث والإعلام
ـ باحث في التاريخ وعلوم الآثار والتراث، يتابع دراساته في سلك الدكتوراه حول السجون في بلاد المغرب، ضمن مختبر “الاختلافات الاجتماعية والأنثروبولوجية والهويات الاجتماعية”، وحاصل على الماستر في “التاريخ، وعلوم الآثار والتراث”.
ـ معد برامج وثائقية، سيناريست، كاتب مقالات رأي وتقارير صحفية.
ـ يهتم بالبحث الأثري والتاريخي، وبالحقوق الثقافية، وقضايا السجون تاريخا وعمارة وأنثربولوجيا، إضافة إلى الحقوق الثقافية.
ـ يعمل حاليا على إعداد بعض الأفلام الوثائقية والأفلام القصيرة
له العديد من الدراسات والمقالات الأكاديمية المحكمة،إضافة إلى عشرات المقالات المنشورة في منابر إعلامية وطنية وعربية، وعشرات الحوارات الصحفية والتلفزيونية .
وبمناسبة صدور كتابه تحولات المركز والهامش : أوروبا الوسيطية في المصادر الإسلامية عن دار النابغة للنشر والتوزيع بمصر كان لنا معه الحوار التالي للاقتراب أكثر من الكتاب وعالمه وأسئلته .
س 1 : قبل كل شيء نرحب ذ يوسف المساتي على قبول الدعوة لهذا الحوار ونهنئك على صدور كتابك “تحولات المركز والهامش أوربا الوسيطية في المصادر الإسلامية ما الذي تعالجنونه في الكتاب؟ وما هي الأطروحة المركزية التي يعبر عنها الكتاب ؟
أولا أشكركم على الاستضافة، وعلى التطرق لهذا الكتاب الصادر حديثا،الذي يعالج تمثلات وصورة أوروبا خلال العصور الوسطى كما وردت في المصادر الإسلامية، سواء الجغرافية أو التاريخية أو الأدبية. إذ سعى العمل إلى تفكيك فكرة “المركزية الأوروبية” السائدة في السرد التاريخي، وإبراز أن صورتها لم تكن ثابتة أو نمطية في المخيال الإسلامي، بل خضعت لتحولات عبر الزمن، بما فيها المجال الجغرافي.فقدكانت ثمة صعوبات كثيرة في مطابقة السردية الجغرافية والثقافية الوسيطية مع التصورات الحالية.
على سبيل المثال، عند مقارنة صورة أوروبا في مصادر القرن الخامس الهجري (كالبكري مثلا) بالمصادر المتأخرة (كابن خلدون) قد يتولد لدينا انطباع بأننا أمام مجالات جغرافية وثقافية متباينة ومختلفة.وهذا التباين ليس مجرد اختلاف في الوصف، بل يعكس تحولات موازين القوة والمركز والهامش، وطبيعة التفاعلات الحضارية بين المجالين، وكيف يشكل كل منهما هويته وهوية الآخر على ضوء التاريخ وعبر مرآة الآخر.
بعبارة أخرى، أن المركز والهامش ليسا مفهومين جامدين، بل يخضعان لإعادة تشكيل مستمرة حسب معطيات كل مرحلة تاريخية.
ولتحقيق هذا الغرض، اشتغلت على المصادر الإسلامية بشكل أساسي، وقمت بتنويع المصادر بين كتب التاريخ العام والرحلات والتفسير والفقه والفلسفة، كما حاولت أن أعكس حتى التباينات المذهبية (المعتزلة، السنة، الشيعة …الخ) وذلك من أجل فهم أكبر لصور أوروبا في هذا المصادر المختلفة.
س 2 : لماذا اختيار أوروبا كموضوع للدراسة والعصر الوسيط كحقبة زمنية ؟ هل الأمر جاء صدفة أم بناء على حركية هذه الحقبة التاريخية من حيث الأحداث التي عرفتها ؟
لم يكن اختيار أوروبا كموضوع للدراسة، والعصر الوسيط كإطار زمني، اختيارًا عشوائيًا، بل جاء نتيجة لعدة عوامل. أولها أنني، عند قراءتي لكتاب جاك لوغوف”هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟”، شعرت وكأنني أمام محاولة لإعادة كتابة أو تأسيس سردية تاريخية تهدف إلى إضفاء المشروعية على أوروبا المعاصرة. وهذا دفعني للتساؤل: إذا كانت أوروبا تعيد تشكيل ماضيها وفقًا لحاجاتها الراهنة، فكيف كانت تُرى من منظور المصادر الإسلامية الوسيطية التي لم تكن مُلزَمة بتبني السردية الأوروبية عن نفسها؟ ومن هنا نشأت الفكرة.
ثانيًا، استوقفني طرح جاك لوغوف لمفهوم التقابل، حيث يرى أن الشرق مثّل، بطريقة ما، مرآة للغرب. ومن هنا تساءلت: ماذا لو قلبنا هذه المرآة؟ كيف كانت صورة أوروبا (الغرب) تتشكل في الوعي الإسلامي الوسيطي؟
إضافة إلى ذلك، تميز العصر الوسيط بتحولات كبرى في العلاقة بين العالم الإسلامي وأوروبا، حيث شهد أشكالًا متنوعة من التفاعل الحضاري، سواء عبر الصدام العسكري، كما في الحروب الصليبية وحروب الاسترداد في الأندلس، أو من خلال التفاعل الثقافي، كما في حركة الترجمة والتبادل التجاري.
وأخيرًا، في حين أن السردية الغربية كثيرًا ما تُهَمِّش دور العالم الإسلامي، والسردية الإسلامية بدورها تُقلل من تأثير الغرب، فقد بدا لي أن الحل هو محاولة اكتشاف أوروبا كما رآها التراث الإسلامي، مع التركيز على البعد الثقافي والجغرافي، بدلًا من الاقتصار على التحليل السياسي أو المعرفي، الذي طغى على معظم الدراسات. كان السؤال الذي شغلني هو: أين تبدأ أوروبا وأين تنتهي في المخيال الإسلامي؟ هل كانت لها حدود جغرافية واضحة، أم أن تصورها ظل متغيرًا عبر الزمن؟”
إن اختيار هذا الموضوع، يهدف إلى التحذير من تكرار النمط الأحادي في كتابة التاريخ، من خلال كتابة تاريخ متعدد المراكز والهوامش، متشابك السرديات.
3 : اشتغالك على المصادر والمراجع الإسلامية هل بحث عن نقد للرؤية الاستعلائية الأوروبية وسرديتها التاريخية للتاريخ حيث تعتبر نفسها مركزا والباقي مجرد هامش يجب أن يدور حول هذا المركز ؟
إلى حد كبير، نعم، فلقد دأبت الدراسات الاستشراقية الأوروبية على النظر إلى الشرق والعالم الإسلامي بعيون غربية، مما أسس لرؤية سكولارية يصعب تجاوزها، حتى في بعض الأطروحات الناقدة للكولونيالية. من هنا جاءت فكرة العودة إلى المصادر التراثية، ليس بدافع التقديس أو الانتصار للذات في مقابل الآخر، بل لفهم طبيعة حضور هذا الآخر في المخيال الإسلامي، ومستويات تمثله، وما يكشفه ذلك عن العلاقة بين الطرفين، بل وحتى عن تمثلات العالم الإسلامي لذاته.
لهذا، خصصتُ الفصل الأول لدراسة تطور الجغرافيا الإسلامية وصورة الأرض، حيث لاحظت أن الجغرافيا لم تكن مجرد علم تجريدي، بل كانت مرتبطة بتحولات العالم الإسلامي، وموجهة إلى حد كبير بحاجات السلطة وانعكاسات رغباتها، كما أن المعرفة الجغرافية كانت متداخلة مع الفلسفة والدين، مما جعلها جزءً من نظام معرفي أشمل تؤطره أسئلة المرحلة التاريخية.
عند الانتقال إلى تمثلات أوروبا، وجدتُ أن صورتها في المصادر الإسلامية غالبًا ما كانت انعكاسًا لما تمر به المجتمعات الإسلامية نفسها. فمثلًا، صورة أثينا واليونان لم تكن جغرافية بقدر ما كانت ثقافية، وحضورها في المصادر الإسلامية كان متأثرا بطبيعة السجالات السائدة آنذاك، فالمنتمون إلى حقل العلوم الفلسفية أو المنطقية انتصروا لأثينا واليونان واعتبروا أن فلاسفتهم واجهوا الوثنية وأنهم أهل حق، بينما اعتبر الفقهاء (كابن تيمية مثلا) أن أثينا وبلاد اليونان كانت معقلا للضلال والكفر وأن الله أبادهم وأغرقهم.
من الأمثلة الأخرى ما ارتبط بالمجال، فخلال البحث عن اللغة اللاتينية، اصطدمت بغياب الإشارة إليها في المجالات الجغرافية التي يفترض أنها كانت لاتينية، وباعتبار أن العالم الإسلامي قد احتك باللاتينية خلال فترة الحروب الصليبية وما قبلها، فكيف نفسر هذا الغياب؟ولماذا ارتبط الحرف اللاتيني في المخيال الجغرافي الإسلامي بشمال إفريقيا بدلًا من أوروبا؟ هذه الأسئلة، وغيرها، دفعتني إلى البحث في كيفية تشكل السرديات الجغرافية والثقافية في المصادر الإسلامية. وقد أوردت أمثلة عديدة عن هذا في مباحث الكتاب.
بالتالي، لم يكن الهدف فقط البحث في صورة أوروبا كهامش في السردية الإسلامية، بل أيضًا تفكيك الرؤية الأحادية التي تحصر العلاقة بين العالمين في ثنائية المركز والهامش، والسعي إلى إعادة قراءتها من منظور أكثر توازنًا.
س 4 : في نظرك إلى أي حد استطاعت الدراسات التاريخية العربية والمغربية إنتاج رؤية خاصة للتاريخ الأوروبي بعيدا عن الانبهار بالآخر والتبعية له ؟
للأسف، هناك جهود مشكورة، لكنها ما زالت محدودة. الدراسات العربية حول تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لا تزال قليلة مقارنةً بالدراسات الغربية عن العالم الإسلامي. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الجزء الأكبر من الدراسات العربية حول أوروبا على مراجع غربية وتوظيف مناهج وأطر نظرية غربية، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس السرديات ولكن بلغة عربية.
ومع ذلك، بدأت تظهر أبحاث نقدية تسعى لإعادة قراءة التاريخ الأوروبي من خلال المصادر الإسلامية أو باستخدام منهجيات ما بعد كولونيالية، وأتمنى أن يكون كتابي جزءً من هذا الاتجاه. لكن يجب أن نقر بأنه لحد الآن لم يتم بعد الوصول إلى بناء رؤية متكاملة للتاريخ الأوروبي بعيدة عن تأثيرات الاستشراق أو الانبهار بالغرب، أو حتى الهجوم عليه وربطه بسياقات تاريخية لاحقة، مثل المرحلة الاستعمارية.
وأنا هنا لا أدعو إلى نبذ المناهج والأطر الغربية، بل إلى ضرورة مساءلة المنطلقات والبديهيات التي تقدمها هذه المناهج، والتي غالبا ما تكون نتائجها ضمنا في مقدماتها، فالهدف هو تفكيك المعرفة الأوروبية عن الشرق، والمعرفة الإسلامية عن الغرب، وهذا ما أسعى إليه في هذا الكتاب، الذي أراه بداية فقط أو محاولة أولية.
س 5 : كيف ترى مستقبل هذه الدراسات التي تتناول أوربا في مختلف أوجها؟ وما الذي يمكن أن تضيفه أكاديمية وعلميا ومعرفيا للبحث التاريخي المغربي بالخصوص ؟
أعتقد أن هناك إمكانيات كبيرة لتطوير هذا المجال، خاصة أنه لا زال غير مكتشف بشكل كامل، وإذا تم توسيع نطاق البحث وتنوعت وسائل وأسس المقاربة، فإن ذلك قد يؤدي إلى نتائج مهمة، يمكن أن تعيد تشكيل السرديات التاريخية الكبيرة، وتحدث تحولات نوعية في مفاهيم المركز والهامش والشرق والغرب … وغيرها.
على المستوى الأكاديمي، يمكن أن تسهم في فهم كيفية تشكل الهويات الثقافية والجغرافية، ومناطق التلاقي والاختلاف بين الثقافات والمجالات الجغرافية، كما يمكن أن تسهم في إعادة تصحيح التاريخ ورد الاعتبار للمهمش والمغيب في السرديات الكبرى.
كلمة آخيرة:
أشكر لكم هذا الحوار الذي أتاح لي فرصة توضيح بعض الأفكار حول كتابي، وإن كان من الصعب اختزال كل أفكاره، إلا أنني اعتبره مجرد بذرة تحتاج إلى تطوير وتعميق ونقد وتصحيح، ما دفعني في البداية هو قناعتي بأننا في حاجة ملحة لمراجعة الكثير من المسلمات والبديهيات التي تحكم فهمنا للتاريخ، سواء الأوروبي أو الإسلامي، ووضعها على محك النقد والمساءلة واختبار مدى صدقيتها وقوتها. فالتاريخ ليس مجرد وقائع جامدة، بل هو سرديات متحركة، تستدعي عمليات مستمرة من إعادة القراءة والفهم والتأويل والتفكيك.