
– لقد كفانا أحد الشعراء ردّا عليهم يا صديقي: “خذوا عيني شوفوا بها “، لأن الآخرين عُميٌ عمّا يرى الحبيب في حبيبته، فلا تكتمل متعة الجسد إلا إذا اكتملت قَبلها متعة البصر، ولكل من الفيزياء والكيمياء ارتباطات دقيقة بالموضوع، علاقات تجمع بين البصر والأذن وحاسّة الشم من جهة، “والأذن تعشق قبل العين أحيانا. ” وبين الإفرازات المؤثرة على الجهاز العصبي من جهة ثانية، فأكثر المحبّين جنّوا وكثيرٌ منهم انتحروا، لذلك يجب أن يتقدّم العقل على العواطف وحوار الجسد، من العيب أن يكون الكلب أفقه منّا في تناول أنواع الروائح!
تأوّهْتُ بصوت جارف:
– آه لو تعِيرني يا ابن الهيثم بصرَك ساعة واحدة لأفقه الحياة من حولي، آه لو تفعل ذلك فتمنحني فرصة لأصبح شخصا مهمّا!
ضحك دافينشي وأخبرني بأنه يمكنني سماع صوت كل شيء جميل حتى وإن كان صامتا، نبّهني إلى ذلك ثم تناول قلما وراح يرسم شيئا ما على ورقة مهملة، يرسم ويتحدث في آن واحد:
– الكثيرون مقتنعون بأن الموناليزا أجمل جميلات العالم بالقدر الذي منحتها إيّاه، وسرعان ما يناقضون أنفسهم بادعائهم أني رسمت نفسي على أساس رغبتي في أن أكون امرأة، مع أن الرجل لا يمكن أن يكون جميلا جمال المرأة مهما تنكر بجسدها وأزيائها، الفحول من الرجال يعرفون هذه النظرية جيّدا، ولو كانت هذه الرغبة فعلا متوفرة لبترتُ من جسدي ما أعتبرها أجهزة زائدة وانضممت طواعية إلى مجموعة أوبرا الكاستراتو. المضحك أن بعضهم يقول بأني خائن لصديقي زوجها، لكن الذي لا يعرفه الجميع هو أني رسمت الموناليزا متمنّيا لو كانت زوجتي أو أمّي أو على الأقل أختي، ولذلك انغمسَت فيها وتوغّلت دون أن أدري فرسمتها خلطة من كل هذه الهالات، يعني “كوكتال” من النساء ذوات القربى العائلية المتنوعة، ولهذا السبب اندفع نحوها الرجال والنساء بمختلف الأعمار وأحبّوها؟
وهكذا أيضا كنت واحدا من تلاميذ السيّد المسيح كلما جالستهم في لوحة العشاء الأخير، فعلت ذلك دحضا لحكمهم علي بأني طفل غير شرعي، وفنيّا صرت أرى شرعيتي في حرّيتي وتفكيري ونبوغي، فعرفت من أسرار الحياة ما لا يعرفون وقد وقف الرّب إلى جانبي، لأن أبي مسح خطيئته على ثوب أمّي ومضى إلى الكنيسة حيث صكوك الغفران على “قفا مَن يشيل “، دعنا منه ومن أمثاله فقد ضيّعوا على أنفسهم الحياة الأروع.
– ويحك يا دافينشي لقد صرّحت بأن الموناليزا ليست جميلة جدّا، ألا تخشى بعد ذلك أن تتدنّى قيمتها في العالم؟
– ههههه السّحر في المرأة ألّا تكون جميلة جدّا يا صديقي، بل أن يكون فيها شيء جميل، والأروع أن يكون غامضا، تتحسّسه وكلّما حاولت التساؤل حوله تعاظم أكثر، إنه يشبه الماء المعدني الساخن حين يبدو لك ساخنا من الوهلة الأولى، فإذا غطست فيه وهدأت برُد حولك، وإذا تحرّكت داخله لسعتك حرارته، هو ذا السحر الذي جعل الموناليزا أغلى لوحة في العالم، غير أنهم يخفون عجزهم عن إدراك هذا السحر بقولهم جميلة جدّا وكفى، كخوفهم من دخول ذلك الماء السّاخن بالضبط، كذلك هي الموناليزا تدعوك إلى الغوص فيها، وتهمس إليك بتأجيل البحث عن سحرها، فإذا أمعنت النظر فيها شعرت بأنها تحذّرك من أن تتحرك، وهكذا تستفزّك لتنظر إليها كل مرة في لعبة بصرية أبدية، بهذا السحر تعلّمك كيف تُقبِل على الحياة وكيف تتناولها وتجعلها تتناولك!
وابن الهيثم يضحك عليْ رحت أتوسل إلى دافينشي:
– علمني كيف أعثر على هذا السحر في المرأة يا دافينشي أرجوك.
– ههههه حتّى أنا لم أتمكن من معرفته، وقبل أن أموت جزمت بأنني أتعبت نفسي دون جدوى، ثم تأكدت ألّا أحد يمكنه أن يدرك هذا السّر، وسيظل غامضا حتى يرث الله اللّوحة والأرض وكل مَن عليها.
– حتى أنت يا دافينشي؟
– نعم حتى أنا!
– إذن فأنت غبي مثلنا يا صديقي ههههه.
كان ابن الهيثم يضحك طوال حوارنا:
– ههههه بل الغبي من يعتقد أنه قد وجد هذا السّر، لأنه بذلك يقضي في لحظة واحدة على ارتباطه بمن يحب، وبالتالي يكون قد جنى على نفسه حين وضع حدّا لعلاقته بأي موضوع جميل، الأكيد أن الله أخفى كثيرا من أسراره حتى يجعلنا نتمسك بالحياة، ونتعلم كيف نبحث بها عن الجنة ذلك السر الأعظم، إن السر الذي يشدّنا في المرأة ما هو إلّا تمرين بسيط، لكننا في النهاية ننكب على ما يبدو ظاهرا ونؤجل البحث، وهكذا تتواصل تسلية الله.
– ما أعنيه يا دافينشي أنك تمكنت من حشو لوحة الموناليزا بكل ما يصبو إليه الرجل من افتراضات جمالية في المرأة ولم تَحرِم أحدا مما يتوق إليه فيها. جعلتها وصفة جمالية تتطابق مع كل علل العشاق وأمراضهم، كنت قبل ذلك أعتبر المسألة مادية بمثل ما حدث بين قابيل وهابيل.
– المرأة يا صديقي تشبه الأرض فكلاهما مصدر للفاكهة، فالله يعاقب المتحايل ويحبس قلبه في غشاوة مدمّرة، ثم لا يفقد ذلك السر وحسب، بل يفقد حتى الجماليات الظاهرة في النساء وفي الطبيعة وفي كل شيء جميل، ويظل على هذه الحال حتى يجد نفسه كالأنعام وأحيانا أضل، وقد يموت بسبب جوع آخر غير ذلك الجوع المُتعارف عليه، إنه جوع الشعور بالحياة من حوله، وقد يعجّل إبليس بفنائه فيدفع به إلى الانتحار لأنه لم يحسن حواره مع المواضيع الجميلة.
هل تريد أن تقنعني يا ابن الهيثم بأن الموناليزا مانعة للانتحار؟
– لا أقصد بهذا المعنى الموناليزا تحديدا، بل أقصد كل امرأة طيبة وعفوية تتقن الحب والتضحية، تتفنّن في البذل والعطاء كما تفعل الأرض بالضبط، فهي بذلك تتوفّر على هذا السّر المنقذ من الجوع والعطش والموت والجنون والشذوذ، حتى وإن كانت هذه المرأة قبيحة فلا يمنعها ذلك من أن تكون جميلة الجمال الذي أقصده، لأنه لا بد وأن هناك من يتحسّس فيها ذلك السّر ويجذبه إليها، وهكذا يستصلحها وينجب معها فاكهة وزرعا وخيرات كثيرة، وكلما عاشرها أكثر زاد حرصه بحثا عن ذلك السّر، يظل يبحث حتى يدرك أحدهما الأجل أو كلاهما.
أُعجب دافينشي كثيرا بقول ابن الهيثم:
– صحيح ما قلته يا صديقي، فمن سيطرت عليه تجربة عاطفية وجعل كلما تذكّرها شعر بالبؤس فله أن يجلس لمدة ساعة أمام الموناليزا، ليكتشف أن المرأة التي توهّم أنه فشل في الارتباط بها إنما كان سرّها لرجل غيره، فإذا فعل ذلك باهتمام نام كالطفل على وقع ملامح الموناليزا ثم استيقظ ناسيا كل شيء، فالمرأة لا يجب أن نسهر الليل نخطط للوصول إليها كما يفعل اللّصوص لأنها لا تشبه مغارة علي بابا.
إنه الموضوع الوحيد الذي لا نستطيع الحصول عليه إلاّ بالصدق والعفوية والبساطة، وقد تكون الموناليزا بمثابة سوبر ماركت زاخرة رفوفها بجميع مقتنيات عشاق المرأة، فهي تعوّضهم ما حُرموا منه في الدكاكين الصغيرة، أو فقدوه في غمار تجارب سابقة، فالموناليز إذن وصفة إنسانية طبيعية لا تحتوي على مؤثرات جانبية سيئة، كالتي تحتويها وصفة لوكريشيا دوناتي أو مارلين مونرو أو تلك المطربة صاحبة الغمزة الشهيرة.
– أتريد أن تقول يا دافينشي أن الموناليزا مهدئ عاطفي!
– هو ذا ما قصدته بالضبط، فهذه اللّوحة رمزية لعلاقة زوجية أبدية مقدسة هادئة، العلاقة التي يُفترض أن كل إنسان سوي يتمنى أن يسكن إليها مدى الحياة، وليست تلك التي يتعاطاها خفية كالممنوعات، أو عَلَنا كارتباط اجتماعي حتمي لا يرتكز أساسُه إلّا على الوثائق المدنية، ولا نتحدث عن المقتنعين بعمومية استهلاك الجسد، فهؤلاء عندما تجاوزوا الحياء من الرّب صار لم يعد لديهم شيء يخفونه من أعضائهم، ذلك لأنهم اقتنعوا بأن السّر المقصود محصور في الجسد، وفي ما يمكن أن يبذله من أوضاع جنسية ولاشيء غير ذلك.
لا تدري يا صديقي كم كنتُ سعيدا عندما أنهيت رسم الموناليزا، فقد شعرت بأني نجحت في إظهار ما كان أبي يواريه عن الكنيسة، فعندما رفض أن يُدمِج أمّي في العائلة قرّرت أن أجعلها موجودة في قلب كل فرد في العالم، أبي كان نموذجا صارخا لتلك العبثية الجسدية السّائدة، فالرجل إذا بحث عن نقطة الجذب في المرأة على خريطة الجسد، صارت قبيحة بسبب ما تركته الخطيئة من أثر في روحه، فالموناليزا تقنعك أن منبع الجذب هو الروح، أمّا الجسد فهو تحصيل حاصل، ومكمل لحالة التآلف العاطفي، فكل الذين ارتبطوا بزوجاتهم حتى الشيخوخة إنما ظلوا يبحثون عن موطن الجذب في أرواحهن طوال حياتهم، ثم لم يأبهوا بأنفسهم حتى شاخوا ثم ماتوا.
هذا هو الزّواج المثالي عند الأسوياء وأصفياء الأرواح، فالعلاقة الزّوجية المقدّسة الأبدية ليس لها علاقة بلغة الجمال ولا بخريطة الجسد، مريم العذراء لم تكن جميلة ذلك الجمال المتفق عليه بين مدمني الفاحشة، فلقطات المرأة الفاتنة وإن كانت ساحرة ومثيرة فلا عمر لها، الموناليزا بعيدة أيضا عن هذا الجمال الهندسي الذي مكّن أكثر النساء من السيطرة على مسابقات أجمل وجه امرأة في العالم، الجمال الحقيقي يا صديقي هو الذي يمنحك وجدانا إنسانيا عميقا صادقا ومستمرا، وليس ذلك المرتبط بالمال والشهرة كعارضات الأزياء وبطلات أفلام الجنس.